العبر المستفادة من سورة الزخرف

كتابة:
العبر المستفادة من سورة الزخرف

الاعتبار بقصص الأمم السابقة

قال -تعالى-: (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ* وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ* فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ)،[١] وقال أيضاً: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَـنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ... فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ).[٢]

أرشدت سورة الزخرف في الكثير من آياتها إلى الاعتبار بقصص الأمم السابقة، فالآيات الأولى تُخبر عن كثرة الأنبياء والرسل الذين أُرسلوا إلى الأقوام السابقة، فكانوا يستهزؤون بهم ويسخرون منهم، ولا يستجيبون لدعوتهم، فكانت عاقبتهم هي الهلاك مهما بلغت قوّتهم، وفي هذا تسلية لرسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في مواجهة ما يلاقيه من أذى قومه وتكذيبهم.[٣]

أمّا الآيات الأخرى فقد فصلّت في ذكر شيءٍ من أخبار الأمم السابقة وحالهم مع الرسل الكرام، ومنهم موسى -عليه السلام- وعيسى -عليه السلام-، فالنبي موسى جاء لفرعون وقومه بآيات بيّناتٍ تظهر صدقه وصدق دعوته، ولكنّ فرعون استكبر ولم يرضَ اتّباع الحق، وقد طغى على قومه وذهب بعقولهم حتّى أطاعوه، فهلك وهلكوا.[٤]

وعيسى -عليه السلام- دعا قومه لعبادة الله وحده، ولكنّهم أشركوا بالله وقالوا به أقوالاً لا تليق ولا تستقيم، فكان العقاب الأليم هو مصير هؤلاء وغيرهم ممّن ارتكب جرائمهم، أمّا أهل الصلاح مهما ظنّ البشر أنّهم ضعفاء وليس لهم حيلة، فستكون عاقبتهم حميدة، فهم مؤيّدون من ربّ حكيمٍ عليمٍ.[٤]

قدرة الله تعالى على الخلق

قال -تعالى-: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ... وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ).[٥] توضّح هذه الآيات أنّ العباد جميعهم يعلمون أنّ الله -تعالى- هو خالق كلّ شيء، ولكنّ البشر الذين انحرفت عقيدتهم لم يتوجّهوا إلى خالقهم المنعم عليهم بالعبادة، بل عبدوا غيره وجعلوا له شركاء، ونسبوا له ما لا يجوز في حقّه من الصاحبة والولد -تعالى الله عن ذلك-.[٦]

والعبد ذو الفطرة السليمة يُدرك من خلال تفكّره في خلق الله وقدرته -سبحانه- أنّ العبادة لا ينبغي إلّا أن تكون له، وأنّ الرجعة ستكون له لا محالة.[٧]

معرفة حقيقة الملائكة وأنها من عباد الله

قال -تعالى-: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَـنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ* وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَـنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ).[٨]

إنّ الملائكة الكرام هم عباد لله لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة، ولكنّ بعض الأقوام قالوا أنّهم من الإناث، وتوجّهوا إليهم بالعبادة، وعلّلوا معرفتهم هذه بأنّهم ورثوها عن آبائهم، وأنّ الله -تعالى- لو لم يرتضِ هذه العبادة لصَرَفهم عنها بعقوبة، وهذا من الضلال الذي يجب الابتعاد عنه، فالموروث عن الآباء والأجداد ليس بالضرورة أن يكون صحيحاً.[٩]

ضرورة التفكر وعدم اتباع الباطل

قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ* قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ* فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ* وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ* إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ).[١٠]

تذمّ هذه الآيات الكريمات اتّباع الآيات بلا دليل مجرد اتّباع أعمى خالٍ من كلّ منطق، وتمدح نموذجاً آخرَ، نموذجاً كان برهاناً عملياً على أنّ التفكّر وحُسن التدبّر يورث الإيمان الخالص، فالفطرة السليمة تدلّ على الله وتُرشد إلى توحيده.[١١]

وهذا النموذج هو النبي إبراهيم -عليه السلام- الذي وُصِف بأنّه أمةٌ وحده، فهو الذي سار إلى ربّه تاركاً للكفر وأهله، إذ لا بدّ للعبد من إعمال عقله وفكره، وعدم ارتضاء العقائد الباطلة، وإن اعتنقها الجميع.[١١]

تذكر حجم الحياة الدنيا من الآخرة

قال -تعالى-: (وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)،[١٢] إذ تدلّ هذه الآية على أنّ كلّ ما في الدنيا من ذهب وفضّة وغيرهما من المتاع ما هو إلّا زائل وذاهب، ولن تكون العاقبة الحسنة، وهي الجنّة في الآخرة إلّا لمن آمن بربّه وأتّقاه -سبحانه-.[١٣]

الحذر من الإعراض عن شرع الله

قال -تعالى-: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ* وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ* حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ* وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ* أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ* فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ).[١٤]

تُحذّر هذه الآيات من الإعراض عن شرع الله -تعالى- وذكره، وتُبيّن أنّ الشياطين هم من يوحون لأوليائهم بذلك، ولكنّهم يُضلّونهم ويَغشون على أبصارهم، حتّى يظنّ أتباعهم بأنّ هذا طريق الهداية، ولكنّهم في الآخرة سيتمنّون لو أنّهم لم يتّبعوهم، ولكنّ هذه الأمنية لن تنفعهم، ولن ينفعهم كذلك اشتراكهم في العذاب مع من أضلّهم وصدّهم عن سبيل الله في الدنيا.[١٥]

بيان أحوال المتقين والمجرمين يوم القيامة

قال -تعالى-: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ... أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)،[١٦] تُخبر هذه الآيات أنّ الصداقة التي ستدوم في الآخرة هي الصداقة القائمة على الإيمان والتواصي بالحق.[١٧]

أمّا ما كان منها اجتماعاً على الكفر والإثم ومحاولة صدّ أهل الإيمان عن إيمانهم، فستكون وبالاً على أصحابها في الآخرة وستنقلب صداقتهم عداوةً، ثمّ تُبيّن هذه الآيات أحوال أهل التقوى في الآخرة، وتصف شيئاً من نعيمهم، وتُقابل ذلك بحال المجرمين، وما سينالهم من العذاب والهلاك.[١٧]

تنزيه الله تعالى عن الشريك والولد

قال -تعالى-: (قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ... فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)،[١٨] تُنزّه هذه الآيات الله -تعالى- تنزيهاً هو غاية في البلاغة عن الولد، فالولد ممتنعٌ في حقّه -سبحانه-؛ لأنّ ذلك يعني النقص والعجز، وهذا ممّا يستحيل في حقّه.[١٩]

وقد جاءت هذه الآيات تقول للنبي محمّد أن يقول للكفّار على سبيل الافتراض بأنّه لو كان لله ولدٌ، فسيكون هو أوّل من يعبده، ولكنّ هذا يجب أن يثبت بدليل صادق وصحيح، وهذا مستحيل كما تقدّم.[١٩]

المراجع

  1. سورة الزخرف، آية:6-8
  2. سورة الزخرف، آية:46-65
  3. القرطبي، شمس الدين، كتاب تفسير القرطبي، صفحة 63. بتصرّف.
  4. ^ أ ب عبد الرحمن السعدي، كتاب تفسير السعدي، صفحة 767-768. بتصرّف.
  5. سورة الزخرف، آية:9-14
  6. عبد الرحمن السعدي، كتاب تفسير السعدي، صفحة 763. بتصرّف.
  7. ابن الجوزي، كتاب زاد المسير في علم التفسير، صفحة 73. بتصرّف.
  8. سورة الزخرف، آية:19-20
  9. البغوي، أبو محمد، كتاب تفسير البغوي، صفحة 209. بتصرّف.
  10. سورة الزخرف، آية:23-27
  11. ^ أ ب الواحدي، كتاب التفسير الوسيط للواحدي، صفحة 69. بتصرّف.
  12. سورة الزخرف، آية:35
  13. البغوي، أبو محمد، كتاب تفسير البغوي، صفحة 212. بتصرّف.
  14. سورة الزخرف، آية:36-41
  15. مجموعة من المؤلفين، كتاب التفسير الوسيط، صفحة 307-308. بتصرّف.
  16. سورة الزخرف، آية:67-80
  17. ^ أ ب محمد سيد طنطاوي، كتاب التفسير الوسيط لطنطاوي، صفحة 97-102. بتصرّف.
  18. سورة الزخرف، آية:81-89
  19. ^ أ ب وهبة الزحيلي، كتاب التفسير المنير، صفحة 195. بتصرّف.
5098 مشاهدة
للأعلى للسفل
×