إنشاء عن الوطن
الوطن قطعةٌ من الروح، بل هو الروح بأكملِها والقلب الذي ينبض في الأعماق، فالوطن أوسع من الدنيا وأكبر من كلّ الحب، وهو المكانُ الذي تأوي إليه النفس فتنام مرتاحة البال، ولا شيءَ غيره يستطيع أن يثشعل فتيل الحياة في القلب لأنّه مسقط الرأس ومثوى الأهل والأحبّة والجيران والأصدقاء، والوطن أعظم من أن تحتويه الكلمات والعبارات، لأنّ جميع القصائد والأشعار والنصوص لا تستطيع أن تصف متعة أن يكون للإنسان وطنٌ يأوي إليه ويعيش فيه مرتاح البال، فالوطن يجعل للإنسان كيانًا ويُزيح عنه شعور الغربة المرير الذي يثقل القلب والروح.
حبّ الوطن أمرٌ فطريّ يُولدُ مع جميع الكائنات، فالطيورُ التي تُهاجر مهما ابتعدت عن أوطانها فإنّها تعود مجددًا للوطن، والأسماك إن ابتعدت عن البحار التي ولدت فيها فإنّها تُشارف على الهلاك، حتى الحيوانات التي تُغادر أوطانها قسرًا لتُوضع في أقفاص في حدائق الحيوانات فإنّها تفقد جزءًا مهمًا من طبيعتها، فالوطن ليس مجرّد مكان تتوفر فيه ظروف المعيشة المناسبة، بل هو الإحساس الكبير بالأمان والاطمئنان، ولهذا يقولون دومًا أن الوطن ليس فندقًا يُغادره الشخص عندما تسوء فيه الخدمة، بل هو كيانٌ كبير يتغلغل في الأعماق ولا فكاك منه أبدًا حتى بالموت، فالإنسان عندما يموت تكون أقصى أمنياته أن يموت ويُدفن في تربة وطنه.
يتجلّى حب الوطن في الكثير من الأمثلة، فالوطن يحتاج دومًا إلى سواعد أبنائه كي يُدافعوا عنه من جميع الأعداء، ويحتاج إلى العمل والتطوير، ويحتاج أن يكونَ أبناؤه مخلصين له في كلّ وقت، فالوطن لا ينكسر إلّا بالخيانة، ولا يضيع إلّا بتخاذل المتخاذلين ممّن ينتمونَ إليه، لذلك لا بدّ أن يحرصَ أيناؤه على أن يصونوه من كل ضربة وأن يكونوا له درعًا حاميًا من أيّ ظرف، وأن يكونوا معه لا عليه، فالوطن له حقٌ كبير، ولهذا فإنّ حب الوطن من الإيمان يُؤجر عليه الإنسان، والدفاع عنه واجب يقتضيه الدّين وتفرضه الأخلاق، ويظهر هذا واضحًا في سيرة الرسول -عليه الصلاة والسلام- الذي لم يُغادر وطنه مكة إلّا مضطرًا، وقال الكثير في حبّ مكة وأنّها أحبّ بلاد الله تعالى إليه، لكن الظروف تقتضي أحيانًا أن يُغادر الإنسان وطنه لطلب العلم أو العمل، لكن هذا لا يعني أن تتغيّر المشاعر تجاه الوطن، فالوطن وردة في ربيع العمر، وشجرة باسقة لا تنتحني أبدًا، جذورها تمتدّ من أصل الروح إلى أعمق أعماق القلب، ولا يعرف قيمة الوطن إلّا من عاش مشرّدًا بين أوطان الآخرين.