الصورة الفنية في شعر العميان

كتابة:
الصورة الفنية في شعر العميان

مفهوم الشعر

الشِّعرُ هو في الحقيقةِ صورةٌ؛ وهذه الصورةُ ترسمُ ما يقعُ في ذهنِ الشاعر / المُبدعِ. وهو، كذلك، سؤال لا ينتهي؛ تتجدَّدُ ماهيَّتُهُ بتجدّد التلقّي له؛ ولا إجابةَ محدَّةً له؛ إذ بإيجاد الإجابةِ تنتهي قيمةُ القصيدة هذا يعني بالضرورةِ أن الشعر، عبر العصور، شكَّلَ نقطةً مفصليّةً في الحركة الثقافية العربيّة؛ وما دام الشعرُ مبنيًّا على الصورةِ؛ فإنه من الحتميِّ أن يؤخذَ بعين الاعتبار أنّ الصورة تنبني على مجموعةٍ من الأسس التي تنطلقُ منها: المشهد الواقعي: ما قبلَ القصيدةِ، والمشهد الشعري: متن القصيدةِ، والمشهد الناتج: ما بعد القصيدةِ. هذه الصورة تتشكّلُ من خلال مجموعةٍ التقنياتِ الأسلوبيّة البلاغية، التي تُغْنيها، وتجعلَ منها ذاتَ قيمةٍ أساسيّةٍ في صناعة المشهد الشعريّ لدى المتلقّي؛ لكنَّ المثيرَ المدهشَ أكثرَ هو أن تكونَ القصيدةُ، بكل تشكيلاته الصوريّة والبصريّة والبلاغيّة مكتوبةً من شاعرٍ مبدعٍ فقد القدرةَ على الإبصارِ، حينها ستكونُ الصورةُ ذاتَ أفقٍ أشدَّ اتساعًا وأعمقَ دلالةً؛ فهم الذين اقتربوا من الرّوح في شعرِهم فأبصروا في الظلام.[١]

مفهوم الصورة الفنية

الصورةُ الفنيةُ هي الأساسُ الأوّلُ الذي تقوم عليه القصيدةُ، كي تكونَ راسخةَ الأطنابِ وواسعةَ الدّلالةِ؛ إذ إنّها تنبني على منطلقٍ واقعيٍ في البّدْءِ، ثم يتمُّ تشكُّلُها من خلال توظيفِ مجموعةٍ من التقنياتِ الأسلوبيّة التي تعززُ قيمةَ الصورةِ، حيثُ تقوم على الخيال الابتكاريِّ مِهادًا لها؛ إذ "يؤدي الخيالُ الابتكاريُّ دورًا مُهمًّا في تشكيل الصور الشعريّة، بهدف التعبير عن معنى جديد"[٢]. إن أهمَّ ما يجعلُ من الشعرِ فنًّا مُنمازًا عن غيره من الفنون الإبداعية هو امتلاكُه لسمَتَيْن مهمّتين: الموسيقى والصورة؛ فليس من الممكنِ أن يعدّ الكلام شِعرًا إذا خلا من الصورة والموسيقى المتمثّلة بالوزن والجانب العَروضيّ؛ فكما قال الجاحظ: "فإنّما الشعرُ صناعةٌ، وضَربٌ من الصَّبغِ، وجنسٌ من التصوير"[٣]، كأنما الجاحظُ يشيرُ بوضوح إلى أهمية التصوير في الشعر، حيثُ إن الصورةَ الفنيةَ تمنحُ القصيدةَ الصِّبغةَ المميزةَ لها، يقوم الشاعرُ بصناعتها؛ عن طريقِ توظيفِ الأساليبِ البلاغيّة؛ من أجل تحقيق المُبتغى الفنّي للشعر. لكننا لا نجدُ لها مصطلَحًا واضحَ المعالمِ في النقد القديمِ، وإنما كان الحديث عنها تحت باب "التصوير" أو "الخيال". ففي معجم "لاروس" الذي يعرف الصورة الفنية بأنها: "أسلوب يجعلُ الفكرةَ أكثرَ حساسيّةً وأكثرَ شاعريّةً، وتمنحُ الشيءَ الموصوفَ أو المتكلَّم عنه أشكالاً وملامحَ مُستعارةً من أشياء أخرى، تكون مع الشيء الموصوفِ علاقات التشابه والتقارب من أي وجه من الوجوه"[٤].


لقد تناول النقّاد مفهومَ "الصورة الفنيّة" بغيرِ مُسمّى اصطلاحيّ؛ فأطلقوا مصطلحات متعددة؛ مثل: الصورة الفنية، والصورة الشعرية، والصورة الأدبية، والصورة البلاغية، والصورة البيانيّة، والصورة الذهنية. هذه المصطلحاتُ كلُّها لم تُخرجِ الأساسَ البنائي الشعري للصورةِ من بوتقةِ الدهشة؛ فهي فنٌّ وشعرٌ وأدب وبلاغةٌ وبيانٌ ومبنيّة في الذّهن في آنٍ معًا؛ ومن هنا فإنه من الجديرِ القولُ "إن الصورةَ الشعريّةَ هي وليدةُ عواملَ تتداخلُ في تكوينها، ومن هنا تقفُ النفسُ الشاعرةُ في مقدمة هذه العواملِ، بما تمتلكه من موهبةٍ قادرةٍ على تطويعِ مفرداتِ اللغةِ، ودمجها في نسق معيّن لتشكِّلَ منها صورةً فنيّة، فالقيمةُ الفنية للصورة الفنية الأدبيّة، بصفتها بنيةً واصفةً تكمن في مدى فاعليّة هذه الكلمات المجازيّة والمعنوية في تحقيق فنيّةِ الصياغةِ وإثارةِ الظلالِ التي تبعثها والإيحاءات التي تشع من تلاقي هذه الدلالات"[٥].


علاقة الخيال الشعري بالصورة الفنية

إنَّ علاقةَ الخيالِ بالصورةِ الفنية تشبه إلى حدّ كبير علاقةَ الروح بالجسد؛ إذ لا يمكن أن تكتسبَ الصورةَ فنيّتها وقيمتَها سوى إن لبست ثوبَ الخيالِ؛ فالخيالُ هو الملَكَةُ التي تُوجِدُ الصورةَ الفنيّةَ وتُشكِّلها، كما أنه أبرزُ قوى الإنسانِ الذهتيّة؛ فهي شعورٌ وجدانيٌّ غامضٌ بغيرِ شكلٍ، وبغير ملامج تناوله الخيالَ المؤلَّفَ أو الخيالَ المركَّبَ؛ وتتعاضدُ مع الخيال المبدع الموسيقى الموحيةُ، واللغةُ الفنيّة، والفكرةُ المشرقةُ، والعاطفةُ الصادقة[٦].


إن الخيالَ، بذلك، ذو علاقةٍ أساسيّةٍ بخلق الصورة الفنيّة، حيثُ تتجلى عبقريّة الخيال بمدى الأثر الوجدانيّ الذي يتكوّن داخل نفس المتلقّي، من خلال تشكيل صورة ذهنية للصورة المكتوبة؛ إن الخيالَ ذو تأثيرٍ عميق في بنيةِ الصورة الفنية؛ فالصورة في الشعرِ، كما يقولُ كولريدج: ليست إلا تعبيرًا عن حالةٍ نفسيةٍ مُعيّنةٍ يعاينها الشاعرُ إزاءَ موقفٍ معيّن من مواقفه مع الحياة"[٧]؛ لذا فالمتمعّنُ في أيِّ صورةٍ فنيّة داخل أيِّ نصٍّ شعريٍّ، فلا بدَّ أن يمنحَهُ هذا التصويرُ القدرةَ على التخيّلِ والخيالِ؛ لقد أصبحَ الخيالُ يُسَمّى في الدراسات النقديّة المعاصرة بالمجاز، المجاز الذي يقوم على قوّة استنادية بلاغية تمنحه الكينونةَ وقيمة الوجودِ النصّيّ، بحيثُ يصبحُ هذا المجازُ قادرًا على تحقيقِ الصورة الذهنية المتصوّرة داخل بوتقة التخيّل القائم على انعكاسِ النص المرئي داخل الفكر اللا مرئيّ، وربَّما ارتبطَ هذا الأمرُ بما يمكنُ تسميته بِـ"الصدق الفنّي" فكلما كانت الصورة المتخيلة مطابقة للواقع، كانت أكثر تأثيرًا في النفس والوجدان وأكثرَ رسوخًا في ذات المتلقّي.[٨]


الصورة الفنية في شعر العميان

مُدهِشةٌ جدًّا تلكَ الصورةُ الشعريةُ التي تمنحُ المتلقي آفاقًا واسعةً من التخيلات والآمال التي يبتغيها من خلال قراءته للنص الشعريّ؛ لكنَّ الأكثرَ دهشةً هو أن تكونَ الصورةُ الفنية في القصيدة الشعرية متولّدةً من مبدعٍ شاعرٍ أعمى؛ هنا يتساءلُ المتلقي: كيفَ استطاعَ الشاعرُ التخيُّلَ، رغم عدم قدرته على الإبصار؟ والصورة تحتاجُ بالضرورةِ إلى أساسٍ مرجعي بصريٍّ يخلقُ في الذهن صورةً راسخةً يترجمها الشاعرُ إلى صورةٍ فنية مكتوبةٍ. وهذا، في الحقيقةِ، ما يدفعُ إلى سؤالٍ آخرَ أكثرَ عمقًا: هل اعتمدَ الشعراءُ العُميانُ في بنائهم للصورة الفنيّة على الجانب البصريّ فقط؟ أم أنّهم حاولوا أن يوظفوا ما تمكنُ تمسيته بـ:"تراسل الحواس" في بناء الصورة؛ لكي يعوِّضوا النقصَ الحتميّ المتمثل في استحالةٍ التصوير الذهني المعتمد على الحاسّة البصريّة! وإلى هذا يشيرُ ابنُ طباطبا فيقول: إن كلَّ حاسّةٍ من حواسّ البدن إنما تتقبل ما يتصلُ بها مما طُبعت له إذا كان وورده عليها ورودًا لطيفًا، باعتدالٍ لا جورَ فيه، وبموافقةٍ لا مضادّة معها، فالعين تألف المرأى الحسن، وتتأذى بالمرأى القبيح الكريه، والأنفُ يقبلُ المشمّ الطيّب، ويتأذى بالنتن الخبيث، والفمُ يتلذذُ بالمذاق الحلو، ويمج البشعَ المر، والأذن تتشوق للصوت الخفيض الساكن، وتتأذى بالجهير الهائل، واليد تنعم بالملمس اللين الناعم، وتتأذى بالخشن المؤذي[٩].


وقد أشار أبو هلال العسكريّ عند حديثه عن جودة التشبيه البليغ، إذ يقول: "وأجود أنواع التشبيه ما يقعُ على أربعة أوجه أحدها: إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسّةُ" [١٠]. لقد وقعَ العميانُ في مأزقٍ إبداعيّ في تحقيق الصورة الفنيّة، لكنهم تغلبوا عليه في أنهم حاولوا تصوير ما "يرونه" هم لا ما يجب أن يرونه؛ أي أنهم حاولوا مجاراةَ المبصرينَ في تصاويرهم الشعريّة؛ لذلك فإنَّ المطّلعَ على الصور الفنيّة في شعر العميان لَيَجدُ ابتعادَهم عن ذكر العلاقةِ بين المشبّه والمشبّه به؛ بسبب وجود تصورات مختلفة في دواخلهم، وهي تصوّرات غير عينيّة؛ بل قائمة على المحاكاة التخيليّة الذهنية في كثير من الأحيان؛ فلا يقتصرُ، بهذا الشكلِ، التشبيهُ على تصوير صورة مرئية بصورة مرئية، فربما لجأ الشاعرُ الأعمى إلى تصوير صوتٍ أو لمسةٍ أو فعلٍ أو طبعٍ[١١].


أمّا في سياق الشعراء العميان الذين أبدعوا في رسم الصورة الفنية بكل إتقان وبطرائق تفوق حتى الشعراءَ المبصرين، ومنهم:


إنَّ الناظرَ في شعر بشار بن بردٍ على سبيلِ المثالِ حينما يقول:  

أولاكَ الأُلى شَقّوا العَمى بسِيُوفِهِمْ ** مِنَ العَيْنِ حتّى أبصَرَ الحَقَّ طالِبُهْ[١٢]


لَيَجِدُ أن ابنَ بُردٍ رغمَ عماه، إلا أنه يستندُ إلى تصويرٍ بصريٍّ شديدِ الدقّة، حينما يصوّر السيوفَ التي كالنهار كيفّ شقّت عتمَ العمى؛ فأبصرَ نورَ الحقِّ؛ إنه نوعٌ من التحدّي، وعدم الرضوخِ إلى عُقدة النقص البصري التي عانى منها الشعراء العميان. أما بالنسبةِ إلى ما ذُكرَ أعلاه تحت عنوان "تراسل الحواس" فيمكن ذكرِ بيتٍ آخر لبشار بن برد يستعيضُ عن البصر فيه باللمسِ؛ فيقول:

أُمامةُ قد وُصِفتِ لنا بِحُسْنٍ ** وإنّا لا نراكِ فألمسينا[١٣]


وبهذا فإن العميانَ، وفي نماذج سيتم عرضها في المحور اللاحق، قد أبدعوا في رسم الصور الفنية في شعرهم، ولم يُعِقهُم عدم القدرة البصرية على خلق الصورة، فعملوا على رسم معالم تلك الصور الفنية بطرائق بلاغية عديدة تفننوا بها، حتى ليَظُنُّ المتلقي أن المبدع لمثل هذه القصائد من المستحيلِ أن يكونَ غيرَ مبصرٍ؛ بسبب القدرة الكبيرة والدقة العظيمة في التصور والتصوير الإبداعيَّيْنِ.


شواهد الصورة الفنية في شعر العميان

كَثُرتِ الشواهدُ الشعريّةُ الدالة على الصور الفنية المبدعة عند الشعراء العميان، حيث سيتم في هذا المحور ذكر لبعض النماذج الشعرية التي تميزت باحتوائها على الصورة الفنية، ومن ذلك:

  • يقول المعرّي في وصف البرق، وما يكوّنه من صورة مع ظلام الليل:

إذا ما اهتاجَ أحمرَ مُستَطيرًا ** حسبتَ الليلَ زِنجيًّا جريحا[١٤]


  • يقول بشار بن برد في وصف مدى قوة المعركة والصراع بين الجنود وتهاوي السيوف على الرّقاب:

كأن مُثارَ النّقعِ فوق رؤوسِهم ** وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبُه[١٥]


حيثُ تهوي قِطَعُ الظلما ** كأشلاء الضحايا

وتُطِلُّ الوحشةُ الخر ** ساءُ كأجفانِ المنايا

والدُّجى ينسابُ في الصمـ ** ـتِ كأطيافِ الخطايا[١٦]


  • يقول الأعمى التطيلي في وصف الليل والنهار كما يتصوّره:

والصُّبحُ في الظلماءِ سقَطَ في فحم ** تَنسَلُّ عنه تارةً وتلتئم

حتى فرى تلك الدياجي فحَسَمْ ** وسال بالنجوم سيلَةَ العَرَمْ[١٧]

المراجع

  1. "عميان الأدب اقتربوا من الروح فأبصروا في الظلام"، www.albayan.ae، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-21.
  2. حنين معالي، "الصورة الشعريّة في الشعر الحديث"، sotor.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19.
  3. إحسان عباس، "العلاقة بين الشعر والرسم"، islamport.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-20.
  4. عبد اللطيف حني، "شعرية الانزياح وبلاغة الإدهاش في الخطاب الشعري الشعبي الجزائري"، www.univ-soukahras.dz، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19.
  5. بونوالة صحراوي، "بنية اللغة الشعرية في النقد اللغوي: من المعيار إلى التجاوز"، books.google.jo، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-21.
  6. كبلوتي قندوز (2014-01-01)، "أصول الصورة الشعرية في الشعر الجاهلي ذاكرة الوعي واللاوعي"، الواحات للبحوث والدراسات، العدد 2، المجلد 7، صفحة 19. بتصرّف.
  7. كبلوتي قندوز (2014-01-01)، "أصول الصورة الشعرية في الشعر الجاهلي"، الواحات للبحوث والدراسات، العدد 2، المجلد 7، صفحة 23.
  8. "الخيال الشعري عند العرب"، books.google.jo، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-21. بتصرّف.
  9. أحمد رمضان، "الاستعارة في القرآن الكريم أنماطها ودلالاتها البلاغية"، books.google.jo، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-21.
  10. نجلاء عليوي (2018-09-01)، "توظيف الحواس في غزليات بشار بن برد"، آداب الفراهيدي، العدد 35، صفحة 4.
  11. "الصورة الفنية في شعر العميان"، books.google.jo، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-21. بتصرّف.
  12. بشار بن برد، "لألقى بني غيلان إن فعالهم"، www.aldiwan.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-21.
  13. "التصوير الفني في شعر العميان"، www.albayan.ae، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-21.
  14. عبد الله الفيفي، "الصورة البصرية في شعر العميان"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-21.
  15. بشار بن برد، "جفا وده"، www.adab.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-21.
  16. عبد الله البردوني، "فلسفة الفن"، www.adab.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-21.
  17. "الأعمى التطيلي شاعر المرابطين"، books.google.jo، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-21.
3186 مشاهدة
للأعلى للسفل
×