أجمل ما كتب سميح القاسم

كتابة:
أجمل ما كتب سميح القاسم

أشد من الماء حزنًا

أشدُّ من الماء حزنًا

تغربت في دهشة الموتِ عن هذه اليابسه

أشدُّ من الماء حزنًا

وأعتى من الريح توقًا إلى لحظة ناعسهْ

وحيدًا ومزدحمًا بالملايين، خلف شبابيكها الدامسهْ

تغرَّبت منك لتمكث في الأرض

أنتَ ستمكُثُ

لم ينفعِ الناس، لم تنفعِ الأرض

لكن ستمكثُ أنت

ولا شيء في الأرض، لا شيء فيها سواك

وما ظل من شظف الوقت،

بعد انحسار مواسمها البائسةْ

ولدتَ ومهدكَ أرض الديانات،

مهد الديانات أرضك،

مهدك، لحدك

لكن ستمكث في الأرض، تلفحك الريح طلعا

على شجر الله، روحك يسكن طيرا

يهاجر صيفا ليرجع قبل الشتاء بموتي جديدي..

وتعطيك قنبلة الغاز إيقاع رقصتك القادمهْ

لتنهض في اللحظة الحاسمهْ

أشد من الماء حزنا

وأقوى من الخاتمه

لك المنشدون القدامى، لك البيد

لاسمكَ سر الفتوحات لاسمك جمر الهواجس تحت الرماد

وأنت افتتحت العصور الحديثة بالحلم.

كابدتُ علم النجوم وفنَّ الحدائق

وأتقنتُ فقهَ الحرائق

وداعبت موتك: حرى جهاز التنفس،

للدورة الدموية ما تشتهي

وأيقنت أنك بدء، ولا ينتهي

ولا ينتهي، ويضيق عليك الخناق ولا ينتهي

وتتٌسع الثغرات الجديدة في السقف

جدران بيتك تحفظ عن ظهر قلب

وجوه القذائف

وأنت بباب المشيئة واقف

وصوتك نازف، وصمتك نازف

تلمُّ الرَّصاص من الصور العائليهْ

وتتبع مسرى الصواريخ في لحم أشيائك المنزليهْ

وتحصي ثقوب شظايا القنابل

في جسد الطفلة النائمهْ

وتلثم شمع أصابعهما الناعمهْ

على طرف النعش،

كيف تصوغ جنون المراثي؟

وكيف تلمُّ مواعيد قتلاك في طرق الوطن الغائمه؟

وتحضن جثة طفلتك النائمه؟

في القرن العشرين

أنا قبل قرونْ

لم أتعوّد أن أكره

لكنّي مُكره

أن أُشرِعَ رمحًا لا يَعيَى

في وجه التّنين

أن أشهر سيفًا من نار

أشهره في وجه البعل المأفون

أن أصبح إيليّا في القرن العشرين

أنا، قبل قرون

لم أتعوّد أن أُلحد!

لكنّي أجلدْ

آلهةً، كانت في قلبي

آلهةً باعت شعبي

في القرن العشرين!

أنا قبل قرونْ

لم أطرد من بابي زائر

وفتحت عيوني ذات صباح

فإذا غلاّتي مسروقه

ورفيقةُ عمري مشنوقه

وإذا في ظهر صغيري، حقل جراح

وعرفت ضيوفي الغدَّارينْ

فزرعوا ببابي ألغامًا وخناجر

وحلفت بآثار السكّينْ

لن يدخل بيتي منهم زائر

في القرن العشرين !

أنا قبل قرون

ما كنت سوى شاعر

في حلقات الصوفيّينْ

لكني بركان ثائر

في القرن العشرين

أطفال سنة 1948

كَوَمٌ من السمك المقدّد في الأزقة في الزَّوايا

تلهو بما ترك التتار الإنكليز من البقايا

أُنبوبةٌ، وحطام طائرةٍ وناقلةٌ هشيمهْ

ومدافع محروقة وثياب جنديٍّ قديمه

وقنابل مشلولة، وقنابل صارت شظايا

"يا اخوتي السمر العراة و يا روايتيَ الأليمه

غنّوا طويلًا وارقصوا بين الكوارث والخطايا"

لم يقرؤوا عن "دنُ كشوت" وعن خرافات القتال

ويجنّدون كتائبًا تُفني كتائب في الخيال

فرسانها في الجوع تزحف، والعصيُّ لها بنادق

وتشدّ للجبناء، في أغصان ليمونٍ، مشانق

والشاربون من الدماء لهم وسامات الرجالْ

يا إخوتي!

آباؤنا لم يغرسوا غير الأساطير السقيمةْ

واليتم، والرؤيا العقيمه

فلنجنِ من غرسِ الجهالة والخيانة والجريمهْ

فلنجنِ من خبز التمزّقِ نكبة الجوع العضالْ

يا إخوتي السمر الجياع الحالمين ببعض رايهْ

يا إخوتي المتشرّدين ويا قصيدتيَ الشقيّه

ما زال عند الطيّبين، من الرثاء لنا بقيّه

ما زال في تاريخنا سطر، لخاتمة الروايهْ!

بابل

أنا لـم أحفـظ عـن الله كتابا

أنا لـم أبنِ لقـديسٍ قبـابـا

أنا ما صليت، ما صمت، وما

رهَّبت نفسي لدى الحشر عقابا

والدم المسفوك من قافيتـي

لم يراود من يَدَيْ عَدنٍ ثوابا

فهو لو ساءلتـَه عن مَطْمَـحٍ

ما ارتضى إلا فدى النور انسكابا

غضبي غضبة جرح أنشبت فيه

ذؤبانُ الخنا طفرًا ونابا

وانتفاضاتي عذابٌ ودَّ لو

ردّ عن صاحبِهِ الشرقُ عذابا

وأنا أومن بالحق الذي

مجدهُ يؤخذ قسرًا واغتصابا

وأنا أؤمن أني باعثٌ

في غدي الشمسَ التي صارت ترابا

فاصبري يا لطخة العار التي

خطّها الأمسُ على وجهي كتابا

وانظري النار التي في أضلعي

تهزم الليل وتجتاح الضبابا

شعشعت في آسيا فاستيقظت

وصحتْ إفريقيا غابًا فغابا!

يا حمام الدوح! لا تعتب أسًى

حسبنا ما أجهش الدوحُ عتابا

نحن لم نزجرْك عن بستاننا

لم نُحكّمْ في مغانيك الغرابا

نحن أشباهٌ و قد أوسعنا

غاصب الأعشاش ذلًا واغترابا

فابكِ في الغربة عمرًا ضائعًا

وارثِ عيشًا كان حلوًا مُستطابا

علّ نار الشجو تُذكي نخوةً

في الأَُلى اعتادوا مع الدهر المصابا

فتهد اللحدَ عنـها جُثــثٌ

ويمور البعث شِيـبًا وشبابا

يا قرى أطلالُها شاخصةٌ

تتقرّى غائبًا أبكى الغيابا

يا قرىً يُؤسي ثرى أجداثها

أنّ في النسل جراحًا تتغابى

يا قرانا، نحن لم نَسْلُ، ولم

نغدر الأرض التي صارت يبابا

خصبها يهدر في أعراقنا

أملًا حرًا، ووحيًا، وطِلابا

و الذرى تشمخ في أنفسنا

عزةً تحتطبُ البغي احتطابا!

يا بلادًا بلّلت كلَّ صدىً

وصداها لم يَرِدُ إلا سرابا

يا بلادي نحن ما زلنا على

قسم الفدية شوقًا وارتقابا

يا بلادي! قبل ميعاد الضحى

موعدٌ ينضو عن النور حجابا!

نكبةُ التيهِ التي أوردت بنا

فطرقنا في الدجى بابًا فبابا

عَمّقت سكِّينها في جرحنا

وجرت في دِمنا سُمًّا وصَابا

و تهاوينا على أنقاضنا

فخرابٌ ضمّ في البؤسِ خرابا

و من الأعماق، من تُربتنا

هتف التاريخ والمجد أهابا

فإذا أيامنا مشرقةٌ

بدمٍ، من لونه أعطى الترابا

و إذا روما نداءٌ جارحٌ

طاب يومُ النارِ يا نيرونُ طابا!

أيها العاجمُ من أعوادنا

نحن ما زلنا على العَجمْ صِلابا

فاسأل الجرح الذي عذّبنا

كيف ألّبنا على الجرح العذابا

نكبةُ التيه التي سّدّت بنا

كل أُفق ضوّأت فينا شهابا

فأفاقت من سُباتٍ أعينٌ

وُلِدَ الدهرُ عليهنّ و شابا

و اشرأبّت في المدى ألويةٌ

خفقت في الأربع الجُرد سحابا

و على وقع خطانا التفتتْ

أمم أغضت هوانًا واكتئابا

و رؤانا أخصبت فاخضوضرتْ

أعصُرٌ ناءَت على الشرق جِدابا

شعَفَاتُ الشمس من غاياتنا

فازرعي يا أمتي الليلَ حِرابا

وإذا الأسداف أهوت جُثثًا

وإذا أحنى الطواغيتُ رقابا

و إذا فَجّرْتِ أنهارَ السنى

وسنون الجدبِ بُدّلن خِصابا

فانشري النور على كل مدى

وابعثي أمجاده عجبًا عجابا

نحن أحرى مستجيبًا إن دعا: من يُفَدّي؟ وهو أحرى مستجابا!

باتريس لومومبا

لاطم الريح بالجناحين واصعد يا حبيب الحرية المتمرّدْ

أيهذا النسر الذي راعه العيشُ بوادِ كابٍ، ذليلٍ، مقيّدْ

فتلوّى في بؤرة الوحل والشوك بشوقٍ إلى السنى متوقّدْ

وأضاءت أحلامُه برؤى موسى، وعيسى، وأمنيات محمدْ

وأضاءَ الحنينَ للذروة الشماءِ، بين النجوم، أعلى وأبعدْ

فنَزاه للعلاء، ميناؤه الشمروخ، في قمة الإباء الموطّدْ

يا هتافا، لوقعه زُلزِلَ الكونغو الحزين المعذبُ المستعبَدْ

أغفلته عصابةٌ ساقت الشعب عبيدًَا لأجنبيّ مسوّد

نسرَ إفريقيا العظيمَ نداءُ الشمسِ دوّى على الوجود وأرعدْ

فاستجبتَ النداءَ، لبيكِ أمي، غدا في أفق البطولات موعدْ

وشددتَ الجناح، في القلبِ نبضٌ لهبيٌ، وأدمعٌ تتجلّدْ

بعد عهد من الظلامِ، طويلٍ، في سماء العبيد أشرقت فرقدْ

فاحملِ المشعل العظيم ومزّقْ ما أراد الغزاةُ ليلًا مُخلّدْ!

أخوة

أيا سائلي في تحدٍّ وقوّهْ

أتُنشدُ؟ أين أغاني الأخوّهْ؟

قصائدك السود بركان حقد

ومرجل نار، وسخط وقسوهْ

فأين السلام وأين الوئام؟

أتجني من الحقد والنار نشوةْ؟

و صوتُك هذا الأجشّ الجريحُ

سئمنا صداه الكئيبَ وشَجْوَهْ

فهلّا طرحت رداء الجداد

وغنيت للحبّ أعذبَ غنوهْ

أيا سائلي! خلّ عنك العتابَ!

تلوم جريحًا إذا ما تأوّهْ

أخوك أنا! هل فككتَ القيود الـ

ـتي حَفرتَ فوق زنديَّ فجوهْ

أخوك أنا! من ترى زجَّ بي

بقلب الظلام، بلا بعض كوّه؟

أخوك أنا؟ من ترى ذادني

عن البيت والكرْم والحقل عنوهْ

تُحمّلني من صنوف العذابِ

بما لا أطيق و تغشاك زهرهْ

وتشتمني، وتُعلّمُ طفلَك

شتمَ نَبيٍّ، بأرض النبوه

تشكُّ بدمعي إذا ما بكيت

وتُسرف في الظن إن سِرتُ خطوهْ

وتُحصي التفاتاتي المُتعبات

فيومًا أشارَ ويومًا تفوّهْ

وإن قام، من بين أهلك، واعٍ

يبرّئُني تردريه بقسوهْ

وتزجره شاجبًا طيشهُ

وتعلن أنَّى توجّهتَ لُغوَهْ

وإما شكوتُ، فمنك إليكَ

لتحكم كيف اشتهت فيك شهوهْ

فكيف أغني قصائد حبٍ

وسلمٍ، وللكُره والحربِ سطوه

وأنشد أشعار حريَّةٍ

لقضبان سجني الكبير المشوّه

أيا لائميّ أنتَ باللوم أحرى

إذا شئتَ أنتَ، تكون الأخوَّه!!

الذئاب الحمر

حُمّت سراياك فاشربْ من سرايانا

كأسًا جَرَعت بها للذلّ ألوانا

أركانُ عرشِكَ، آلينـا نقوّضها

فاحشد فلولَكَ، حيّاتٍ وعُقبانا

أسطورة الأسَدِ المهزوم تمهرها

جداولٌ من دمٍ تجتاح ردفانا

بلادنا القَدَرُ المحتوم قاطنها

مُذْ كانت الشمسُ، ما لانت وما لانا

يا عابد النار! ما زالت مُؤَرَّثةً

على القَنال، فماذا تعبد الآنـا

يا غازيًا غُسِلتْ بالنار حملتُهُ

لقد فتحتَ لدفن التَّاج كثبانا

بلادنا، القَدَرُ المحتوم قاطنها

مُذْ كانت الشمسُ، ما لانت وما لانا

و طارفُ المجدِ أقسمنا نشيّده

على التليد الذي شادت ضحايانا

يا عابد النار ما زالت مُؤَرَّثةً

على القَنال، فماذا تعبد الآنـا

يوم الأحد

المواعيد سَهتْ عن موعدي

فتشـرّدتُ بتيـه الأبـَدِ

أنكرتْ سود الليالي أرَقي

وجناح الدفء جافي مرقدي

والقتينا صدفةً قِدّيسةً

جمعتْ قلبين يومَ الأحدِ

فغدا يوم المسيح المفتدى

بدءَ تاريخي، وذكرى مولدي

حلوتي، يا جنّةً مخزونةً

أنا من قبلُ، بها لم أنشد

طائري ما كان يبني عُشّه

في جِنانِ الحب لو لم توجدي

فاحضنيني، أدمعًا حائرةً

أقسم الحرمان ألاّ تهتدي

رُوِيتْ منها قلوبٌ جّمّةٌ

وأنا، منبعُها الثرّ، الصدي

عانقيني بهجةً ناسكةً

غير أرباب الهوى لم تعبدِ

وخيالاتٍ تجلّت في دُنىً

لم تطُفْ أشباحها في خَلَدِ

عالمٌ للروح طوّفت بهِ

شطه استعصى على كل يدِ

أنا أهواكِ، هوىً نيرانُه

اتخذت أحطابها من جسدي

طهّرتْ روحي، ومسّتْ شفتي

فإذا فيها الذي لم يُعهَدِ

قُبَلٌ تسألني عن شفةٍ

لم تنَلْ كالوهم في ظنِّ الغدِ

وحروف يسجد الوحيُ لها

لسوى عاطفتي لم تسجدِ

يا بنة الأحلام في غيبوبتي

جسّدي أحلامَ حبي، جسّدي

المواعيد التي لم نَحْيَها

أمسِ، نحياها غدًا في موعدِ

درب الحلوة

عيناك! وارتعش الضياء بسحر أجمل مقلتينْ

وتلفّتَ الدربُ السعيد، مُخدّرًا من سكرتينْ

وتبرّجَ الأُفُقُ الوضيء لعيد مولد نجمتينْ

والطَّير أسكتها الذهول، وقد صدحتِ بخطوتينْ

والوردُ مال على الطريق يودّ تقبيل اليدينْ

وفراشةٌ تاهت إلى خديكِ، أحلى وردتينْ

ثم انثنَتْ للنور في عينين لا في كوكبينْ

ونُحَيْلةٌ همْتْ لتمتصَّ الشذى من زهرتينْ

رحماك! ردّيها ولا تقضي بموتي مرتينْ

فأنا، أنا دوّامةٌ جُنّت ببحرٍ من لُجينْ

أصبحتُ، مذ نادى بعينيك السبيل كما ترينْ

سُكْرٌ غريب الخمر منكِ اجتاحني قلبًا وعينْ

ماذا؟ أحُلمًا ما أرى أم واقعًا، أم بين بينْ

يا طلّة الأسحار قلبي ذاب في غمّازتينْ

وثوى هنالك ناسكًا، ما حمّلَ المعبودَ دَينْ

يا حلوة العينين، إنكار الهوى زورٌ، ومَيْنْ

فتشجّعي وبقبلةٍ صغرى أبيعك قبلتينْ

وتشجّعي والحبّ يخلقُ هيكلًا من هيكلينْ

إن تعطِني عيناكِ ميعادًا ألمّ الفرقدينْ

أيكون من حظي لقاءٌ يا ترى؟ ومتى؟ وأين؟

أمطار الدم

النار فاكهة الشتاءْ

ويروح يفرك بارتياحٍ راحتين غليظتينْ

ويحرّك النار الكسولةَ جوفَ موْقدها القديم

ويعيد فوق المرّتين

ذكر السماء

والله والرسل الكرامِ وأولياءٍ صالحينْ

ويهزُّ من حين لحين

في النار، جذع السنديان وجذعَ زيتون عتيـق

ويضيف بنًّا للأباريق النحاس

ويُهيلُ حَبَّ الهَيْلِ في حذر كريم

الله، ما أشهى النعاس

حول المواقد في الشتاء!

لكن ويُقلق صمت عينيه الدخان

فيروح يشتمّ، ثم يقهره السّعال

وتقهقه النار الخبيثة، طفلةً جذلى لعوبهْ

وتَئزّ ضاحكةً شراراتٌ طروبه

ويطقطق المزراب ثمّ تصيخ زوجته الحبيبة

قم يا أبا محمود قد عاد الدوابّ

ويقوم نحو الحوش لكن!!

قولي أعوذُ، تكلمي! ما لون، ما لون المطر؟

ويروح يفرك مقلتيه

يكفي هُراءً إنّ في عينيك آثار الكبَر؟

وتلولبت خطواته ومع المطر

ألقى عباءته المبللة العتيقة في ضجر

ثم ارتمى.

5482 مشاهدة
للأعلى للسفل
×