محتويات
التحليل الموضوعي لقصيدة ردوا علي الصبا للبارودي
إنّ المتأمل في هذه القصيدة يجد أنّ الشاعر يسير على نمط القدامى في تنوّع الموضوعات فنراه في مطلع القصيدة يتناول موضوع الغزل والتشبيب، فالشاعر يتمنى أن يعود شابًا يافعًا ليستطيع أن يعاشر الحب، وأن يتذوق طعمه، إلا أن عمره قد مضى، وأصبحت أيام صبابته مجرد ذكرى، وما زالت المحبوبة معرضةً عنه ولم تغير موقفها منه، كما في قوله:[١]
رُدُّوا عَلَيَّ الصِّبَا مِنْ عَصْرِيَ الْخَالِي
:::وَهَلْ يَعُودُ سَوَادُ اللّمَّةِ الْبَالِي
مَاضٍ مِنَ الْعَيْشِ مَا لاحَتْ مَخَايِلُهُ
:::فِي صَفْحَةِ الْفِكْرِ إِلا هَاجَ بَلْبَالِي
سَلَتْ قُلُوبٌ فَقَرَّتْ في مَضَاجِعِهَا
:::بَعْدَ الْحَنِينِ وَقَلْبِي لَيْسَ بِالسَّالِي
لَمْ يَدْرِ مَنْ بَاتَ مَسْرُوراً بِلَذَّتِهِ
:::أَنِّي بِنَارِ الأَسَى مِنْ هَجْرِهِ صَالِي
يَا غَاضِبينَ عَليْنَا هَلْ إِلَى عِدَةٍ
:::بِالْوَصْلِ يَوْمٌ أُنَاغِي فِيهِ إِقْبَالِي
غِبْتُمْ فَأَظْلَمَ يَوْمِي بَعْدَ فُرْقَتِكُمْ
:::وَسَاءَ صُنْعُ اللَّيَالِي بَعْدَ إِجْمَالِ
قَدْ كُنْتُ أَحْسَبُنِي مِنْكُمْ عَلَى ثِقَةٍ
:::حَتَّى مُنِيتُ بِمَا لَمْ يَجْرِ فِي بَالِي
لَمْ أَجْنِ فِي الْحُبِّ ذَنْبَاً أَسْتَحِقُّ بِهِ
:::عَتْبَاً وَلَكِنَّهَا تَحْرِيفُ أَقْوَالِ[١]
يتحدث الشاعر عن نفسه، ويعلن أنّه ليس كباقي الناس، فهو شخصية لا تحب الغدر والخداع، ولا يقبل الرشوة بالمال، فهو عفيف النفس، صاحب كرامة، مُقلّدٌ لآبائه وأجداده في تبني أخلاقهم وحسن سيرتهم وسلوكهم، لكنه يشعر بالغربة والوحدة، لأنَّ من يتحلى بمثل هذه المبادئ قلائل، كما في قوله:[١]
لا عَيْبَ فِيَّ سِوَى حُرِّيَّةٍ مَلَكَتْ
:::أَعِنَّتِي عَنْ قَبُولِ الذُّلِّ بِالْمَالِ
تَبِعْتُ خُطَّةَ آبَائِي فَسِرْتُ بِهَا
:::عَلَى وَتِيرَةِ آدَابٍ وَآسَالِ
فَمَا يَمُرُّ خَيَالُ الْغَدْرِ فِي خَلَدِي
:::وَلا تَلُوحُ سِمَاتُ الشَّرِّ فِي خَالِي
قَلْبِي سَلِيمٌ وَنَفْسِي حُرَّةٌ وَيَدِي
:::مَأْمُونَةٌ وَلِسَانِي غَيْرُ خَتَّالِ
لَكِنَّنِي فِي زَمَانٍ عِشْتُ مُغْتَرِبَاً
:::فِي أَهْلِهِ حِينَ قَلَّتْ فِيهِ أَمْثَالِي
يتحدث الشاعر عن معاناته مع مجتمعه، وما يلاقيه منهم من ضغوط حتى يصبح مثلهم ويتبع سلوكهم، إلا أنّه يصر على أن يبقى كما هو، فهو لا يلتفت لأغراض الدنيا الفانية، فلا يهمه المال ولا الثراء، ولا يتيح المجال لغيره أن يلومه ويلحق به العار وأن يذكره بسوء.[١]
التحليل الفني للقصيدة
إنّ المتأمل لهذه القصيدة يجد أنّ الشاعر عبّر فيها عن فلسفته في الحياة والتعامل القائمة على التحلي بالأخلاق الحميدة، حتى لو هُجِر من الناس كافة، فنراه يقول إنّه خَبِر الحياة كلها، وأدرك خيرها وشرّها، فيشبه الحياةَ بضرعين يُحلبان، أحدهما للخير والآخر للشر، وأنّه عرفهما وصار يميز بين الخير والشر، كما نرى في قوله:[١]
بَلَوْتُ دَهْرِي فَمَا أَحْمَدْتُ سِيرَتَهُ
:::فِي سَابِقٍ مِنْ لَيَالِيهِ وَلا تَالِي
حَلَبْتُ شَطْرَيْهِ مِنْ يُسْرٍ وَمَعْسرَةٍ
:::وَذُقْتُ طَعْمَيْهِ مِنْ خِصْبٍ وَإِمْحَالِ
فَمَا أَسِفْتُ لِبُؤْسٍ بَعْدَ مَقْدرَةٍ
:::وَلا فَرِحْتُ بِوَفْرٍ بَعْدَ إِقْلالِ
ومن ثم يصف نفسه بأنَّها نفسٌ عفيفة لا تُقاد بسهولة، فيصف نفسه بجواد جامح لا يكبحه لجام، ولعل تشبيه نفسه بالجواد له دلالة أسلوبية تتمثل بأنَّ الخيل الأصيلة لا تروُض بسهولة، فنفسه صعبة الإغواء والترويض، إلا أنّ هذا الأمر جعله وحيدًا بلا أصدقاء، فالشاعر يعاني من الغربة الوجودية لقلة الصحب وانعدامهم، كما نرى في قوله:[١]
عَفَافَةٌ نَزَّهَتْ نَفْسِي فَمَا عَلِقَتْ
:::بِلَوْثَةٍ مِنْ غُبَارِ الذَّمِّ أَذْيَالِي
فَالْيَوْمَ لا رَسَنِي طَوْعُ الْقِيَادِ وَلا
:::قَلْبِي إِلَى زَهْرَةِ الدُّنْيَا بِمَيَّالِ
لَمْ يَبْقَ لِي أَرَبٌ فِي الدَّهْرِ أَطْلُبُهُ
:::إِلا صَحَابَةُ حُرٍّ صَادِقِ الْخَالِ
وَأَيْنَ أُدْرِكُ مَا أَبْغِيهِ مِنْ وَطَرٍ
:::وَالصِّدْقُ فِي الدَّهْرِ أَعْيَا كُلَّ مُحْتَالِ
التحليل الإيقاعي للقصيدة
إنّ المتأمل في هذه القصيدة يجد أنّ الشاعر يستند على النموذج القديم في بناء قصيدته إذ نجد أنَّها تتميز بوحدة الوزن والقافية، فهي في البداية تبدأ ببيت مقفّى ومصرّع، وهذا الأمر يخلق موسيقا تتناسب مع الموسيقا الخارجية، وتظهر براعة الشاعر في صياغة الشعر، وترتيب الألفاظ.
هذه القصيدة تقوم على البحر البسيط، وهو بحرٌ طويلٌ متعدد التفعيلات، إذ يتكون كل بيت من ثماني تفعيلات مختلفة، وهذا الأمر يتيح للشاعر الإطالة والاسترسال في الكلام، لأنه قد نال قسطًا من الحرية في مساحة التعبير، فالشعر أحيانًا يقيد الشاعر في القدرة على التعبير عن المعاني، وتظهر البراعة في اختيار الألفاظ التي تختزل المعاني المرادة.