الانزياح في شعر محمود درويش

كتابة:
الانزياح في شعر محمود درويش

مفهوم الانزياح

يُعرف الانزياح في الّلغة أنه البُعد عن الشيء والانحراف عنه، وقد استخدم هذا المصطلح في الدراسات الأسلوبيّة بمعنى استعمال اللغة استعمالًا يخرج بها عما هو مألوف ليثبت ذاتيّته[١]، وعلى الرغم من حداثة الدراسات النقدية التي تتناول الانزياح إلّا أنّ له أصولًا قديمة تحت مسمّيات عديدة كالاتساع والمجاز والتغيير والانحراف والالتفات[٢]، وفي العصر الحديث حازت ظاهرة الانزياح في شعر محمود درويش وأدونيس وغيرهم على اهتمام بالغ من النقاد لأثرها البالغ في تحريك مسار القيم الدلالية والجمالية للنصوص الأدبية، إضافة إلى ما تتيحه للأديب من صبّ موهبته في ابتداع كل جديد يشهد له بالتفرّد.

أنواع الانزياح

اختلفت التسميات التي أطلقت على مفهوم الانزياح رغم الاتفاق على المفهوم العام الذي يشير إليه الانزياح وسائر التسميات النقدية الأخرى، ولعلّ سببَ ذلك طبيعته العملية التي تتصل باللغة وما ينضوي تحتها من صور وتراكيب ومفردات ودلالات وأساليب، حتى تفرع مفهوم الانزياح إلى أنواع عدّة، منها:

  • الانزياح الدلالي: حيث تنزاح الدوال عن دلالاتها الأصلية فتختفي الدلالات المألوفة لتحل محلها دلالات جديدة غير معهودة ولا محدودة.[٣]
  • الانزياح التركيبي: وهو الانحراف عن مسار التركيب النحوي الأصلي للغة لتجاوز الدلالة المألوفة التي يتيحها التركيب الأصلي إلى دلالات أوفر وأكثر ابتكارًا.
  • الانزياح الاستبدالي: وهو أول ما وقف عليه النقاد قديمًا من ملاحظات في التغير الدلالي بسبب الاستعارات والتشبيه والمجاز.
  • الانزياح الأسلوبي: ويكون بتحريف الأساليب الخبرية والإنشائية كالأمر والاستفهام، عن الدلالات الأصلية التي ترمي لها، لتنشئ دلالات جديدة.
  • الانزياح في فضاء النص: ويكون بتحريك أحد مظاهر البيئة النصية عن تصورها المألوف في ذهن المتلقي.

الانزياح في شعر محمود درويش

بَدَت ظاهرة الانزياح في شعر محمود درويش بأنواعها جلية واضحة؛ لما تركته من أثر في تشكيل لغته الشعرية، وتعميق محتواها الدلالي وامتيازها الشعري الذي يحفظ له بصمته الإبداعية، ويتيح له إثبات ذاته الفكرية في تاريخ الأدب، ولكن هذه الظاهرة قد تفاوتت ظهورًا بين أنواعها في شعر محمود درويش، إذ بدت مرتكزة على توجهها الدلالي بشكل خاص، ففي قوله:[٤]

يا نوح!
إنا صنعنا جنة، كانت نهايتها صناديق القمامة!
يا نوح!
لا ترحل بنا، إن الممات هنا سلامة

يستدعي الشاعر قصة نوح -عليه السّلام-، متجاوزًا بها المألوف التاريخي، ليرمي من خلالها إلى مقصود ذاتي من خلال تلك الإشارات والملامح التي اكتسبتها القصة بعد الانزياح الدلالي، إذ يبدو مسلّمًا للواقع باحثًا عن السلام، بعيدًا عن كل ما يقتضيه الرفض والثورة وما يقتضيه الحق، فيعمد لإزاحة الحدث التاريخي المألوف، ويهيّئ لما تترسمه ذاته من إحلال للسلام من خلال التوجه بخطاب نوح وحثه على قلب المجرى التاريخي لتحقيق مراده الذاتي في تحقيق السلام.

ولا يقتصر الانزياح في شعر محمود درويش على الحقل الدلالي، فقد يلجأ لتحريك الدلالات المتوقعة الناجمة عن العلاقات الإسنادية، فيستحدث دلالة خاصة تمنح مساره الشعري ميلادًا دلاليًا جديدًا ففي قوله:[٤]

عيونك شوكة في القلب، توجعني وأعبدها
وأحميها من الريح
وأغمدها وراء الليل والأوجاع .. أغمدها

يمنح المبتدأ "عيونك" دلالات متوقعة اكتسبها المتلقي بفعل ما اتصل هذا اللفظ من أخبار تتصل بصفات الجمال، أو ما يتصل بتأثيرها على الشاعر، إلا أن محمود درويش يحرص على استبعاد كل تلك المتوقعات وإزاحتها مفسحًا المجال لدلالاته الخاصة من خلال الأخبار المتتابعة "شوكة في القلب، توجعني"، التي تصور مدى عشقه ومكابدته ألم البعد.

وقد يتعدى الانزياح في شعر محمود درويش الحقل الإسنادي، إلى الحقل التركيبي، فيعمد إلى قواعد اللغة والتركيب مبدلًا ومغيّرًا تبعًا لما تحتاجه دلالاته الشعرية، فيقول:[٤]

ذليل أنت كالإسفلت
وكالقمر .. غبي أنت

في هذا المقطع الشعري يعمَد الشاعر لخلق انزياح في النظام التركيبي للجملة الاسمية وإبراز هذا الانزياح من خلال التضاد التركيبي الذي يتضح بين السطرين الشعريين، ففي حين تحتفظ الجملة الاسمية في السطر الأول بالترتيب الأصلي للتركيب اللغوي حيث يتقدم المبتدأ معلنًا قبح العدو، يتغير التركيب في السطر الثاني ليتقدم الخبر"كالقمر" مبرزًا سوء العدو وقبحه من خلال العلاقة التناقضية بين القمر والغباء، إذ غالبًا ما تتصل بالقمر صفات تتعلق بالجمال والنّور والحقّ.

وتبدو ظاهرة الانزياح في شعر محمود درويش جلية من خلال الأساليب الخبرية والإنشائية، فقد استثمر ما يمكن أن يتولد عنها من دلالات في ذهن المتلقي، ليتمكن من الولوج إلى دلالاته الخاصة ففي قوله:[٣]

فمن يعيد ترتيب الفصول
ومن يغير نظام الروزنامة
لكي أعلن للمرة الأولى
تاريخ ميلادي
من؟

لقد بدت أساليب الاستفهام منحازة لدلالتها المباشرة في الطلب والبحث عمن يتمكن من إحداث تغيير وتبديل في مجرى التاريخ، إلا أن الشاعر يعمد لإزاحة تلك الدلالة المباشرة لتكون عهدًا يلزمه بإحداث تغيير جذري يمنحه ميلادًا وحياة جديدة تتبرأ من كل مظاهر تلك الحياة السابقة. وكثيرًا ما يستعين محمود درويش في قصائده بالفضاء وما يضمه من حيثيات الزمان والمكان والشخصيات، فيقوم بإزاحتها عن دلالاتها المادية المحضة، لتتسع لدلالات جديدة ففي قوله:[٣]

في القدس، أعني داخل السور القديم
أسير من زمن إلى زمن بلا ذكرى
تصوًّبني

يعمَد هنا لإزاحة الفضاء المكاني القدس عن مظهره المادي المألوف، ليكسبه دلالة تاريخية تحطم تلك الحدود المكانية لتنطلق به إلى أبعاد زمانية لا محدودة بين الماضي والمستقبل.

المراجع

  1. وهيبة فوغالي (2013)، الانزياح في شعر سميح القاسم قصيدة عجائب قانا الجديدة أنموذجًا (الطبعة الأولى)، الجزائر: جامعة أكلي محند أولحاج، صفحة 7. بتصرّف.
  2. وافية ثامر (2014)، المشروع النقدي بين عبد القاهر الجرجاني وجان كوهن (الطبعة الأولى)، الجزائر: جامعة العربي بن مهيدي أم البواقي، صفحة 15. بتصرّف.
  3. ^ أ ب ت أميمة الرواشدة (2004)، شعرية الانزياح (الطبعة الأولى)، عمّان: أمانة عمان الكبرى، صفحة 54. بتصرّف.
  4. ^ أ ب ت محمود درويش (1994)، ديوان محمود درويش (الطبعة الرابعة عشرة)، بيروت: دار العودة، صفحة 110، جزء 1.
5740 مشاهدة
للأعلى للسفل
×