محتويات
مفهوم الشفاعة
الشفاعة في اللغة مشتقّة من الشّفع الذي هو خلاف الوتر، ومعناه الزّوج؛ فالوتر يعني المفرد، والشّفع يعني الزوج، ومن ذلك قولهم: كان وترًا فجعلته شفعًا، يعني كان مفردًا فجعله زوجيًّا، والفاعل منها يُسمّى الشافع،[١] وأمّا اصطلاحًا فالشفاعة تعني التوسّط في أمر لجلب منفعة ودفع ضرر، بمعنى أن يكون الشافع وسيطًا بين طرفين، فيتوسّط لأحد أمرين: إمّا أن يدفع الضرر عن المشفوع له، وإمّا أن يجلب له خيرًا ومنفعة،[٢] وإنّ أعظم من يرتبط اسمه بالشفاعة هو النبي محمد -صلّى الله عليه وسلّم- الذي أُعطي الشفاعة من بين الأنبياء عليهم السلام، وذلك في الحديث الصحيح الذي يرويه جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ مِنَ الأنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وجُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا، وأَيُّما رَجُلٍ مِن أُمَّتي أدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وأُحِلَّتْ لي الغَنَائِمُ، وكانَ النبيُّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ كَافَّةً، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ"،[٣] وسيقف المقال مع بيان أنواع الشفاعة وشروطها.[٤]
أنواع الشفاعة وشروطها
بعد الوقوف في الفقرة السابقة مع مفهوم الشفاعة وتوضيح معناها من حيث اللفة والاصطلاح فإنّ ما يأتي من المقال سيقف مع بيان أنواع الشفاعة وشروطها، وللشفاعة شروط ذكرها العلماء لا بدّ من توفّرها، وتلك الشروط مجموعة في آيات قرآنيّة هي قوله تعالى في سورة طه: {يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا}،[٥] وقوله تعالى في سورة الأنبياء: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}،[٦] وقوله تعالى في سورة النجم: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ}،[٧] وأخيرًا قوله تعالى في سورة البقرة في الآية المعروفة بآية الكرسي: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}،[٨] فيمكن القول عنها إجمالًا إنّها: رضا الله -تعالى- عن الشافع، ورضاه تعالى عن المشفوع له، وإذنه تعالى للشّافع في أن يشفع، وفيما يأتي تفصيل لأنواع الشفاعة في الآخرة والدنيا.[٢]
الشفاعة التي تكون في الآخرة
إنّ الناس عندما يُبعثون من الأجداث إلى ربّهم ينسلون لكي يحاسبوا على ما قدّموا في الحياة الدنيا فإنّهم يكونون في حالة خوف وهلع مجزع ممّا سيأتي؛ فالعصاة يخافون العقاب على ما أسرفوا في أنفسهم، والمؤمنون يخافون أن يكونوا قد فرّطوا في شيء في جنب الله فيلحق بهم ما سيلحق بالعصاة والكافرين وغيرهم، وإنّ أعظم ما يجدون في ذلك الموقف الحرج هو الشفاعة لهم عند الله سبحانه وتعالى، فالشفاعة في الآخرة تنقسم قسمين شفاعة خاصّة وشفاعة عامّة سيأتي تفصيلهما فيما يأتي:[٩]
- الشفاعة الخاصّة: إنّ الشفاعة ثابتة في الكتاب والسنّة، وهي ثابتة للنبي -صلّى الله عليه وسلّم- وللأنبياء والصدّيقين والشهداء والصالحين وغيرهم، فقد ثبت في الحديث الصحيح أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "ليَدخُلَنَّ الجنةَ بشفاعةِ رجلٍ ليس بنبيٍّ مِثلُ الحيَّينِ: ربيعةَ ومُضرَ"، فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، أو ما ربيعةُ من مُضرَ؟ قال: "إنَّما أقولُ ما أقولُ"،[١٠] فهذا النبي -صلّى الله عليه وسلّم- يثبت الشفاعة لرجل من الصالحين وليس بنبي،[١١] والشفاعة الخاصّة هي ما اختصّ بها رسول الله محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- من شفاعة، وهي على أنواع يأتي تفصيلها تاليًا:
- الشفاعة العظمى: إنّ الناس يوم القيامة عندما يشتدّ بهم البلاء والوقوف قبل الحساب من إظلام الأرض ودنو الشمس من الخلائق وغير ذلك من أهوال يوم القيامة فإنّ ذلك يشقّ عليهم جدًّا، فيبحثون عمّن يمكن أن يسأل الله -سبحانه- أن يقضي بينهم فينتقلوا من حال إلى حال بعد أن طال بهم المقام من دون حساب في الظلام وفي شدّة الموقف يوم الحشر، فيذهبون إلى من يظنّون أنّ لهم مكانة عالية عند الله ليست عند غيرهم من العباد، فينطلقون إلى أنبياء الله -عليهم الصّلاة والسّلام- ليسألوا الله أن يُعجّل لهم حسابهم بعد أن ضاقت عليهم حالهم، فيذهبون إلى أبي البشر آدم -عليه السلام- فيعتذر إليهم ويرسلهم إلى نبي الله نوح، فيعتذر نوح -عليه السلام- ويحيلهم إلى موسى، ثمّ موسى يحيلهم إلى عيسى، وختامًا يحيلهم عيسى إلى محمد صلّى الله وسلّم عليهم أجمعين، فيذهب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- إلى ربّه فيستشفعه في الخلائق كلّها ليعجّل لهم الحساب، فتشرق الأرض بنور الله تعالى، ويبدأ الحساب ويُأتى بكتب أعمال البشر والخلائق كلّها،[١٢] وهذا هو المقصود به المقام المحمود الذي ذكره الله -تعالى- في سورة الإسراء إذ قال: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا}،[١٣] ففي هذا المقام تحمده الخلائق كلّها، وهذه الشفاعة هي التي أثبتها الإمام القرطبي بأنّها المقام المحمود على الأصح، وشاهده حديث في صحيح البخاري يرويه ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول فيه: "إنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَومَ القِيَامَةِ جُثًا، كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا يقولونَ: يا فُلَانُ اشْفَعْ، يا فُلَانُ اشْفَعْ، حتَّى تَنْتَهي الشَّفَاعَةُ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَذلكَ يَومَ يَبْعَثُهُ اللهُ المَقَامَ المَحْمُودَ"،[١٤] وقد ذكر الإمام القرطبي في تفسير الآية آنفة الذكر من سورة الإسراء أربعة أقوال ورجّح القول الأوّل؛ أي: الذي ذكره واستشهد له بحديث ابن عمر رضي الله عنهما.[١٥]
- الشفاعة لأهل الجنة لدخول الجنة: وأمّا الشفاعة الثانية لرسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فهي الشفاعة للمؤمنين ليدخلوا الجنّة بعد أن يعبروا الصراط، فإنّهم عندما يعبرون الصراط يوقَفون على قنطرة بين الجنة والنار، فيأتي رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فيشفع لهم فيدخلون الجنّة،[٢] وفي ذلك قال -صلّى الله عليه وسلّم- أحاديثًا كثيرة منها قوله -صلّى الله عليه وسلّم- فيما يرويه عنه الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه: "أنا أوَّلُ النَّاسِ يَشْفَعُ في الجَنَّةِ وأنا أكْثَرُ الأنْبِياءِ تَبَعًا"،[١٦] ففي هذا الحديث يذكر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه أوّل من يشفع في الجنة،[١٧] وفي حديث آخر في صحيح مسلم يرويه أبو هريرة وحذيفة بن اليمّان -رضي الله عنهما- يقول فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "يَجْمَعُ اللهُ -تَبارَكَ وتَعالَى- النَّاسَ، فَيَقُومُ المُؤْمِنُونَ حتَّى تُزْلَفَ لهمُ الجَنَّةُ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فيَقولونَ: يا أبانا، اسْتَفْتِحْ لنا الجَنَّةَ، فيَقولُ: وهلْ أخْرَجَكُمْ مِنَ الجَنَّةِ إلَّا خَطِيئَةُ أبِيكُمْ آدَمَ، لَسْتُ بصاحِبِ ذلكَ، اذْهَبُوا إلى ابْنِي إبْراهِيمَ خَلِيلِ اللهِ، قالَ: فيَقولُ إبْراهِيمُ: لَسْتُ بصاحِبِ ذلكَ، إنَّما كُنْتُ خَلِيلًا مِن وراءَ وراءَ، اعْمِدُوا إلى مُوسَى -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- الذي كَلَّمَهُ اللهُ تَكْلِيمًا، فَيَأْتُونَ مُوسَى -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فيَقولُ: لَسْتُ بصاحِبِ ذلكَ، اذْهَبُوا إلى عِيسَى كَلِمَةِ اللهِ ورُوحِهِ، فيَقولُ عِيسَى صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لَسْتُ بصاحِبِ ذلكَ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فَيَقُومُ فيُؤْذَنُ له"،[١٨] ففي هذا الحديث توضيح لما سيجري يوم القيامة -إن شاء الله- وشفاعة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- للمؤمنين ليدخلوا الجنّة.[١٩]
- شفاعة الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- لعمه أبي طالب: ومن أنواع شفاعاته الخاصّة به -صلّى الله عليه وسلّم- هي شفاعته لعمّه أبي طالب الذي ناصره ودافع عنه وأحاطه بسور منيع من كفّار مكّة، ولكنّه حين مات لم يُسلِم ولم ينطق بالشهادتين، فيشفع له رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- كي يُخفّف عنه العذاب في النار، فيُجعل في ضحضاح من النار؛ إذ يروي العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- أنّه قال: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ أبا طالِبٍ كانَ يَحُوطُكَ ويَنْصُرُكَ فَهلْ نَفَعَهُ ذلكَ؟ قالَ: "نَعَمْ، وجَدْتُهُ في غَمَراتٍ مِنَ النَّارِ، فأخْرَجْتُهُ إلى ضَحْضاحٍ"،[٢٠] وهذه رواية في صحيح مسلم،[٢١] وفي رواية عند البخاري أنّه قال، أي العبّاس: ما أغْنَيْتَ عن عَمِّكَ فإنَّه كانَ يَحُوطُكَ ويَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: هو في ضَحْضَاحٍ مِن نَارٍ، ولَوْلَا أنَا لَكانَ في الدَّرَكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ"،[٢٢] وكذلك يروي أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنَّه سَمِعَ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ، فَقَالَ: "لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتي يَومَ القِيَامَةِ، فيُجْعَلُ في ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ، يَغْلِي منه دِمَاغُهُ"،[٢٣] وهذه الأحاديث تؤكّد شفاعته -عليه الصلاة والسلام- إلّا أنّها شفاعة لتخفيف العذاب لا لدخول الجنة؛ إذ إنّ أبا طالب مات كافرًا ولم يُسلم.[١٧]
- شفاعة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في دخول أناس من أمّته الجنة بغير حساب: وقد ورد في الحديث الشريف الذي رواه غير واحد من الصحابة -رضي الله عنهم- أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "إنَّ ربِّي استَشارني في أُمَّتي ماذا أفعَلُ بِهم؟ فقُلتُ: ما شئتَ، أي ربِّ، هُم خلقُكَ وعبادُك فقالَ: لا نُخزيكَ في أمَّتِك يا محمَّدُ، وبشَّرَني أنَّ أوَّلَ مَن يدخُلُ الجنَّةَ من أمَّتي سَبعونَ ألفًا معَ كلِّ ألفٍ سَبعونَ ألفًا لَيسَ عليهِم حسابٌ"،[٢٤] فهؤلاء سبعون ألفًا كلّ واحد منهم يُدخِل معه إلى الجنّة سبعين ألفًا من المسلمين.[١٧]
- الشفاعة لأناس قد دخلوا النار في أن يخرجوا منها: وقد ورد الحديث على هذه الشفاعة في أحاديث كثيرة، منها الحديث الذي يرويه أبو سعيد الخدري في صحيح مسلم من حديث طويل يتحدّث فيه -صلّى الله عليه وسلّم- على أحداث يوم القيامة، فيقول فيما يقول: "فَوالذي نَفْسِي بيَدِهِ، ما مِنكُم مِن أحَدٍ بأَشَدَّ مُناشَدَةً لِلَّهِ في اسْتِقْصاءِ الحَقِّ مِنَ المُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَومَ القِيامَةِ لإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ في النَّارِ، يقولونَ: رَبَّنا كانُوا يَصُومُونَ معنا ويُصَلُّونَ ويَحُجُّونَ، فيُقالُ لهمْ: أخْرِجُوا مَن عَرَفْتُمْ، فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ علَى النَّارِ، فيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدِ أخَذَتِ النَّارُ إلى نِصْفِ ساقَيْهِ، وإلَى رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ يقولونَ: رَبَّنا ما بَقِيَ فيها أحَدٌ مِمَّنْ أمَرْتَنا به، فيَقولُ: ارْجِعُوا فمَن وجَدْتُمْ في قَلْبِهِ مِثْقالَ دِينارٍ مِن خَيْرٍ فأخْرِجُوهُ، فيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يقولونَ: رَبَّنا لَمْ نَذَرْ فيها أحَدًا مِمَّنْ أمَرْتَنا، ثُمَّ يقولُ: ارْجِعُوا فمَن وجَدْتُمْ في قَلْبِهِ مِثْقالَ نِصْفِ دِينارٍ مِن خَيْرٍ فأخْرِجُوهُ، فيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يقولونَ: رَبَّنا لَمْ نَذَرْ فيها مِمَّنْ أمَرْتَنا أحَدًا، ثُمَّ يقولُ: ارْجِعُوا فمَن وجَدْتُمْ في قَلْبِهِ مِثْقالَ ذَرَّةٍ مِن خَيْرٍ فأخْرِجُوهُ، فيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يقولونَ: رَبَّنا لَمْ نَذَرْ فيها خَيْرًا. وَكانَ أبو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ يقولُ: إنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي بهذا الحَديثِ فاقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: {إنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ويُؤْتِ مِن لَدُنْهُ أجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]، فيَقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: شَفَعَتِ المَلائِكَةُ، وشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وشَفَعَ المُؤْمِنُونَ، ولَمْ يَبْقَ إلَّا أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فيُخْرِجُ مِنْها قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قدْ عادُوا حُمَمًا، فيُلْقِيهِمْ في نَهَرٍ في أفْواهِ الجَنَّةِ يُقالُ له: نَهَرُ الحَياةِ، فَيَخْرُجُونَ كما تَخْرُجُ الحِبَّةُ في حَمِيلِ السَّيْلِ"،[٢٥] فهذا الحديث يوضح بما لا يدع مجالًا للشكّ كيف يشفع المؤمنون للعصاة من المؤمنين الذين قد دخلوا النار.
- الشفاعة لأناس قد استحقوا النار في ألّا يدخلوها: والنوع الآخر من الأنواع التي تقف عليها هذه الفقرة هي الشفاعة لأناس قد استحقوا النار في ألّا يدخلوها، وهذا النوع له شواهد منها الحديث الذي يرويه ابن عبّاس -رضي الله عنهما- أنّه سمع رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: "ما مِن رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ، فَيَقُومُ علَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، لا يُشْرِكُونَ باللَّهِ شيئًا، إلَّا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ"،[٢٦] وهذا دليل على جواز الشفاعة في ألّا يدخل مسلم النار ولو استحقّها إذا ما حضر جنازته أربعون رجلًا.
- الشفاعة لأناس من أهل الإيمان قد استحقوا الجنة أن يزدادوا رفعة: ومن ذلك ما روي عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: "اللَّهمَّ اغفِر لأبي سلَمةَ وارفع درجتَهُ في المَهْديِّينَ، واخلُفهُ في عقبِهِ في الغابِرينَ، واغفِر لَنا ولَهُ ربَّ العالمينَ، اللَّهمَّ افسِح لَهُ في قبرِهِ، ونوِّر لَهُ فيهِ"[٢٧].
الشفاعة التي تكون في أمور الدنيا
والشفاعة ليست في الآخرة فقط، وإنّما هي في أمور الدنيا كذلك، وقد قال العلماء إنّ الشفاعة في الدنيا واردة ولكنّها تنقسم قسمين تبعًا لحالة الذي يشفع والذي يُشفع عنده وتبعًا لنوع الشفاعة، وفيما يأتي توضيح لقسمي الشفاعة في الحياة الدنيا:[٢٨]
- ما يكون في مقدور العبد واستطاعته: وهذه الشفاعة تجوز بشرطين:[٢٩]
- الشرط الأول: أن تكون الشفاعة في شيء مباح؛ فلا تصح الشفاعة في الأمور المحرّمة أو التي قد تتسبّب بظلم للعباد؛ وذلك لعموم قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}،[٣٠] وكذلك لما روي من حديث عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أنّها قالت" أنّ قريشًا أهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتي سَرَقَتْ، فَقالوا: ومَن يُكَلِّمُ فِيهَا رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فَقالوا: ومَن يَجْتَرِئُ عليه إلَّا أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللهِ"؟، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قالَ: "إنَّما أهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقَامُوا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا"، وفي الحديث دلالة على عدم جواز الشفاعة في ما حرّمه الله؛ كالشفاعة في إقامة الحدّ على من استحقّه.
- الشرط الثاني: أن يعتقد أنّ النفع والضرّ بيد الله وحده، وأنّ هذا الشافع ما هو إلّا سبب قد أذِنَ الله له بفعل الخير؛ لذلك على المسلم ألّا يعتمد على غير الله تعالى في جلب الخير، فإذا اختلّ أحد الشرطين هذين صارت الشفاعة ممنوعة.
- ما لا يكون في مقدور العبد وطاقته ووسعه: وصور هذا القسم كثيرة منها طلب الشفاعة من الأموات أو الأصنام، ومن ذلك ما ورد في القرآن الكريم على لسان المشركين حين قالوا: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ ۚ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}،[٣١] والله أعلم.[٢٩]
المراجع
- ↑ "تعريف ومعنى الشفاعة في معجم المعاني الجامع"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-13. بتصرّف.
- ^ أ ب ت "ما هي الشفاعة ؟ وما هي أقسامها؟"، ar.islamway.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-13. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن جابر بن عبد الله، الصفحة أو الرقم:438، حديث صحيح.
- ↑ "شرح أحاديث عمدة الأحكام شرح الحديث الـ 42 "أعطيت خمسًا""، www.saaid.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-13. بتصرّف.
- ↑ سورة طه، آية:109
- ↑ سورة الأنبياء، آية:28
- ↑ سورة النجم، آية:26
- ↑ سورة البقرة، آية:255
- ↑ "موسوعة الفقه الإسلامي"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-13. بتصرّف.
- ↑ رواه السيوطي، في البدور السافرة، عن أبي أمامة الباهلي، الصفحة أو الرقم:272، إسناده صحيح.
- ↑ "الشفاعة.. معناها.. ثبوتها.. أنواعها"، www.islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-13. بتصرّف.
- ↑ "الشفاعة"، kalemtayeb.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-13. بتصرّف.
- ↑ سورة الإسراء، آية:79
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عمر، الصفحة أو الرقم:4718، حديث صحيح.
- ↑ "القرآن الكريم - تفسير القرطبي - تفسير سورة الإسراء - الآية 79"، quran.ksu.edu.sa، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-13. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم:196، حديث صحيح.
- ^ أ ب ت "أنواع الشفاعة الشرعية"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-13. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي هريرة وحذيفة بن اليمان، الصفحة أو الرقم:195، حديث صحيح.
- ↑ "المبحث الثالث: أنواع الشفاعة: (الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية)"، dorar.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-13. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن العباس بن عبد المطلب، الصفحة أو الرقم:209، حديث صحيح.
- ↑ "أنواع شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة"، binbaz.org.sa، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-13. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن العباس بن عبد المطلب، الصفحة أو الرقم:3883، حديث صحيح.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي سعيد الخدري، الصفحة أو الرقم:3885، حديث صحيح.
- ↑ رواه السيوطي، في البدور السافرة، عن حذيفة بن اليمان، الصفحة أو الرقم:134، حديث إسناده حسن.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدري، الصفحة أو الرقم:183، حديث صحيح.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عباس، الصفحة أو الرقم:948، حديث صحيح.
- ↑ رواه الألباني ، في صحيح أبي داود، عن أم سلمة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:3118، حديث صحيح.
- ↑ "الفرق بين الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة"، aliftaa.jo، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-13. بتصرّف.
- ^ أ ب "أنواع الشفاعة"، islamqa.info، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-13. بتصرّف.
- ↑ سورة المائدة، آية:2
- ↑ سورة يونس، آية:18