أجمل ما كتب بدر شاكر السياب

كتابة:
أجمل ما كتب بدر شاكر السياب

قصائد بدر شاكر السياب عن الحب

كتب الشّاعر العراقيّ بدر شاكر السيّاب الكثير من القصائد في العصر الحديث، والتي نُشرت في ديوانه المقسوم إلى جزأين، وجُمع في هذا الديوان الكثير من القصائد الطويلة، كما يُذكر وجود قصائد أخرى لم تُنشر له، فالسيّاب شاعرٌ من أشد الشعراء فيضًا للشعر الحر، وأغناهم تعبيرًا عن خلجات نفسه في شعره الوجداني، إضافة لحضور الرمز الدالّ في شعره، إذ ثمّة الكثير من القصائد الشّاهدة على ذلك، لا سيّما القصائد الخاصة بالغزل العذري والحبّ، ومنها الآتي:[١]

قصيدة: هل كان حبًّا؟

هل تُسمّينَ الذي ألقى هُيامًا؟
أَمْ جنونًا بالأماني؟ أم غرامًا؟
ما يكون الحبُّ؟ نَوْحًا وابتسامًا؟
أم خُفوقَ الأضلعِ الحَرّى، إذا حانَ التلاقي
بين عينينا، فأطرقتُ، فرارًا باشتياقي
عن سماءٍ لَيسَ تسقيني ، إذا ما
جئتُها مستسقيًا، إلاّ أواما
العيون الحور، لو أصبحنَ ظلًا في شرابي
جفّتِ الأقداحُ في أيدي صحابي
دون أن يَحْضَينَ حتى بالحبابِ
هيئي، يا كأسُ، من حافاتِكِ السكرى، مكانًا
تتلاقى فيه يومًا شفتانا
في خفوقٍ والتهابِ
وابتعادٍ شاعَ في آفاقهِ ظلُّ اقترابِ[٢]

قصيدة: أحبيني

كَيفَ ضَيعتُكِ في زَحمةِ أيَّامي الطَّويلة
إنَّهُ ذَنبي الذي لَنْ أغفِره
وما مِن عَادَتي نُكرانَ ماضيَّ الذي كانا
ولكنَّ كلّ من أحببتُ قبلَكِ ما أحبوني
ولا عَطَفوا عَلي، عَشقت سبعًا كن أحيانا
ترفُّ شعورهُنَّ علي، لتحمَلني إلى الصين
أغوصُ في بَحرٍ منَ الأوهامِ والوجع[٣]

قصيدة: عينان زرقاوان

عينان زرقاوان ينْعَسُ فيهما لونُ الغديرْ
أرْنُو فيَنسابُ الخَيالُ ويَنصِتُ القلبُ الكسيرْ
وأغيبُ في نَغَمٍ يَذوبُ وفي غمائِمَ مِن عبيرْ
بيضاء مِكسال التّلوِّي تَستفيقُ عَلى خَريرْ
ناءٍ يَموتُ وَقد تَثَاءَبَ كوكبُ الليل الأخيرْ
يَمضِي عَلى مَهلٍ و أسمَعُ هَمستَين وأستديرْ
فأذوبُ في عينين ينعَسُ فيهما لونُ الغَديرْ
حسناءُ يا ظلَّ الرَّبيعِ, مَللتُ أشباح الشتاءْ
سُودًا تُطلُّ مِنَ النَّوافِذِ كُلما عَبَسَ المساءْ
حسناءُ ما جدوى شبابي إن تقضَّى بالشقاءْ
هي نظرةٌ مِن مُقلَتيْكِ وبسمة تعد اللّقاءْ
ويضيءُ يومي عنْ غَدِي، وتفرُّ أَشْباح الشّتاءْ[٤]

قصيدة: الباب تقرعه الرياح

البابُ ما قرعتْه غيرُ الرِّيحِ في الليلِ العميق
البابُ ما قرعته كفُّكِ
أين كفُّك والطَّريقْ
ناءٍ بحارٌ بيننا، مدنٌ، صحارى من ظلامْ
الريحُ تحمل لي صدى القُبلات منها كالحريق
من نخلةٍ يعدو إلى أخرى ويزهو في الغمامْ
البابُ ما قرعتْه غير الريح
آهِ لعلَّ روحًا في الرِّياح
هامت تمرُّ على المرافئ أو محطاتِ القطار
لتُسائل الغرباء عني، عن غريبٍ أمسِ راح
يمشي على قَدميْن، وهو اليوم يزحفُ في انكسارِ
هي روحُ أمي هزّها الحبّ العميق،
حُب الأمومة فهي تبكي:
آه يا ولدي البعيدَ عن الديار!
ويلاه كيفَ تعودُ وحدكَ، لا دليلَ ولا رفيقْ؟[٥]

قصيدة: سوف أمضي

سوفَ أمضي
سوفَ أمضي أسمَعُ الريحَ تُناديني بعيدًا
في ظَلام الغابَةِ اللفّاء والدّربُ الطويلُ
يتمطَّى ضَجرًا والذّئبُ يَعوي والأُفولُ
يسرقُ النَّجم كما تسرقُ روحي مُقلتاكِ
اتركيني أقطعُ الليلَ وحيدًا
سوفَ أمضي فهي ما زالتْ هُناكَ
في انتظاري
سوفَ أمضي لا هديرُ السَّيل صخّابًا رهيبًا
يُغرقُ الوادي، ولا الأشباحُ تُلقيها القُبورُ
في طريقي تسألُ الليلَ إلى أين أسير
كُلُّ هذا ليسَ يُثنيني فعودي واتركيني
وَدَعيني أقطعُ الليل غريبًا
إنَّها ترنو إلى الأُفق الحزينِ
في انتظاري[٦]

قصيدة: اتبعيني

أتبَعيني
فالضُحى رانَتْ بِهِ الذكرى على شطٍّ بعيد
حَالم الأغوارِ بالنَّجمِ الوَحيد
وشِراع يتوارى واتبعيني
هَمسة في الزُرقةِ الوَسنَى وظلُّ
من جناحٍ يَضمَحِلُّ
في بَقايا ناعساتٍ من سكونِ
في بَقايا من سكونِ
في سكونِ
هذهِ الأغوارُ يَغشاها خَيالُ
هذهِ الأغوارُ لا يَسبرها إلا ملالُ
تعكسُ الأمواجَ في شبهِ انطفاءِ
لونَهُ المهجور في الشَطِّ الكئيب
في صباحٍ ومَساء
وأساطيرُ سُكارى في دروبِ
في دروبٍ أطفأ الماضي مَداها
وطَوَاها
فاتبَعيني اتبَعيني[٧]

قصيدة: سراب

بَقايا مِنَ القافلة
تُنيرُ لَها نَجمةٌ آفلة
طَريقَ الفَناءْ
وتُؤنسها بالغناءْ
شِفاهٌ ظِماءْ
تهاويلَ مرسومةً في السراب
تُمزِّقُ عنها النقاب
عَلى نظرةٍ ذَاهلة
وشوق يُذيب الحُدود
ظِلالٌ على صَفحةٍ باردة
تُحرِّكُها قبضةٌ مَاردة
وتَدفَعُها غِنوةٌ بَاكية
إلى الهاوِيَة
ظِلالٌ على سُلَّمٍ من لَهيب
رَمى في الفَراغِ الرهيب
مراتبة البالية
وأرخَى على الهاوية
قناعَ الوجود
سنَمضي ويبقَى السَّراب
وظِلُّ الشِفاه الظماء
يُهوِّمُ خَلف النِّقاب
وتمشي الظِلال البِطَاء
على وَقعِ أقدامكِ العارية
إلى ظُلمةِ الهاوية
وننسى على قِمةِ السُّلَّمِ
هَوانا فلا تحلُمي
بأنَّا نعود.

قصيدة: أساطير

أساطير من حشرجات الزمان
نسيجُ اليد البالية
رواها ظلامٌ من الهاوية
وغنَّى بها ميِّتَان
أساطيرُ كالبِيد ماجَ السراب
عليها وشقَّتْ بقايا شِهاب
وأبصرتُ فيها بريقَ النُّضَار
يُلاقي سدًى مِن ظِلال الرغيف
وأبصرتُني والستارُ الكثيفُ
يُواريكِ عني فضاع انتظار
وخابت مُنًى وانتهى عاشقان
أساطيرُ مثل المُدى القاسيات
تَلاوينُها من دم البائسين
فكمْ أَومضَت في عيون الطغاة
بما حُمِّلَتْ من غبار السنين
يقولون: وحيُ السّماء
فلو يسمعُ الأنبياء
لما قَهقَهَتْ ظُلمة الهاوية
بأسطورةٍ بالية
تجرُّ القرون
بمركبةٍ من لظًى، في جنون
لظًى كالجنون[٨]

قصيدة: دار جدي

مطفأةٌ هِيَ النوافِذ الكثار
وبابُ جدّي موصَدٌ و بَيته انتِظار
وأطرُقُ البَابَ فمن يُجيب يفتحُ؟
تُجيبني الطفولة الشَّباب مُنذ صار
تُجيبني الجِرار جفَّ ماؤُها فَليس تنضح
بويب غيرَ أنَّها تُذرذرُ الغبار
مُطفأةٌ هي الشموس فيهِ و النُّجوم
الحُقب الثَلاث مُنذ أنْ خَفقتُ للحياة
في بيتِ جدِّي ازدحمنَ فيهِ كالغُيوم
تَختصِرُ البِحار في خُدودهِنَّ و المياه
فنَحنُ لا نلمّ بالرَّدى من القبور
فأوجُه العجائِز
أفصَح في الحديثِ عَن مناجِل العُصور
مِن القُبور فيه و الجَنائِز
وحينَ تَقفزُ البِيوت من بُناتها
وسَاكيِنها من أغانيها ومن شكاتها
نَحِسُ كيفَ يُسحقُ الزَّمان إذ يَدور
أأشتهيكِ يا حِجارةَ الجِدار يا بَلاط يا حَديد يا طلاء
أأشتهي التقاءكنَّ مثلمَا انتهى إلي فيه؟
أم الصّبا صبايَ و الطُّفولة اللَّعوب و الهَناء
وهلْ بَكيت أن تضعضع البِناء
و أقفر الفناء أم بَكيت ساكِنيه؟
أم أنَّني رأيتُ في خرابِكِ الفناء
محدّقًا إليّ منكِ مِن دمي
مكشرًا منَ الحجارِ؟ آه أيّ بَرعم
يربّ فيك؟ بَرعم الرَّدى غدًا أموت
ولنْ يَظل من قُوايَ ما يظل مِن خرائِب البيوت
لا أنشق الضَّياء لا أُعضعِض الهَواء
لا أعصر النَّهار أو يمصّني المساء[٩]

قصيدة: إقبال والليل

وما وَجدُ ثَكلى مثلَ وَجدي إذا الدجى
تهاوينِ كالأمطار بالهمِّ و السهدِ
أحنُّ إلى دارٍ بعيدٍ مزارُها
وزُغبٍ جياعٍ يصرخونَ على بعدِ
و أُشفقُ من صُبحٍ سَيأتي و أرتجي
مجيئًا يجلو من اليأسِ و الوَجدِ
الليل طار و نَهاري حِينَ يقبل بالقصيرِ
الليل طال نُباح آلاف الكلاب من الغيومِ
ينهلُّ ترفعهُ الرِّياح يرنُّ في الليل الضريرِ
و هتافُ حراسٍ سَهارى يجلسونَ على الغيومِ
الليل والعُشاق يَنتظرون فيه على سَنَا النَّجمِ الأخيرِ
يا لَيل ضمَّخكَ العِراقْ
بعَبيرِ تربتهِ و هدأةِ مائهِ بينَ النخيلِ
إنِّي أُحُسك في الكويت و أنتَ تُثقل بالأغاني و الهديل
أغصانُكَ الكَسلى و يا لَيل طويل
ناحت مَطوَّقةٌ ببابِ الطاق في قلبي نذكِّر بالفراقْ
في أيّ نجمٍ مطفأ الأنوار يخفق في المجرة
ألقت بي الأقدار كالحجر الثقيل[١٠]

شعر بدر شاكر الشياب عن الوطن

إنّ الشعر ديوان العرب الذي يُعنى بنقل كلّ المشاعر والأخبار من خلال أغراض شعرية وُظِّفت في قصائد أدبية مُطوّلة، وبذلك فإنّ الشاعر السيّاب لم يكتفِ بالشعر عن الحب، بل هناك قصائد جميلة تُعبّر عن الوطن، ومن أشعاره: قصيدة الشمس أجمل في بلادي، وفجر السلام، ومنزل الأقنان، وفرح الحياة، والمعبد الغريق، وأنشودة المطر، إضافة إلى القصائد الآتية:[١]

قصيدة: لأني غريب

لأنِّي غريب
لأنَّ العراقَ الحَبيب
بعيد، و أنِّي هُنا في اشتِياق
إليهِ إليهَا أُنادي: عِراق
فيرجعُ لي من نِدائي نَحيب
تفجّر عنهُ الصَّدى
أحسُّ بأنِّي عَبَرتُ المدى
إلى عَالم مِن رَدى لا يُجيب
نِدائي
وإمّا هززتُ الغصونْ
فما يتساقَط ُغَيرُ الرَّدى
حجارْ
حجارٌ وما مِن ثِمار
وحتَّى العُيون
حجارٌ و حتى الهَواء الرطيب
حجارٌ يندِّيه بَعضُ الدَّمِ
حجارٌ ندائي و صخر فمي
ورجلاي ريحٌ تَجوب القفار[١١]

قصيدة: غريب على الخليج

الرّيحُ تَلهثُ بالهَجيرة، كالجُثام على الأصيل
وعلى القُلوع تظلُّ تُطوَى أو تُنشَّرُ للرّحيل
زحم الخليجِ بهنَّ مُكتدِحون جوَّابو بِحار
من كلّ حافٍ نِصف عاري
وعلى الرِمالِ على الخَليج
جلس الغريب، يُسرِّحُ البَصرَ المُحيَّر في الخليج
و يَهُدُّ أعمِدةَ الضِّياءِ بِما يُصعِّدُ من نشيج
أعلى من العبّابِ يَهدرُ رغوُهُ و من الضّجيج
صوتٌ تفجَّرَ في قرارة نفسيَ الثَّكلى: عِراق
كالمدّ يصعَدُ كالسّحابة كالدّموع إلى العيون
الرّيحُ تصرخُ بي عِراق
والمَوجُ يُعوِلُ بي عراق، عراق، ليسَ سِوى عراق ‍‍
البحرُ أوسعُ ما يكون و أنتَ أبعدُ ما يكون
والبحرُ دونَكَ يا عراق
بالأمسِ حينَ مررتُ بالمَقهى، سَمعتُكَ يا عراق
وكُنتَ دورةَ أسطوانة
هيَ دورةُ الأفلاكِ في عُمُري، تُكوِّر لي زَمانَه
في لَحظتينِ منَ الأمَان، و إنْ تَكُن فقدَت مكانَه
هي وَجهُ أُمي في الظّلام
وصوتُها، يتزلَّقانِ مع الرُّؤى حتّى أنام
وهي النّخيلُ أخافُ منه إذا ادلهمَّ مع الغروب[١٢]

قصيدة: سفر أيوب

لكَ الحـَمدُ مهما استطالَ البلاء
ومهما استبدٌ الألم
لكَ الحمدُ إنّ الرزايا عَطاء
وإنٌ المَصيبات بعضُ الكرَم
ألم تُعطني أنتَ هذا الظّلام
وأعطيتَني أنتَ هذا السّحر
فهل تشكُرُ الأرضُ قَطرَ المطَر
وتغضبُ إن لم يَجدها الغمام
شُهورٌ طِوالٌ وهَذي الجـِراح
تُمزّقُ جَنبيَّ مِثلُ المُدى
ولا يهدأ الداءُ عِندَ الصباح
ولا يَمسح اللّيلُ أوجاعَهُ بالرَّدى.
ولكنّ أيّوبَ إنْ صاحَ صاح
لكَ الحَمدُ، إنَّ الرَزايا ندى
وإنَّ الجِراحَ هَدايا الحبيب
أضمٌّ إلى الصّدرِ باقتِــها
هداياكَ في خافقي لا تَغيب
هاتها .. هداياكَ مقبولةُ
أشُدُّ جِراحي وأهتف
بالعائِدين
ألا فانظُروا واحسدوني
فهذى هَدايا حبيبي
وإنْ مسّتِ النارُ حُرَّ الجبين
توهّمتُها قُبلةً منكَ مجبولةً من لَهيب
جميل هو السّهدُ أرعى سَماك
بعينيّ حتى تَغيبَ النجوم
ويلمسُ شبّاك داري سَناك
جَميلٌ هوَ الليل: أصدَاء بوم
وأبواقُ سيارةٍ من بعيد
واهاتُ مرضى، وأمُّ تُعيد
أساطيرَ ابائها للوَليد
وغاباتُ ليل السُّهادِ، الغيوم
تحجّبُ وجهَ السماءْ
وتجلوه تحت القمر
وإن صاح أيُّوبُ كان النداء
لكَ الحمدُ يا راميًا بالقدر
ويا كاتبًا بعدَ ذاكَ الشِفاء[١٣]

قصيدة: الثورة

ارمي السَّماءَ بنظرةِ إستهزاءِ

واجعلْ شرابكَ منْ دَمِ الأشلاءَ

واسترْ بغيركَ يا يزيدَ فقَد ثَوى

عنكَ الحسينُ ممزَّقَ الأحشاءِ

وانظُر إلى الأجيالِ ياخذُ مُقبلٌ

عن ذاهٍبٍ ذِكرى أبي الشُّهداءِ

كالمشعَلِ الوهَّاجِ إلا أنَّها

نُور الإلهِ يجلُّ عنْ إطفاءِ

غَصَت بيَ الذِكرى فألقَتْ

ظِلها في ناظرَيَّ كواكِبُ الصَحراءِ

مبهورةَ الأضواءِ يُغشي وَمضَها

أشباحَ رَكبٍ لُجَّ في الإسراءِ

أضفَى عليهِ الليلُ سِترًا حِيكَ

من عَرفِ الجِنانِ ومن ظِلالِ حَراءِ

أسرى ونامَ وليسَ إلا هَمسَةٌ

بإسم الحُسينِ وجهةَ استبكاءِ

تلكَ ابنةُ الزَّهراء وَلْهَى رَاعها

حِلمٌ ألمَّ بها معَ الظَّلماءِ

تُنبي أخاها وهي تُخفي وَجهها

ذعرًا وتَلوي الجيدَ من إعياءِ

عن ذلكَ السهلِ المُلبَّدِ يرتمي

في الأُفقِ مثلَ الغيمَةِ السوداءِ

يكتظُ بالأشباح ظَمأى حَشرَجت

ثمَّ اشرأبَت في انتظارِ الماءِ

مفضورةَ الأفواهِ إلى جُثةٌ

من غيرِ رأسٍ لُطِّخت بِدماءِ

زَحَفَت إلى ماءٍ تَراءى ثمَّ لَم

تبلُغُهُ وانكفأت على الحصباءِ

غَيرَ الحُسين تصدُهُ عمَّن تَرى

رُؤيا فكُفِّي يا ابنةَ الزهراءِ

بأبي عُطاشى لاغبينَ ورُضَّعًا

صُفرَ الشفاهِ خَمائص الأحشاءِ

أيدٍ تمدُّ إلى السماءِ وأعيُنٌ

ترنو إلى الماءِ القريبِ النائي

عزَّ الحُسين وجلَّ عن أن يَشتري

جَمَ الخَطايا يا طائشَ الأهواءِ

ألا يموتُ ولا يُوالي مارقاً

ريَّ الغليلِ بخُطبةٍ مَكراءِ

عاجت بيَ الذِكرى عليها ساعة

مرَّ الزَّمانُ بِها على استحياءِ

خَضَعَت لتكشِفَ عن رضيعٍ

ناحل ذبلت مراشِفَهُ ذبولَ حِباء[١٤]

قصيدة: أنشودة المطر

عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ
أو شُرفتان راحَ ينأى عنهما القمرْ
عيناكِ حين تَبسمانِ تورقُ الكروم.
وترقص الأضواء.. كالأقمار في نهَرْ
يرجّه المجذاف وهناً ساعة السَّحَرْ
كأنما تنبض في غوريهما، النّجومْ
وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيفْ
كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساءٍْ
دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريفْ
والموت، والميلاد، والظلام، والضياءْ
فتستفيق ملء روحي، رعشة البكاءْ
ونشوةٌ وحشيّةٌ تعانق السماءْ
كنشوة الطفل إذا خاف من القمرْ
كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ
وقطرة فقطرةً تذوب في المطر
وكركر الأطفالُ في عرائش المكرومْ
ودغدغت صمت العصافير على الشجرْ
أنشودةُ المطرْ
مطرْ ..
مطرْ ..
مطرْ ..
تثاءب المساء، والغيومُ ما تزالْ
تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثِقالْ
كأنّ طفلًا بات يهذي قبل أن ينامْ
بأنّ أمّه التي أفاق منذ عامْ
فلم يجدها، ثمّ حين لجّ في السؤالْ
قالوا له: (بعد غدٍ تعودْ)
لا بدّ أن تعودْ
وإنْ تهامس الرفاق أنها هناكْ
في جانب التلّ تنام نومة اللّحودْ
تسفّ من ترابها وتشرب المطرْ
كأن صيادًا حزينًا يجمع الشِّباكْ
ويلعن المياه والقَدَرْ
وينثر الغناء حيث يأفل القمرْ[١٥]

قصيدة: لا تزيديه لوعة

لا تزيديه لوعةً فهو يلقا

كِ لِينسى لديكِ بعضَ اكتئابه

قرِّبِي مُقلتَيكِ من وجهه الذا

وِي تَرَي في الشحوبِ سرُّ انتحابِه

وانظري في غصونِهِ صرخة الـ

ـيأس أشباحَ غابرٍ من شبابه

لهفةٌ تسرق الخُطَى بين جفنَيـ

ـهِ وحُلمٌ يموتُ في أهدابِه

واسمعيه إذا اشتكى ساعة البَيْـ

ـنِ وخافَ الرحيل يوم اللقاءِ

واحجبي ناظريه في صدركِ المِعْـ

ـطارِ عن ذلك الرصيف المُضَاءِ

عن شراعٍ يراهُ في الوهم ينسا

بُ وموجٍ يُحِسُّه في المساءِ

الوداع الحزين! شُدِّي ذراعَيـ

ـكِ عليهِ، على الأَسى والشَّقاءِ

حدِّثِي، حدِّثيه عن ذلك الكو

خِ وراء النخيل بين الروابي

حُلم أيامه الطِّوَالِ الكئيبا

تِ فلا تحرميه حُلم الشبابِ

أوهِمِيه بأنه سوف يلقا

كِ على النَّهرِ تحت سِتر الضبابِ

وأضيئي الشموع في ذلك الكُو

خِ وإن كان كله من سرابِ[١٦]

قصيدة: وداع

أريقي على ساعديَّ الدموع

وشدِّي على صدريَ المُتعَبِ

فهيهاتَ ألَّا أَجوبَ الظلام

بعيدًا إلى ذلك الغيهبِ

فلا تهمسي: غابَ نجمُ السماء

ففي الليل أَكثرُ من كوكب

وهل كان حُلمٌ بغير انتهاء

وهل كان لحنٌ بلا آخرِ

لكي تحسبي أنّ هذا الغرام

أَبِيدُ الرؤى خالدُ الحاضِرِ

وأنَّا سنبقى نعدُّ السنين

مواعيد في ظلِّهِ الدائرِ

على مُقلتيكِ ارتماءٌ عميق

وذِكرى مساء تقول ارجعِ

نداءٌ بعيدُ الصدى كالنجوم

يراها حبيبانِ في مَخدعِ

يكادُ اشتياقي يَهزُّ الحجاب

وتُومي ذراعيَ: هيَّا معي[١٧]


للاطّلاع على سيرة الشّاعر، إليك هذا المقال: نبذة عن بدر شاكر السياب.

المراجع

  1. ^ أ ب "بدر شاكر السياب"، معرفة، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-26.
  2. "هل كان حبا"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-25.
  3. "أحبيني لأني كل من أحببت قبلك ما أحبوني الفقد في حياة السياب"، شبكة المرأة السورية، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-25.
  4. "عينان زرقاوان"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-25.
  5. "الباب تقرعه الرياح"، هنداوي، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-25.
  6. "سوف أمضي"، بوابة الشعراء، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-25.
  7. "اتبعيني"، بوابة الشعراء، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-25.
  8. "أساطير"، هنداوي، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-26.
  9. "دار جدي"، بوابة الشعراء، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-26.
  10. "إقبال والليل"، القصيدة كوم، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-28.
  11. "لأني غريب"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-26.
  12. "غريب على الخليج"، القصيدة كوم، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-28.
  13. "سفر ايوب"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-26.
  14. "قصيدة الثورة للشاعر بدر شاكر السياب"، يوتيوب، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-26.
  15. "أنشودة المطر"، ويكي مصدر، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-26.
  16. "لا تزيديه لوعة"، هنداوي، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-26.
  17. "وداع"، هنداوي، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-26.
6613 مشاهدة
للأعلى للسفل
×