الزهد والتصوف في العصر العباسي الثاني

كتابة:
الزهد والتصوف في العصر العباسي الثاني

الزهد والتصوف في المجتمع العباسي

صحيحٌ أنّ حياة الطبقات العليا في هذا المجتمع قد غرقت في حياة الترف والدعة وأغرقت في اللهو والمجون، ولكن المجتمع العباسي والذي يشكله عامة الشعب كان مجتمعاً مسلماً تمسك بأخلاق الإسلام ومروءة العرب، ولم يعرفوا حياة الترف وما تجر إليه من اللهو وشرب الخمرة والمجون، وكان يسخطون على الزنادقة والملحدين والمجان.[١]

وإن كانت انتشرت دور الخمر والمجون، فقد انتشرت على النقيض من ذلك حركات الوعظ والزهد في الدنيا في المساجد، وانتشرت طائفةٌ كبيرةٌ من الفقهاء والمحدثين الذين أبوا متاع الدنيا وكرسوا حياتهم للعبادة وابتعدوا عن الترف وملاذ الدنيا التي انتشرت في هذا العصروكانوا مؤثرين في العامة.[١]

وكان من بينهم إبراهيم بن إسحق الحربي الذي عزف عن ملذات الدنيا وأبى أن يأخذ أجراً على جلوسه لرواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يرفض أي مالٍ يأتيه من خليفةٍ أو سلطان وعاش معيشته في زهدٍ شديدٍ وتقشف ويروى أنّ الخليفة العباسي المعتضد أرسل إليه عشرة آلاف درهم فردها ورفض قبولها.[١]

أنواع الزهاد والمتصوفة

انتشر نمطان من نوع الزهد والتصوف في هذا العصر، وهما الآتي:

الزهاد الحقيقون

حيث سار الزهاد في هذا النوع على زهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان زهدهم نابعاً من صميم الإسلام لم يفارقوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في زهده وأشهرهم الحارث المحاسبي حيث استمد زهده من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ودعا لمحاسبة النفس ومراقبتها على الدوام ورفض أنّ يؤدي التوكل إلى القعود عن السعي.[٢]

المتصوفة

حيث دخل في زهد هذه الطائفة من الديانات الأخرى وخاصةً الديانات الشرقية، وبدأوا يتكلمون في التصوف على طريقتهم، فأوجدوا لأنفسهم مصطلحات خاصةً بهم تعبر عن معانيهم، وإن كان التصوف لم يبتعد عن تعاليم الإسلام في هذا بدايات العصر على نحو ما نجده من شطحات الصوفية فيما بعد كالحلولية وقد ظهرت عند الحلاج في هذا العصر.[٣]

وأشهر المتصوفة في هذا العصر ذو النون المصري الذي كان معاصراً للحارث المحاسبي حيث كان أول من تكلم في المقامات والأحوال الصوفية ومع عدم ابتعاده عن عقيدة الإسلام إلا أنه لم يسلك سبيل الزهد المحمدي، وكان أول من تكلم عن علم الباطن في التصوف وأنّ التصوف لخواص الناس.[٣]

أفكار التصوف ورموزه في هذا العصر

كما تقدم فقد بدأت أفكار التصوف ومصطلحاته تظهر في هذا العصر، ومن هذه الأفكار ما يأتي:[٤]

  • تقسيم المعرفة إلى ثلاثة أقسامٍ

قسم يشترك فيه عامةٌ المسلمين، وقسم يشترك فيه العلماء والمتكلمون، وقسّم خاص بالصوفية، وكانت هذه المقولة لذي النون المصري ففرق فيها بين معرفة العلماء وهي عقلية ومعرفة الصوفية وهي قلبية على حد زعمه.

  • جعل التصوف معرفةً باطنية

بحيث لا يمكن الحديث عنها، وأنّ التصوف لخواص الناس ليس كل أحد يستطيع دخوله، وقال به ذو النون المصري.

  • التكلم عن الأحوال والمقامات

وقد ابتدأها ذو النون المصري، وتلاه السري السقطي وهو من نشر التصوف في بغداد وأطال في الحديث عنها.

  • فكرة الفناء في الذات الإلهية

بالإضافة إلى فكرة السكر وفكرة العشق الإلهي وقد أدخلها على التصوف البسطامي، وهي أفكارٌ تخالف الشريعة الإسلامية.

  • فكرة الملامة

ومفادها أنّ يظهر المتصوف للناس أّنه مذنبٌ حتى لا يعلم الناس حقيقة تصوفهم وإخلاصهم لله على حد زعمهم وبهذا تتحقق فكرة ذو النون المصري بأن التصوف للخواص لا يعلمه الناس وقد وضع فكرة الملامة حمدون القصار النيسابوري وكانت البداية لإسقاط الفرائض عن خواص المتصوفة على حد زعمهم.

  • القول بالولاية لشيخ المتصوفة

ووضعها محمد بن علي بن الحسن وزعم أنّ الولاية لها خاتم، كما أنّ للأنبياء خاتم وأن الولاية أعظم من النبوة، وغيرها من أفكار المتصوفة وشطحاتهم.

نماذج من شعر الزهد والتصوف في العصر العباسي الثاني

نماذج من شعر الزهد والتصوف في العصر العباسي الثاني فيما يأتي:

  • يقول ابن الرومي في شعر الزهد واصفاً وقفة الزاهد بين يدي ربه:

بات يدعو الواحدا الصمدا

في ظلام الليل منفردا

خادم لم تُبْقِ خدمتُه

منه لا رُوحاً ولا جَسدا

قد جفتْ عيناه غمْضَهما

والخليُّ القلب قد رقدا

في حشاه من مخافته

حُرُقاتٌ تلْذع الكبِدا

لو تراه وهو منتصب

مُشْعِرٌ أجفانَه السُّهُدا

كلما مَرَّ الوعيدُ به

سحَّ دمعُ العين فاطَّردا

ووهت أركانه جزعاً

وارتقت أنفاسه صُعُدا

قائلٌ يا منتهى أملي

نجِّني مما أخاف غدا

أنا عبدٌ غرّني أملي

وكأنَّ الموتَ قد وردا

وخطيئاتي التي سلفتْ

لستُ أحصي بعضَها عددا[٥]
  • يقول الحلاج وهو أكثر شعراء التصوف الذين جانبوا الزهد الإسلامي وداخلوا تصوفهم بالديانات الشرقية:

سُبحانَ مَن أَظهَرَ ناسوتُهُ

سِرَّ سَنا لا هَوَتهِ الثاقِبِ

ثُمَّ بَدا في خَلقِهِ ظاهِراً

في صورَةِ الآكِلِ وَالشارِبِ

حَتّى لَقَد عايَنَهُ خَلقُهُ

كَلَحظَةِ الحاجِبِ بِالحاجِبِ[٦]

المراجع

  1. ^ أ ب ت شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي، صفحة 4- 104- 106. بتصرّف.
  2. شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي، صفحة 4- 108. بتصرّف.
  3. ^ أ ب شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي، صفحة 4- 108- 109. بتصرّف.
  4. شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي، صفحة 4- 108- 114. بتصرّف.
  5. ابن الرومي، "بات يدعو الواحد الصمدا"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 16/2/2022.
  6. الحلاج، "سبحان من أظهر ناسوته"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 16/2/2022.
5985 مشاهدة
للأعلى للسفل
×