تأملات في سورة القلم

كتابة:
تأملات في سورة القلم

سورة القلم

سورة القلم من السّور الموزّعة آياتها بين المكّيّة والمدنيّة على خلاف بين العلماء، أي منها ما نزل على الرسول محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- في مكّة المكرّمة، ومنها ما نزل في المدينة المنوّرة، وهي من سور المفصّل، وهي في الجزء التّاسع والعشرين في القرآن الكريم، وترتيبها السّورة الثّامنة والستّون، وعدد آياتها اثنتان خمسون آية، نزلت بعد سورة العلق، وبدأت كغيرها من بعض سور القرآن بالقسم، إلّا أنّها قبل القسم بدأها الباري سبحانه، بحرف النون منفردًا ثمّ تلاه بالقسم، قال تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}،[١] وسيتمّ التّركيز خلال المقال على تأملات في سورة القلم.[٢]

تأملات في سورة القلم

تتمحور سورة القلم حول ثلاثة مواضيع، موضوع رسالة النّبيّ –صلّى الله عليه وسلّم- وما أثاره كفّار مكّة من الشّبهات حول دعوته، وقصّة أصحاب البستان وما أنزله الله بهم نتيجة كفرهم، وأهوال الآخرة وشدائدها، وما أعدّه الله للفريقين، ولكنّ المحور الرئيسيّ للسّورة هو إثبات رسالة محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- وللوقوف على تأملات في سورة القلم، فقد تمّ اختيار هذه الآية من سورة القلم، قال الله تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}،[٣]وقال في سورة الطور: {وَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ}،[٤]فمن الملاحظ أنّ الله تعالى زاد في الآية التي من سورة الطّور على الآية التي من سورة القلم بـ "بكاهن" فما هو السّبب؟ فقد وجد أكثر من سبب لذلك، ومن هذه الأسباب:[٥]

  • إن الله تعالى قد فصّل في سورة الطّور بذكر ما قاله المشركون في النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بأنّه كاهن ومجنون وشاعر، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}،[٦] كما أنّهم قالوا عنه بأنّه كاذب، لقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ}،[٧] بينما لم يذكر سوى قولهم إنّه مجنون في سورة القلم، {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ}،[٨] فكان ذلك مناسبًا لذكر هذه الزيادة في سورة الطور.
  • وكذلك ذكر الاستماع في سورة الطّور في قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}،[٩] والاستماع من ادّعاءات الكهنة لمن يتبعهم من الجنِّ، فكان ذلك مناسبًا لذكر الكهنة فيها.
  • ومن هذه الأسباب ذكره للسحر في سورة الطّور فقال: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ}،[١٠] فكان ذكر السّحر مناسبًا لذكرَ الكهنة.
  • وممّا جعل ذلك أفضل أيضاً توسّعه في القَسَم في أول سورة الطّور بخلاف سورة القلم، فقد قال: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ *.*.*.* وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ}،[١١] بينما لم يقسم الله تعالى في سورة القلم إلّا بالقلم وما يسطرون، فكان التوسع في الطّور مناسبًا لهذه الزّيادة.
  • وقد ورد في سورة القلم في آخر السّورة قول المشركين، بأنّه لمجنون ولم يزد على هذا القول، فقال: {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ}،[٨] فكان الرّد عليهم في بداية السّورة بنفي الجنون عنه فقال: {مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}،[١٢] فكان آخر السورة مناسبًا لأوّلها.

ومن ناحية أخرى فقد جاء التّوكيد مناسبًا بالباء الزّائدة في النّفي{بمجنون}،[١٢] وكذلك التّوكيد باللّام في الإثبات{لمجنون}،[٨] وذلك لأنّ الباء لتوكيد النّفي واللّام لتوكيد الإثبات.

التخلق بأخلاق القرآن

فقد جاء في حديث سعد بن هشام قال: أتَيْتُ عائشةَ، فقُلْتُ: يا أُمَّ المُؤمِنينَ، أخْبِريني بخُلُقِ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- قالت: كان خُلُقُه القُرآنَ، أمَا تَقرَأُ القُرآنَ، قولَ اللهِ عزَّ وجلَّ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}"،[١٣] وقولها: كان خلقه القرآن، هذا يعني: تدبّر كتاب الله تعالى بحسن تلاوته وفهم معناه والعمل به، والالتزام بكلّ أوامره ونواهيه، والتّخلّق بأخلاقه، والتّأدب بآدابه، والاعتبار بقصصه وأمثاله، فقد كان النّبيّ –صلّى الله عليه وسلّم- كما في الحديث السّابق يتخلّق بأخلاق القرآن، ويتأدّب بآدابه، وكان يرضى بما مدحه القرآن، وكان يسخط ممّا ذمه القرآن، كَانَ خُلُقُهُ القُرآنُ، يَرضَى لِرِضَاه، وَيَسخَطُ لِسَخَطِهِ، ويستخلص ممّا سبق، بأنّه يجب على المؤمن أن يكون خلقه جميع ما جاء في القرآن الكريم، وأن يتحلّى بكُلَّ ما استحسنه القرآن، وأثنى عليه ودعا إليه، وأن يتجنّب ويتخلّى عن كلّ ما استهجنه القرآن، ونهى عنه، فيكون القرآن بيان خلقه، ويصبح هذا المؤمن قرآنًا يمشي بين النّاس في الطّرقات.[١٤]

المراجع

  1. سورة القلم، آية: 1.
  2. أبو القاسم، محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، ابن جزي الكلبي الغرناطي (1416 هـ )، التسهيل لعلوم التنزيل (الطبعة الأولى)، بيروت: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم، صفحة 398، جزء 2. بتصرّف.
  3. سورة القلم، آية: 2.
  4. سورة الطور، آية: 29.
  5. فاضل صالح السامرائي، لمسات بيانية، صفحة 109. بتصرّف.
  6. سورة الطور، آية: 31.
  7. سورة الطور، آية: 33.
  8. ^ أ ب ت سورة القلم، آية: 51.
  9. سورة الطور، آية: 38.
  10. سورة الطور، آية: 15.
  11. سورة الطّور، آية: 1-6.
  12. ^ أ ب سورة القلم، آية: 2.
  13. رواه شعيب الأرناؤوط، في تخريج المسند، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم: 24601، صحيح.
  14. "نعم ، كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن"، www.islamqa.info، اطّلع عليه بتاريخ 27-07-2019. بتصرّف.
4071 مشاهدة
للأعلى للسفل
×