اتق الله حيثما كنت

كتابة:
اتق الله حيثما كنت

اتَّقِ الله حيثما كنت

اتَّقِ الله

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لِمُعاذ بن جبل -رضي الله عنه- لمَّا أرسله إلى أهلِ اليمنِ: (اتَّقِ اللَّهِ حيثُ ما كنتَ، وأتبعِ السَّيِّئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالقِ النَّاسَ بخلقٍ حسنٍ)،[١] والتَّقوى هي الامتثالُ لِما أَمَرَ به الله -عزَّ وجل-، واجتِنابُ ما نهى عنه، وقد أوصى الله -عزَّ وجل- عبادهُ المؤمنين بذلك على مرِّ العصورِ،[٢] إذ ما كانَ يُبعَثُ رسولٌ إلَّا يأمرُ قومه بتقوى الله -عز وجل-، قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّـهَ)،[٣] كما أنَّ الأمرَ بالتَّقوى الوارِدُ في الحديثِ جامعٌ مانعٌ لكلِّ ما قد يندرجُ تحته؛ من مرُاعاةٍ لحقوقِ الله -عزَّ وجل- وحقوقِ العِبادِ، على سبيلِ الوجوبِ أو الاستحبابِ، والابتعادُ عن منهياتِ الشَّرع ما كانَ منها مُحرَّماً أو مكروهاً.[٤]


وأعظمَ التَّقوى هو أن يتَّقي المسلمُ غضَبَ ربِّهِ عليه، فغضبُ الله -عزَّ وجل- على المسلمِ قد يهوي به في النَّارِ، والله -عزَّ وجل- أخبرنا في القرآنِ الكريمِ أنَّه -سبحانه- هو أهلٌ للتَّقوى، إذ قال -تعالى- في سورةِ المُدّثِر: (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ* فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ* وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ)،[٥] كما أنَّ التَّقوى وردت في القرآنِ مضافةً إلى أمورٍ عدَّةٍ، إذ قال -تعالى- في سورةِ آلِ عمران: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)،[٦] وقال في سورةِ البقرة: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّـهِ)،[٧] -أي احذروا النَّار وأبقوها في حُسبانِكم-.[٨]


حيثما كنت

تعدَّدت آراءُ العلماءِ في تفسير قول النبيّ (حيثما كنت)، إذ حاولوا ضبطَ معناها بضوابِطَ لتحقيق معناها الأدق والأشمل، ونُفصِّل ذلكَ على النَّحو الآتي:

  • ضابط الزَّمان: فهي الالتزامُ بتقوى الله -عزَّ وجل- في كلِّ وقتٍ وحين؛ تحقيقاً للاستقامةِ الكاملة.[٩]
  • ضابطُ الخِفية: فهي الحاجةُ إلى الالتزامِ بالتَّقوى في السِّرِ والعَلَن،[١٠] والاكتفاءُ بمعرفةِ أنَّ الله -عزَّ وجل- يرى كل أحدٍ ويَعِرفُ تحرّكاته،[٨] وإنَّ لنا في فواتِحِ سورةِ النِّساءِ لعبرةٍ، إذ قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).[١١]
  • ضابطُ المكانِ: وهي الالتزامُ بتقوى الله -عزَّ وجل- في كلِّ مكانٍ.[١٢]
  • ضابطُ الحال: وهي الالتزامُ بتقوى الله -عزَّ وجل- في أيِّ حالةٍ كان الإنسان عليها، فلا يتزحزحُ معيارُ التَّقوى عنده حين تعامله مع النَّاس.[١٣]


حقيقة التَّقوى

تستوطنُ التَّقوى قلب المسلمِ ابتداءً من خلالِ إيمانهِ بربِّه -عزَّ وجل-، وخشيتهِ إياهِ وطاعته له، ثمَّ تظهرُ على جوارحه من خلالِ الامتثالِ لأوامرِ الله -عزَّ وجل-، واجتنابِ نواهيه، ليستحقَّ بفعله ذلكَ ما وعدَ الله -عزَّ وجل- به المتَّقينَ،[١٤] فيكون بذلكَ أساسُها العِلمَ والمعرفةِ بالله -عزَّ وجل-، والإحاطة بأوامرهِ ونواهيه، ثمَّ تنتقلُ إلى العمل بتطبيقِ ما تعلَّمَه،[١٥] وحقيقةُ التَّقوى كذلك بالتنَّزُّهِ عن عصيانِ الله -عزَّ وجل-، وقد أُخِذَ هذا المعنى من الآيةِ الكريمة: (وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّـهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)،[١٦] إذ لا تجعلُ الآيةُ الطَّاعةَ تعريفاً للتَّقوى، فَلَزِمَ أن تنطوي حقيقةُ التَّقوى على معنىً أعمق، وهو تنزيهُ القلبِ عن المعصية.[١٧]


ويُعَرِّفُ الصَّحابيُّ الجليلُ ابن عباس -رضي الله عنه- كمالَ التَّقوى، فيقول: "أَنْ يُطاعَ فلا يُعصى، ويُذكَرَ فلا يُنسى، وأن يُشكَرَ فلا يُكفَر"، وتكونُ التَّقوى كاملةً إذا اجتمعَ فيها ما يأتي على ترتيبِ أهميتها:[١٨]

  • أوَّلاً: فعلُ المأموراتِ.
  • ثانياً: تَركُ المنهيات.
  • ثالثاُ: اتِّقاءُ الشُّبُهات.
  • رابعاً: فعلُ المندوبات.
  • خامساً: تركُ المكروهات، وبهذا يَصِلُ المسلمُ لأعلى مراتب التَّقوى.


ثمرات التَّقوى

تتعدَّدُ ثِمارُ التّقوى الدُّنيويَّة والأخرويَّة، ونذكر منها ما يأتي:[١٩]

  • الثَّمرةُ الأولى: تقوى الله -عزَّ وجل- تستجلبُ رحمته؛ إذ ورد في القرآنِ الكريمِ قوله -تعالى-: (أَلا إِنَّ أَولِياءَ اللَّـهِ لا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنونَ* الَّذينَ آمَنوا وَكانوا يَتَّقونَ* لَهُمُ البُشرى فِي الحَياةِ الدُّنيا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبديلَ لِكَلِماتِ اللَّـهِ ذلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظيمُ).[٢٠]
  • الثَّمرة الثَّانية: تقوى الله -عزَّ وجل- سببٌ في إحاطةِ العبدِ بمعيَّةِ الله -تعالى- وتوفيقه؛ إذ وردَ في القرآن الكريم قوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّـهَ مَعَ الَّذينَ اتَّقَوا وَالَّذينَ هُم مُحسِنونَ).[٢١]
  • الثَّمرة الثَّالثة: تقوى الله -عزَّ وجل- تعطيِ المسلمَ بصيرةَ التَّفريقِ بين الحقِّ والباطل؛ إذ ورد في القرآنِ الكريمِ قوله -تعالى-: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن تَتَّقُوا اللَّـهَ يَجعَل لَكُم فُرقانًا وَيُكَفِّر عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِر لَكُم وَاللَّـهُ ذُو الفَضلِ العَظيمِ).[٢٢]
  • الثَّمرة الرَّابعة: المتَّقونَ موعودونَ بتكفيرِ سيئاتِهم؛ إذ ورد في القرآنِ الكريم قوله -تعالى-: (وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا).[٢٣]
  • الثَّمرة الخامسة: تقوى الله -عزَّ وجل- تستجلِبُ البركةَ في المالِ والعمل؛ إذ وردَ في القرآنِ الكريم قوله -تعالى-: (وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرى آمَنوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنا عَلَيهِم بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأَرضِ وَلـكِن كَذَّبوا فَأَخَذناهُم بِما كانوا يَكسِبونَ).[٢٤]
  • الثَّمرة السَّادسة: تقوى الله -عزَّ وجل- سببٌ في تيسير الأمور؛ إذ وردَ في القرآنِ الكريمِ قوله -تعالى-: (وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا).[٢٥]
  • الثَّمرة السَّابعة: تقوى الله -عزَّ وجل- سببٌ في انفراجِ الهمِّ وتحصيلِ الرِّزقِ؛ إذ وردَ في القرآنِ الكريمِ قوله -تعالى-: (وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ).[٢٦]
  • الثَّمرة الثَّامنة: المتَّقونَ موعودونَ بقبولِ أعمالهمِ وإصلاحِ أحوالهم؛ إذ ورد في القرآنِ الكريم قوله -تعالى-: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّـهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)،[٢٧] كما قال أيضاً: (وَيُنَجِّي اللَّـهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).[٢٨]
  • الثَّمرة التَّاسعة: تقوى الله -عزَّ وجل- سببٌ في إحباطِ الله -تبارك وتعالى- لكيدِ أعداء المتّقين؛ إذ وردَ في القرآنِ الكريمِ قوله -تعالى-: (وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّـهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).[٢٩][٣٠]
  • الثَّمرة العاشرة: تقوى الله -عزَّ وجل- هي ميزانُ كرامة المسلم عند الله -تعالى-؛ إذ ورد في القرآنِ الكريم قوله -تعالى- في سورة الحجرات: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ).[٣١][٣٠]
  • الثَّمرة الحادية عشرة: المتَّقونَ ينجيهمُ الله -عزَّ وجل- يومَ القيامة؛ إذ ورد في القرآنِ الكريمِ قوله -تعالى-: (وَإِن مِنكُم إِلّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتمًا مَقضِيًّا* ثُمَّ نُنَجِّي الَّذينَ اتَّقَوا وَنَذَرُ الظّالِمينَ فيها جِثِيًّا).[٣٢][٣٠]
  • الثَّمرة الثَّانية عشرة: تقوى الله -عزَّ وجل- تستجلبُ حبَّ الله -عزَّ وجل-؛ إذ ورد في القرآنِ الكريمِ في عدَّة مواضِع قوله -تعالى-: (فإِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ المُتَّقينَ).[٣٣][٣٤]
  • الثَّمرة الثَّالثة عشرة: تقوى الله -عزَّ وجل- سببٌ لحُسنِ تحصيلِ المؤمنِ للعلمِ النَّافِع؛ إذ ورد في القرآنِ الكريمِ قوله -تعالى-: (وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّـهُ وَاللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).[٣٥][٣٤]


المراجع

  1. رواه الألباني، في صحيح الترمذي، عن أبو ذر الغفاري، الصفحة أو الرقم: 1987، حسن.
  2. عبد الكريم الخضير، شرح الأربعين النووية، دروس مفرغة من موقع الشيخ الخضير، صفحة 13، جزء 12. بتصرّف.
  3. سورة النساء، آية: 131.
  4. عمر سليمان الأشقر (2012م)، التقوى تعريفها وفضلها ومحذوراتها وقصص من أحوالها (الطبعة الأولى)، الأردن: دار النفائس للنشر والتوزيع، صفحة 60، جزء 1. بتصرّف.
  5. سورة المدثر، آية: 54-56.
  6. سورة آل عمران، آية: 131.
  7. سورة البقرة، آية: 281.
  8. ^ أ ب ابن حجر الهيتمي (2008م)، الفتح المبين بشرح الأربعين (الطبعة الأولى)، جدة: دار المنهاج، صفحة 350. بتصرّف.
  9. محمد عويضة، فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب، صفحة 50، جزء 5. بتصرّف.
  10. د عمر سليمان الأشقر (2012م)، التقوى تعريفها وفضلها ومحذوراتها وقصص من أحوالها (الطبعة الأولى)، الأردن: دار النفائس للنشر والتوزيع، صفحة 59-60، جزء 1. بتصرّف.
  11. سورة النساء، آية: 1.
  12. عبد الكريم الخضير، شرح الأربعين النووية، دروس مفرغة من موقع الشيخ الخضير، صفحة 14، جزء 12. بتصرّف.
  13. عطية سالم، شرح الأربعين النووية لعطية سالم، www.islamweb.net: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية، صفحة 8، جزء 42. بتصرّف.
  14. محمد التويجري، موسوعة فقه القلوب، عمان: بيت الأفكار الدولية، صفحة 1538، جزء 2. بتصرّف.
  15. عطية سالم، شرح الأربعين النووية لعطية سالم، www.islamweb.net: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية، صفحة 7، جزء 42. بتصرّف.
  16. سورة النور، آية: 52.
  17. الفيروزآبادي (1992م)، بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، القاهرة: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - لجنة إحياء التراث الإسلامي، صفحة 258، جزء 5. بتصرّف.
  18. سعيد القحطاني، نور التقوى وظلمات المعاصي في ضوء الكتاب والسنة، الرياض: مطبعة سفير، صفحة 6-7، جزء 1. بتصرّف.
  19. حسين المهدي (2009م)، صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال، دار الكتاب، صفحة 79-81، جزء 2. بتصرّف.
  20. سورة يونس، آية: 62-64.
  21. سورة النحل، آية: 128.
  22. سورة الأنفال، آية: 29.
  23. سورة الطلاق، آية: 5.
  24. سورة الأعراف، آية: 96.
  25. سورة الطلاق، آية: 4.
  26. سورة الطلاق، آية: 2-3.
  27. سورة المائدة، آية: 27.
  28. سورة الزمر، آية: 61.
  29. سورة آل عمران، آية: 186.
  30. ^ أ ب ت ابن علان (2004م)، دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (الطبعة الرابعة)، لبنان: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، صفحة 250، جزء 1. بتصرّف.
  31. سورة الحجرات، آية: 13.
  32. سورة مريم، آية: 72.
  33. سورة آل عمران، آية: 76.
  34. ^ أ ب أمين الشقاوي (2013م)، الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة (الطبعة الثامنة)، صفحة 471-473، جزء 3. بتصرّف.
  35. سورة البقرة، آية: 282.
4588 مشاهدة
للأعلى للسفل
×