تطور مفهوم الوطن في الشعر العربي

كتابة:
تطور مفهوم الوطن في الشعر العربي

مفهوم الوطن في الشعر العربي

يعدّ الوطن أوّل وسيلة يلجأ إليها الشاعر العربيُّ للتّعبير عن مشاعره الجيّاشة سواء كانت هذه المشاعر فرحًا أو حزنًا أو حنينًا. فهومرآة تعكس لنا الحالة الاجتماعيّة والسّياسيّة المحيطة به في مختلف الأزمنة، وربّما يعود الفضل لللشعر في معرفتنا للكثير من الطروف التي كانت في مختلف العصور ومن خلال ذلك يمكننا رصد مفهوم الوطن في مختلف العصور الأدبية وتطوره.

اتّخذ مفهوم الوطن في الشعر العربي أنماطًا متعددة اختلفت باخلاتف هذا العصر والبيئة التي تحيط بالشاعر بمعطياتها المختلفة، والظروف الاجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية، إضافة لخصوصية ظرف هذا الشاعر نفسه وما يعتريه من مشاعر تجاه وطنه، وما يمر به من تجارب انعكست -بالضرورة- على فكره وبالتالي على الأدب الذي كتبه.

مفهوم الوطن في العصر الجاهلي

اتّخذ مفهوم الوطن في العصر الجاهلي حيّزًا ضيّقًا إذ لم يكن هنالك "وطن" بالمعنى الحقيقي للكلمة الذي ندركه اليوم، وانحسر مفهومه بمعانٍ قليلة كانت على النحو التالي:

  • النزعة القبلية والانتماء للعشيرة

مثَّل الوطن بصورة رئيسية المكان الذي جاء منه الشاعر والذي ينتمي إليه حتى الموت، ويعتز به، ويعتز بالقبيلة ويحتمي بها ويحميها ويشعر اتجاهها بالولاء المطلق الذي لا رجوع عنه. إذ اقتصر مفهوم الوطن عند الشاعر الجاهلي بالقبيلة والولاء المطلق لها وحمايتها والانحياز لأفرادها بصورة مطلقة.

يقول عمرو بن كلثوم في معلقته:[١]

لَنا الدُنيا وَمَن أَمسى عَلَيها

وَنَبطِشُ حينَ نَبطِشُ قادِرينا

سَمّى ظالِمينَ وَما ظُلِمنا

وَلكِنا سَنَبدَأُ ظالِمينا

سَقَيناهُم بِكَأسِ المَوتِ صِرف

وَلاقوا في الوَقائِعِ أَقوَرينا

ونَعدو حينَ لا يُعدى عَلَينا

وَنَضرِبُ بِالمَواسي مَن يلينا

تنادى المُصعَبانِ وَآلُ بَكرٍ

ونادوا يا لَكندة أجمعينا

فَإِن نَغلِب فَغَلّابونَ قِدماً

وَإِن نُغلَب فَغَيرُ مُغَلَّبينا

مَلأْنا الَبرَّ حتّى ضاقَ عَنَّا

وَنَحْنُ البَحْرُ نَمْلأُه سَفِينا

إذا بَلَغَ الفطامَ لَنا ولِيْدٌ

تَخِرُّ له الجَبَابِرُ سَاجِدِينا


  • الطّلل والحنين إلى الديار القديمة

وقد تمثَّل ذلك في الحنين إلى الوطن والشعور به من خلال الاستهلال بذلك في مطلع قصائدهم وما انطوى عليه ذلك من ذكريات ومواقف امتزج بها الشوق بالحنين إلى هذه الأماكن المهجورة. فالإنسان في العصر الجاهلي كان كثير التنقل والاترحال؛ إما بسبب الحروب أو بسبب الجفاف أو القحط مما كان يترك في قلبه حرقة الانتقال عن الديار وفراق المحبوبة والأهل.

فالشاعر الجاهلي كثير التنقل والارتحال وبذلك كانت صورة الوطن لديه مرتبطة بشكل مباشر وحالة الشوق والحنين إلى الديار القديمة التي ارتحل عنها. وفي ذلك يقول امرؤ القيس:[٢]

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيْبٍ وَمَنْزِلِ

بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ

فَتُوْضِحَ فَالمِقْرَاةِ لم يَعْفُ رَسْمُهَا

لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ

تَرَى بَعَرَ الأرْآمِ في عَرَصَاتِهَا

وَقِيْعَانِهَا كَأَنَّهُ حَبُّ فُلْفُلِ

كَأَنِّيْ غَدَاة َ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا

لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ

وُقُوْفًا بِهَا صَحْبِيْ عَليََّ مَطِيَّهُمْ

يَقُولُونَ لا تَهْلِكْ أَسًى وَتَجَمَّلِ

وَإِنَّ شِفَائِيْ عَبْرَةٌ مَهَراقَةٌ

فهل عندَ رسْمٍ دارسٍ من معوَّل
  • الوطن مرآة لما يشعر به

اتّخذ الشاعر الجاهلي من الوطن مرآة تعكس الحالة النفسية والعاطفية التي يمر بها وما يؤرّقه من هموم وقضايا؛ فقد عكس الحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تمر بها المجتمعات من حوله. فالوطن هو الحاضنة التي تحمل كل ما تعتري الإنسان الجاهلي من هموم وقضايا وأفراح وأحزان وكل ما يشعر به.

يقول عمرو بن كلثوم:[١]

تَذَكَّرتُ الصِبا وَاِشتَقتُ لَمّا

رَأَيتُ حُمولَها أُصُلاً حُدينا

فَأَعرَضَتِ اليَمامَةُ وَاِشمَخَرَّت

كَأَسيافٍ بِأَيدي مُصلِتينا

أَبا هِندٍ فَلا تَعَجَل عَلَينا

وَأَنظِرنا نُخَبِّركَ اليَقينا

بِأَنّا نورِدُ الراياتِ بيضاً

وَنُصدِرُهُنَّ حُمراً قَد رَوينا

وَأَيّامٍ لَنا غُرٍّ طِوالٍ

عَصَينا المَلكَ فيها أَن نَدينا

وَسَيِّدِ مَعشَرٍ قَد تَوَّجوهُ

بِتاجِ المُلكِ يَحمي المُحجَرينا

تَرَكنا الخَيلَ عاكِفَةً عَلَيهِ

مُقَلَّدَةً أَعِنَّتَها صُفونا

وَأَنزَلنا البُيوتَ بِذي طُلوحٍ

إِلى الشاماتِ تَنفي الموعِدينا

وَقَد هَرَّت كِلابُ الحَيِّ مِنّا

وَشذَّبنا قَتادَةَ مَن يَلينا

مَتى نَنقُل إِلى قَومٍ رَحانا

يَكونوا في اللِقاءِ لَها طَحينا

يَكونُ ثِفالُها شَرقِيَّ نَجدٍ

وَلُهوَتُها قُضاعَةَ أَجمَعينا

مفهوم الوطن في العصر الإسلامي

أخذ مفهوم الوطن يتسع في هذه الفترة ويتخذ معنا لم تكن في العصر السابق، ومن ذلك ما يأتي:

  • المكان الذي يتلاءم وتعاليم الدين الإسلامي

كان لنزول الوحي والدين الإسلامي وما جاء به من تعاليم أثرًا كبيرًا على منظومة المجتمع في تلك الفترة لا سيما لمن دخل الإسلام وآمن بالرسول -صلى الله على وسلم- إذ أثر ذلك بصورة جذرية على منظومة التفكير لدى الفرد وانتقل الإنسان من النزعة القبلية التي سيطرت عليه في العصر الجاهلي إلى لنظرة أكثر شمولية انعكست على نظرته للوطن والآخر.

عزّز الإسلام قيم العدالة بين الناس وأصبح التفاضل فيما بينهم على أساس التقوى والفضيلة، وبذلك سعوا لتأسيس الوطن الذي يلبي هذه القيم ويتناسب مع تعالم الدين الإسلامي وضوابطه، ومن ذلك نجد مثلًا كيف احتفى أهل المدينة بقدوم الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمهاجرين من المسلمين لتأسيس وطن يحقق مفاهيم الدين الإسلامي، وأنشدوا:

طلع الـبدر عليـنا مـن ثنيـات الوداع

وجب الشكـر عليـنا مـا دعــــا لله داع

أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطـاع

جئت شرفت المديـنة مرحباً يـا خير داع

قد لبثنا ثوبَ عزّ بعد تمزيق الرِّقاع

ربَّنا صلِّ علي من حلَّ في خير البقاعِ


  • شعور الغربة في الوطن

تجلّى هذا المعنى في بداية هذه الفترة عند نزول الإسلام وإيمان عدد قليل من الناس دون غيرهم؛ فالشاعر الذي دخل الإسلام حديثًاوامتثل لأوامره شعر بحالة من الاضطهاد والغربة في ظل الظروف المحيطة بهم والتضييقات التي كانوا يتعرضون لها. وذلك إضافة لحالة من الاغتراب من الحنين التي شعروا بها في بدايات تلك الفترة للأيام التي خلت حتى وإن تعارضت مع قيمهم الحالية.

يقول كعب بن زهير:[٣]

بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ

مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُجزَ مَكبولُ

وَما سُعادُ غَداةَ البَينِ إِذ رَحَلوا

إِلّا أَغَنُّ غَضيضُ الطَرفِ مَكحولُ

هَيفاءُ مُقبِلَةً عَجزاءُ مُدبِرَةً

لا يُشتَكى قِصَرٌ مِنها وَلا طولُ

تَجلو عَوارِضَ ذي ظَلمٍ إِذا اِبتَسَمَت

كَأَنَّهُ مُنهَلٌ بِالراحِ مَعلولُ

مفهوم الوطن في العصر الأموي

مع اتساع رقعة الدولة الإسلامية وبدء التأسيس الحقيقي لمفهوم الدولة ازداد تغني الشعراء بالوطن، وتعدّدت الصور الفنية والأساليب الإبداعية التي استخدمها الشعراء، ومن ذلك:

  • المكان الذي يستقَر به

أصبحكل مكان يحل به الفرد هو وطن له، ويحتفي ويتغنلى به؛ فازدهار العمران وحالة الرخاء التي أصبح يعيش بها الفرد في دولة مدنية ساهمت في تكثيف الحالة الإبداعية لديه ومدّه بأساليب فنية جديدة وصور إبداعية لم يكن يعرفها من قبل في الجاهلية وانعكس كل ذلك على شعره.

يقول قيس بن الملوح:[٤]

أَلا حَبَّذا نَجدٌ وَطيبُ تُرابِها

وَأَرواحُها إِن كانَ نَجدٌ عَلى العَهدِ

أَلا لَيتَ شِعري عَن عُوارِضَتَي قَنا

لِطولِ التَنائي هَل تَغَيَّرَتا بَعدي

وَعَن أُقحُوانِ الرَملِ ما هُوَ فاعِلٌ

إِذا هُوَ أَمسى لَيلَةٌ بِثَرىً جَعدِ
  • هو الموطن الأصلي

الوطن هو المكان الأول الذي يسكنه الإنسان مهما سكن أو ارتحل بعد ذلك وعاش في قصور واستمتع برغد العيش والرفاهية يبقى حنينه لوطنه الأول ومسقط رأسه.

تقول ميسون بنت بحدل:[٥]

لَبَــيْـتٌ تـخـفِـقُ الأرواحُ فـيـه

أحــبُّ إليَّ مــن قــصــرٍ مُــنـيـفِ

وأصــواتُ الريــاحِ بــكــل فَــجٍّ

أحــبُّ إلي مــن نَــقْـر الدُّفـوفِ

وبـكْـرٍ يـتْـبَـعُ الأظْـعـانَ صَـعْبٌ

أحـــبُّ إلى مـــن بَــغْــلِ زَفُــوفِ

وكــلبٌ يــنــبـح الطُـرَّاق عـنّـي

أحـــــبُّ إليَّ مـــــن قِــــطٍّ ألوفِ

ولُبْــسُ عــبـاءةٍ وتـقَـرُّ عـيْـنـي

أحــبُّ إليَّ مــن لِبْــسِ الشُّفــوفِ

وأكْـلُ كُـسَـيْـرَة فـي كِـسْرِ بَيْتي

أحــبُّ إليَّ مــن أَكْــلِ الرَّغـيـفِ

وخَــرْقٍ مِـن بـنـي عـمـي نـحـيـفِ

أحـــبُّ إليَّ مـــن عِــلْجٍ عــليــفِ

خشونَةُ عِيشتي في البدْو أشهى

إلى نـفـسي من العيشِ الظَّريفِ

فـمـا أبْـغـي سوى وطني بديلًا

فـحـسـبـي ذاكَ مـن وطـن شـريِـف

مفهوم الوطن في العصر العباسي

للوطن في العصر العباسي معان أكثر شمولية وأكثر جمالية في طرق التعبير عنها في الشعر العباسي، وذلك على النحو التالي:

  • الوطن هو الموطن الأصلي

يرتبط الوطن بأرض المنشأ الأولى التي يحبها الشاعر وينتمي لها في حالة من الشوق الملتهب والحنين المتَّقِد لها؛ فهي مسقط رأسه وعلى امتداد العصور المختلفة بقيت هذه الفكرة راسخة في الذهن وثابتة لا تتغير. وقد تفنّن الشعراء في هذا العصر في تجسيد الذكريات المتعلقة بالأيام الخاوالي والحنين الشديد للوطن.

يقول أبو تمام:[٦]

نَقِّل فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الهَوى

ما الحُبُّ إِلّا لِلحَبيبِ الأَوَّلِ

كَم مَنزِلٍ في الأَرضِ يَألَفُهُ الفَتى

وَحَنينُهُ أَبَداً لِأَوَّلِ مَنزِلِ
  • هو المكان الذي يعيش فيه

بعتبَر العصر العباسي من أكثر العصور ازدهارًا وتحضّرًا بحيث مثّل قفزة نوعية في كل جوانب الحياة عن العصور السابقة وأهم ما ميّز هذا العصر حالة الامتزاج بين الأمم المختلفة وقد أصبح المكان الذي يسكنونه هو موطنهم ودارهم، وبذلك تغنى الشعراء. إذ ارتبط مفهوم الوطن بالمكان الذي يعيش به الفرد وبذلك تجسّد الانتماء، والانتقال من دائرة الفرد الذاتية إلى روح المجتمع والتجسيد الفعلي لمفهوم الوطن .

يقول المعري:[٧]

فـيـا بَرْق ليس الكَرْخُ داري وإنما

رَمــانـي إليـه الدهـرُ مُـنْـذُ لَيـال
  • الاغتراب في أرض الوطن

الشعور في الاغتراب في أرض الوطن من المفاهيم التي كانت سائدة بصورة كبيرة في تلك الفترة تبعًا لتعدد الأمم والأجناس في الدولة العباسية، وتعدد الثقافات المختلفة، والحالة الفكرية الفلسفية التي كانت سائدة آنذاك والتي عزّزت الشعور بالعزلة والاغتراب.

يقول الشاعر علي بن الجهم:[٨]

وَاِرَحمَتا لِلغَريبِ في البَلَدِ ال

نازِحِ ماذا بِنَفسِهِ صَنَعا

فارَقَ أَحبابَهُ فَما اِنتَفَعوا

بِالعَيشِ مِن بَعدِهِ وَلا اِنتَفَعا

كانَ عَزيزاً بِقُربِ دارِهُمُ

حَتّى إِذا ما تَباعَدوا خَشَعا

يَقولُ في نَأيِهِ وَغُربَتِهِ

عَدلٌ مِنَ اللَهِ كُلُّ ما صَنَعا

مفهوم الوطن في العصر الأندلسي

انعكست بيئة الأندلس على روح الشاعر العربي وشعره بطبيعتها الجذابة وجمالها الأخاذ، فاختلفت المفردات التي استخدمها الشاعر في وطف الوطن والحديث عنه وعن عناصره، ومن المفاهيم التي حملها الوطن في العصر الأندلسي ما يأتي:

  • الحنين للموطن الأصلي

يظهر في شعر الشاعر العربي في هذا العصر حالة متأججة من الحنين للوطن الأصلي لهم، وربما يعود ذلك للطريقة التي هاجر بها هؤلاء من أوطانهم وصولًا للأندلس إلى جانب الغربة التي يشعرون بها. ويذكَر من ذلك أن عبد الرحمن الداخل - صقر قريش- عندما رأى في الأندلس نخلة وهو في طريقة استذكر وطنه، وأثارت الحنين لديه فأخذ يقول:

تــبــدت لنـا وسـط الرصـافـة نـخـلة

تـنـاءت بأرض الغرب عن بلد النخل

فـقـلت شـبـيـهـي في التغرب والنوى

وطـول التـنـائي عـن بني وعن أهلي

نــشــأت بـأرض أنـت فـيـهـا غـريـبـة

فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي

سقتك غوادي المزن من صوبها الذي

يـسـح ويـسـتـمـري السماكين بالويل


  • ارتبط الوطن بالقيمة الجمالية له

تغنّى الشعراء في العصر الأندلسي بجمال الوطن وطبيعته الخلابة وبذلك ارتبط مفهوم الوطن لديهم بالقيمة الجمالية لديه، والعناصر الجمالية التي يتضمنها فهي قيمة حية ملموسة.

يقول ابن خفاجة: [٩]

وَصَقيلَةِ الأَنوارِ تَلوي عِطفَها

ريحٌ تَلُفُّ فُروعُها مِعطارُ

عاطى بِها الصَهباءَ أَحوى أَحوَرٌ

سَحّابُ أَذيالِ السُرى سَحّارُ

وَالنورُ عِقدٌ وَالغُصونُ سَوالِفٌ

وَالجِذعُ زَندٌ وَالخَليجُ سِوارُ

بِحَديقَةٍ ظَلَّ اللِمى ظِلّاً بِها

وَتَطَلَّعَت شَنَباً بِها الأَنوارُ

رَقَصَ القَضيبُ بِها وَقَد شَرِبَ الثَرى

وَشَدا الحَمامُ وَصَفَّقَ التَيّارُ

غَنّاءَ أَلحَفَ عِطفَها الوَرَقُ النَدي

وَاِلتَفَّ في جَنَباتِها النُوّارُ

فَتَطَلَّعَت في كُلِّ مَوقِعِ لَحظَةٍ

مِن كُلِّ غُصنٍ صَفحَةٌ وَعِذارُ
  • رثاء الوطن

وهي صورة مميزة في الحديث عن الوطن في العصر الأندلسي إذ ارتبطت صورة الوطن وهو في فترة ضعف بحالة من الحزن والغصة سيطرت على الشعراء عند الحديث عن الوطن وارتبطت به، ولعل أشهر ما قيل في ذلك قصيدة أبو البقاء الرندي في وصف الأندلس.

يقول أبو البقاء الرندي:[١٠]

لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ

فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ

هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ

مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ

وَهَذِهِ الدارُ لا تُبقي عَلى أَحَدٍ

وَلا يَدُومُ عَلى حالٍ لَها شانُ

يُمَزِّقُ الدَهرُ حَتماً كُلَّ سابِغَةٍ

إِذا نَبَت مَشرَفِيّات وَخرصانُ

وَيَنتَضي كُلَّ سَيفٍ للفَناء وَلَو

كانَ ابنَ ذي يَزَن وَالغِمد غمدانُ

مفهوم الوطن في العصرين المملوكي والعثماني

غلب على هذه الفترة شعر الحماسة الفخر والحماسة وكان لصورة الوطن حظ وفير من ذلك، وعملت الأحداث السياسية المتتابعة في تلك الفترة دورًا كبيرًا في ذلك، وتعدّدت الأنماط الشعرية في ذلك نذكر منها:

  • يقول شهاب الدين أبو شامة:

غلب التتار على البلاد فجاءهم

من مصر تركي يجود بنفسه

بالشام أهلكهم وبدد شملهم

ولكل شيء آفة من جنسه

مفهوم الوطن في العصر الحديث

اتّخذ مفهوم الوطن في العصر الحديث أنماطًا متعددة فكرية وفلسفية مميزة، وحملت دلالات مكثّفة في بنيتها وأبعادها الفلسفية والثقافية. وفي سياق الحديث عن مفهوم الوطن في العصر الحديث يمكن حصر ذلك في ثلاثة محاور رئيسية كبرى تنطوي كل منها على معانٍ جزئية متعددة، وذلك على النحو التالي:

مفهوم الوطن في الوطن نفسه

تعدّدت المفاهيم التي تحملها مفهوم الوطن في الشعر العربي الحديث بحيث اشتمل على كل المفاهيم التي كانت في العصور السابقة أضافة لحالة من التّغني للأوطان بأسمائها وهويتها الجديدة التي باتت واضحة ومحددة في العصر الحديث والانتماء لها؛ ويعود ذلك للسمات الجديدة التي حملها العصر الحديث بصورة جلية دون غيره من العصور السابقة.

ساهمت نشأة الدول المدنية الحديثة بما حملته من طابع مميز بعكس حالة من الولاء الواضح للقطر الذي ينسَب الشاعر إليه، وظهر مفهوم جديد ارتبط بأشعار المناسبات المرتبطة بالمناسبات الوطنية المحددة لهذه الدولة، وفيما يلي بعض من هذه النماذج:

  • التغني بالوطن والانتماء الشديد إليه؛ وفي ذلك يقول إبراهيم طوقان:[١١]
موطني الجَلالُ وَالجَمالُ
السَناءُ وَالبَهاءُ في رُباك
وَالحَياةُ وَالنَجاةُ
وَالهَناءُ وَالرَجاءُ في هَواك
هَل أَراك
سالماً منعّماً
وَغانِماً مكرّماً
هَل أَراك
في عُلاك
تبلغ السماك
موطِني
مَوطِني الشَباب لَن يَكلَّ
همُّهُ أَن تَستقلَّ أَو يَبيد
نَستَقي مِن الرَدى
وَلَن نَكون لِلعِدى كَالعَبيد
لا نريد


  • التمسّك بالعروبة والقومية العربية والتّغني بذلك، والتّحسر على ما أصاب الأوطان. وفي ذلك يقول نزار قباني:[١٢]

هل في العيون التونسية شاطيء

ترتاح فوق رماله الأعصاب؟

أنا يا صديقة متعب بعروبتي

فهل العروبة لعنة وعقاب؟

أمشي على ورق الخريطة خائفا

فعلى الخريطة كلنا أغراب
  • المرأة (المحبوبة) وطن؛ إذ امتزجت صورة المحبوبة وذابت في صورة الوطن. وفي ذلك يقول نزار قباني:[١٣]
قادم من مدائن الريح وحـدي
فاحتضني ،كالطفل، يا قاسيون
أهي مجنونة بشوقي إليها...
هذه الشام، أم أنا المجنون؟
إن تخلت كل المقادير عني
فبعيـني حبيبتي أستعيـن
جاء تشرين يا حبيبة عمري
أحسن وقت للهوى تشرين
ولنا موعد على جبل الشيخ
كم الثلج دافئ.. وحنـون
سنوات سبع من الحزن مرت
مات فيها الصفصاف والزيتون
شام.. يا شام.. يا أميرة حبي
كيف ينسى غرامـه المجنون؟
  • شعور الغربة في الوطن؛ يقول الأخوين رحباني هذه الكلمات:

أنا يا عصفورة الشجن

مثل عينيك بلا وطنِ

بِي كما بالطفل تسرقه

أول الليل يد الوَسَنِ

واغتراب بي وبي فرحٌ

كارتحال البحر بالسفن

أنا لا أرضٌ ولا سكنٌأنا

عيناك هما سكني

راجع من صوب أغنية

يا زمانا ضاع في الزمن

صوتها يبكي فأحمله

بين زهر الصمت والوَهَنِ

من حدود الأمس يا حلماً

زارني طيراً على غُصُنِ

أيُّ وهمٍ أنت عشْتُ به

كُنْتَ في البالِ ولم تَكُنِ

مفهوم الوطن في الغربة

وتمثّل ذلك في صورة الوطن المحمولة في القلب بما في ذلك من ذكريات ومواقف، والحنين الشديد إليه ووصف عناصره وكل ما يميزه من معالم وصفات. وتعدّدت النماذج الشعرية في ذلك بكل ما امتازت به من سلاسة في الوصف وحرفة في التصوير والتناص وغير ذلك من الأساليب الإبداعية.

يقول بدر شاكر السياب في حديثه عن وطنه العراق في الغربة:[١٤]

الريح تلهث بالهجيرة كالجثام، على الأصيل
وعلى القلوع تظل تطوى أو تنشّر للرحيل
زحم الخليج بهنّ مكتدحون جوّابو بحار
من كل حاف نصف عاري
وعلى الرمال، على الخليج
جلس الغريب، يسرّح البصر المحيّر في الخليج
ويهدّ أعمدة الضياء بما يصعّد من نشيج
أعلى من العبّاب يهدر رغوه و من الضجيج"
صوت تفجّر في قرارة نفسي الثكلى: عراق
كالمدّ يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العيون
الريح تصرخ بي عراق
والموج يعول بي عراق، عراق، ليس سوى عراق ‍‍
البحر أوسع ما يكون و أنت أبعد ما يكون
والبحر دونك يا عراق
بالأمس حين مررت بالمقهى، سمعتك يا عراق
وكنت دورة أسطوانة
هي دورة الأفلاك في عمري، تكوّر لي زمانه
في لحظتين من الأمان و إن تكن فقدت مكانه
هي وجه أمي في الظلام
وصوتها، يتزلقان مع الرؤى حتى أنام
وهي النخيل أخاف منه إذا ادلهمّ مع الغروب
فاكتظّ بالأشباح تخطف كلّ طفل لا يؤوب
من الدروب
وهي المفليّة العجوز وما توشوش عن حزام
وكيف شقّ القبر عنه أمام عفراء الجميلة
فاحتازها.. إلا جديلة

مفهوم الوطن في ظل الأزمات والحروب

لعلّ هذا المعنى تجلّى بصورة رئيسية لدى الشعراء الذين عانوا من الاحتلال أو الحروب وويلاتها في أوطانهم، وتبرز بصورة كبيرة لدى الشاعر الفلسطيني الذي عانى من ويلات الاحتلال على مدار هذا الكم من السنوات فارتبط معنى الوطن لديه بهذه الذاكرة، وأخذ يؤرّخ لذلك في شعره معبِّرًا عن حزنه وألمه على وطنه.

فقد أصبح الوطن مرادفًا لهذه الذاكرة وشاهدًا على كل ما يحدث فسعى الشاعر لتأريخ هذه الأحداث المفصلية ويرثي أبناء وطنه الذي اعتبرألمهم ألمه وحزنهم حزنه؛ ومن ذلك قول محمود درويش:

وطني يا أيّها النسر الذي يغمد منقاره اللهب
في عيوني،
أين تاريخ العرب؟
كل ما أملكه في حضرة الموت:
جبين وغضب.
وأنا أوصيت أن يزرع قلبي شجرة
وجبيني منزلا للقبّرة.
وطني، إنّا ولدنا و كبرنا بجراحك
وأكلنا شجر البلّوط..
كي نشهد ميلاد صباحك
أيّها النسر الذي يرسف في الأغلال من دون سبب
أيّها الموت الخرافي الذي كان يحب
لم يزل منقارك الأحمر في عينّي
سيفًا من لهب..
وأنا لست جديرًا بجناحك
كل ما أملكه في حضرة الموت:
جبين.. وغضب!

المراجع

  1. ^ أ ب "ألا هبي"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 12/5/2022.
  2. "قفا نبك"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 12/5/2022.
  3. "بانت سعاد"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 12/5/2022.
  4. "ألا حبذا"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 12/5/2022.
  5. "لبيت أحن"، البيت العربي، اطّلع عليه بتاريخ 12/5/2022.
  6. "نقّل فؤادك"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 12/5/2022.
  7. "طريق لضوء البارق"، ديواني، اطّلع عليه بتاريخ 12/5/2022.
  8. "وارحمتا للغريب في بلد"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 12/5/2022.
  9. "وصقلية الأنوار تلوي عطفها"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 12/5/2022.
  10. "لكل شيء إذا ما تم نقصان"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 12/5/2022.
  11. "موطني"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 12/5/2022.
  12. "أنا يا صديقة"، بوابة الشعراء، اطّلع عليه بتاريخ 12/5/2022.
  13. "أتراها تحبني ميسون"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 12/5/2022.
  14. "غريب على الخليج"، ديوان، اطّلع عليه بتاريخ 12/5/2022.
6634 مشاهدة
للأعلى للسفل
×