محتويات
التغذية الصحية درهم وقاية
أمدّ الله الناس بمجموعةٍ من الغرائز التي تعمل كمنبّهٍ طبيعي في الجسم؛ إذ إنّها تُدوّن ملاحظاتها بداخلنا، حاثةً إيّانا على تنفيذ التنبيه والاستجابة له، ومن جملة تلك الغرائز غريزة الجوع، التي تُطلق عنان إنذارها عدة مراتٍ في اليوم، ويترتب على إهمال إنذاراتها بصورةٍ متكررةٍ زيارة المرض وإقامته في الجسد.
إنّ الغذاء يحتوي على أهم العناصر التي تضمن استمرارية وجودنا، ولا سيّما عند اتصافه بالتنوع والشمول، ممّا يُكسبه مقامًا صحيًا أرفع وأسمى، ويُكسبنا حمايةً من الأمراض، فالتغذية الصحية درهم وقاية.
التغذية الصحية واجب مجتمعي
يُعرف الغذاء بكونه ضرورةً وجوديةً لجميع الكائنات ولا سيما البشر؛ إذ تعمل أجسامنا كمختبرٍ أو مصنعٍ علمي، تتنوع آلاته وتتعدد متطلباته، ولكل آلةٍ فيه شروطها الخاصة التي تتطلب توفير الوقود اللازم، ليحتل الغذاء بذلك مرتبة الوقود الضروري، الذي بدونه تُصاب آلات الصناعة ومصنعها بلعنة التوقف والاختفاء الوجودي.
أدرك الإنسان حاجته الغريزية للغذاء مذ وجد، ففي عصور ما قبل التاريخ الأولى نراه معتمدًا على الجمع والالتقاط، إضافةً إلى الصيد الذي خصه بصناعة مجموعةٍ من الآلات والأدوات الحادة ليتمكن منه، وقد عُرفت هذه الوسائل باسم الوسائل البدائية الغذائية، ومع مرور الوقت عرف الإنسان الطهو وفنونه مستغلًا، ثم بتوالي الأزمنة وتعاقبها أصبح الغذاء وطريقة إعداده سمةً مجتمعيةً خاصة.
لكل مجتمعٍ أطباقه وعاداته الغذائية، فالطهو عالم واسع الأبواب، ووراء كل بابٍ منه أسراره المتفردة، ولعلّ ما أكسب الغذاء أهميته عبر الزمن ثلاثة أمور؛ أولها غرائزي، وثانيها إدراكي، فقد أبصر الإنسان نتائج امتناعه عن الطعام المتمثلة بغزو التعب والإرهاق التدريجي لجسده، وما يترتب عليها من الأمراض المنهكة، وغير إبصاره لضياء الطاقات السارية في طرقات جسده فور تناوله الطعام وسد احتياجه الغذائي.
أمّا الأمر الثالث فيرتبط بالجانب النفسي ولا سيما مشاعر السعادة والحزن، إذ إنّنا نلحظ فئةً لا محدودةً من الأشخاص تتجه نحو الطعام عند شعورها بعواصف الحزن أو مواسم السعادة الربيعية، ويُعزى السبب وراء ذلك إلى احتواء الطعام على مجموعة من العناصر المساعدة على حث الهرمونات المسؤولة عن حالة التوازن النفسي، ويُقسم العلماء الغذاء إلى سبع زمرٍ متمايزة، تحمل الزمر الأربعة الأولى اسم "المغذيات الكبرى".
تلك الزمرة التي تروي الحاجة الأكبر من جسم الإنسان، وهي الكربوهيدرات بفرعيها المركب والبسيط، والماء الذي يُشكل ما بين 50-75% من إجمالي وزن الإنسان، والبروتينات التي تُعدّ عماد العضلات وأساسها، وأخيرًا الدهون المعروفة بلزوجتها، أمّا الزمر الثلاثة الأخيرة، فيُطلق عليها تسمية "المذيبات الصغرى"؛ إذ تمد الجسم بحاجاته الأصغر، وهي الأملاح المعدنية والفيتامينات ومضادات الأكسدة المساهمة في تنظيم عمليات الجسم على اختلافها.
تتصف مصادر الزمر الغذائية بتنوعها تنوع الأزهار في مواسم الربيع، الأمر الذي يُمدنا بحرية الاختيار الغذائي، والذي ينتج عنه تعدُّد الأذواق، فقد تُوجد في اللحوم بنوعيها الحمراء والبيضاء، وفي الفواكه والخضراوات والبقوليات وما إلى ذلك من أنماط الطعام وأصنافه، غير أنّه لا بُدّ من ضرورة الموازنة بين الأغذية تبعًا لاحتوائها على مختلف العناصر.
إنّ التغذية الصحية تعني أنّ على الإنسان أن يستمد حاجاته الغذائية اليومية من أصناف غذائية متنوعة العناصر والفوائد بما يضمن إشباع حاجات الجسم، كأن يتناول اللحوم والسلطات والعصائر دون الارتكاز على واحدةٍ منها فقط، إذ يُعدّ الارتكاز على قاعدة النمط أو الصنف الغذائي الواحد أمرًا مُهلكًا ويهدينا قائمةً من أمراض النقص الغذائي القائمة على افتقار مناجم الجسد لعنصرٍ محددٍ من العناصر القيمة.
كما أنّ الاعتماد على كمياتٍ قليلة أو رديئةٍ من الغذاء يجعلنا وسط معارك أمراض سوء التغذية؛ لذلك فإنّ للتغذية الصحية مقامًا رفيعًا للغاية، وتُعد عملية المزاوجة ما بين السياسة والمناخ والغذاء من الأمور المؤسفة، التي تسلب العالم إنسانيته، وتُوقعه في حفرة الظلم اللانهائية.
تُعاني العديد من البلدان من ويلات هذه المزاوجة الظاهرة بصورةٍ أساسيةٍ على هيئة أمراضٍ فتاكةٍ ومجاعاتٍ غذائيةٍ، تُعانق أجساد الأطفال والنساء والشيوخ معانقةً تُدرجهم مع مرور الوقت ضمن قائمة الوفيات الشهرية، وتظهر هذه المجاعات بصورة كبيرة ضمن القارة السمراء "إفريقيا"، حيث المناخ القاسي والنزاعات الداخلية.
الأمر الذي حاز على إنصات المجتمع الدولي، إذ تعالت أصوات الجائعين وخيّم أنينهم على ساحات العالم، ما دفعهم إلى إنشاء منظمة الأمم المتحدة لشؤون التغذية والزراعة، المعروفة باسم فاو أو "faq"، والتي تأسست في الأربعينيات من القرن الماضي، جاعلةً من توفير الغذاء وتأمين المياه مسؤوليةً تحملها على عاتقيها، وشريعةً تُؤمن بها، وغايةً وحلمًا تسعى للوصول إليه.
يجب على المجتمع الدولي والمحلي، والمجتمع القريب الفردي والأسري، مدّ يد العون والإخاء المتناسية لأيّ ظروفٍ أو نزاعات، الناطقة بضرورة إحقاق الحق الغذائي، للعمل على توفير الغذاء بصورةٍ صحيةٍ.
كما يجب مراعاة التقسيمات البشرية التي وضعها العلماء؛ لتُبين حاجة كل فردٍ من الأفراد إلى الغذاء؛ إذ قسموا الناس إلى خمس زمرٍ، وهي: حاجات الأطفال، وحاجات المراهقين، وحاجات الشباب، وحاجات المسنين، وحاجات المرضى والحوامل.
التغذية الصحية من النظرية إلى العملية
ختامًا، لا بُد من الإشارة إلى ضرورة تحويل مفهوم الغذاء الصحي لنمط حياةٍ يومي، بدايةً من قيام الفرد بذلك عبر مراقبته وتنظيمه لغذائه وأصنافه المتعددة ومن خلال تشجيع الحكومات لأفرادها على ذلك، عبر توفير جميع المواد الغذائية بأسعار مناسبة.
إضافةً إلى سن مجموعة من الأنظمة والقوانين الخاصة بالمنشآت الغذائية والتي تُركز على أهمية توافر العناصر اللازمة في الأغذية المصنعة غير أنّ لحملات الدعاية والإعلان دورًا مهمًا في نشر الثقافة الغذائية الصحية وتحفيز اتباعها.