الحرف اليدوية حكاية فن تراث
لو ذهبتَ يومًا إلى سوقٍ قديم في وسط المدينة يعود بناؤه إلى عصور قديمة ربّما إلى العصر العبّاسيّ أو الأيّوبيّ أو المملوكي ويعمل فيه الناس في صناعة المنتوجات التي تتطلّب جهدًا يدويًّا مُباشرًا من الصانع فأنتَ لا شكّ في سوق المهن اليدويّة، فربّما يكون هذا السوق فيما مضى خاصًّا بمهنة ما، كما هو الحال مع سوق النسّاجين؛ أي الخاص بالعاملين بالنّسيج، فهذا السوق كان سابقًا لذلك الغرَض، ولكنّه اليوم صارَ سوقًا يضمّ محلّات يعمل فيها كثيرٌ من المشتغلين في الحرف اليدوية التي تشتهر في بلادي، وهي حِرَف كثيرة تختلف باخلتلاف اهتمامات أصحابها.
كلّ ما قلته عن السوق وتاريخه والذين يعملون فيه هو من كلام والدي حفظه الله، لقد حدّثني عن السوق في أثناء طريقنا إليه، فوالدي من الذين يعشقون التاريخ ويتعمّقون في ثناياه، وكان للتراث مكان خاصٌّ عنده؛ فسيّارته قديمة ذات طراز عمره قرابة 100 عام، وغرفة مكتبه استدعى من أجل تصميمها مهندسًا من بلد آخر لتكون كالغرف الأندلسيّة، فالأدق أن نقول إنّه يتماهى مع التراث وليس فقط يحبّه.
كان سوق المهن اليدوية من أكثر الأمكنة التي يتردّد عليها الناس من السائحين في بلادي، فهم يحبّون هذه المنتوجات التي تخرج من أيدي أولئك الحرفيّين، وبالمناسبة فإنّ الحرفة هي ما يتّخذه الإنسان من عملٍ يكسب من ورائه لقمة عيشه، وتتطلّب الحرفة مهارة عالية من الشخص الذي يعمل بها، وهي اليوم في الغالب تُطلق على الذي يعمل في مجال الحرف والمهارات اليدوية، والمقصود بالمهارة الأشغال التي تتطلّب من الصانع أن يعملها بيديه ما استطاع وألّا يستعمل الآلة إلّا لأمرٍ تعجزُ عنه يده.
وإنّ مجال الحرف اليدويّة اليوم يلقى اهتمامًا من الحكومات لأنّه فنّ يعبق برائحة التراث، التراث الذي تفاخر به الأمم اليوم، ولا أقصد التفاخر به مع إهمال الواقع، ولكنّه الموازنة بين ما نحن عليه اليوم وبين ما كنّا نصنع قبل مئات السنين، فمثلًا تشتهر بلداننا العربيّة ببعض الصناعات التي لا توجد في دول أخرى من بلدان العالم، فصناعات النسيج والفسيفساء والفخّار والتطريز وهلمّ جرًّا تشتهر بها بلداننا وتمتاز على غيرها من الصناعات في الدول الأخرى بالأصالة، فكثير من هذه الصناعات يتوارثها الناس من أجدادهم منذ قديم الزمان وإلى اليوم، فهم يتعلّمونها بتفاصيلها الدقيقة، ويرثون أسرارها أبًا عن جَد.
حين تدخل السوق فإنك ترى كثيرًا من المحلات التي يجلس فيها الحرفيّون أصحاب الأيادي الماهرة، فإنّ هؤلاء الذين تراهم أمامك هم الأصالة والماضي والحاضر معًا، إنّهم مختلفون في المهنة ولكنّهم متّفقون في إبهارك بما يصنعون، لقد ورثوا الإتقان والبراعة عمّن علّمهم هذه الحِرفة، وأمّا اختلافهم فلأنّ انواع الأشغال اليدويّة مختلفة، فمنها النسيج وحياكة الصوف والخشب المشغول والحفر على الخشب وصناعة الفخّار والخزف والتّطريز على الملابس وغير الملابس.
كذلك من أنواع الأشغال اليدويّة صناعة الزجاج والزجاج الملوّن وصناعة بعض الأدوات المعدنيّة، وأيضًا منها تطعيم الخشب وصناعة الدّمى ومشغولات الفسيفساء وغير ذلك من الأعمال الكثيرة التي يُشتهر بها سوق المهن اليدويّة، فهؤلاء الرجال الذين يعملون كالنّحل بلا كلل ولا ملل هم الواجهة التي تحمل أصالة التراث وتحافظ عليها ناصعة أمام أبناء الوطن وأمام السائحين الكُثُر الذين يقصدون بلادنا بصورة مستمرّة لغرض السياحة وزيارة المعالم الأثرية التي تكثُرُ في بلادنا.
ما هي أقدم الحرف اليدوية؟
وإن تساءلت أو سألتَ نفسَكَ ما أقدمُ حرفةٍ تعلّمها الإنسان؟ فإنّك لن تصلَ إلى إجابة شافية؛ إذ ليس هناك حرفة يُمكننا أن نجزم ونقول إنّها أقدم حرفة في التاريخ، ولكن هنالك بعض الحرف اليدوية القديمة يُقال إنّ منها أقدمُ حرفة في التاريخ، ولعلّها تكون حرفة الحياكة فهي المهنة التي قيل إنّ نبيّ الله إدريس -عليه السلام- كان يعمل بها، فالناس قبله كانوا يرتدون جلود الحيوانات، فعلّمه الله تعالى مهنة صناعة الألبسة من صوف الحيوانات فتعلّمها وصار يعمل بها، وتعلّمها الناس من بعده.
ومن الحرف القديمة أيضًا صناعة السِّلال التي اشتُهرت منذ القديم، وهي أن يصنع الرجل أو المرأة سلّة يبيعونها في الأسواق للنّاس حتى يستفيدوا منها في حمل حاجيّاتهم، وتُصنع السلال من القصب أو من جريد النخيل، وهي مهنة مُمتعة وتحتاج من الرجل إلى نفسٍ طويل وصبر، لا يُمكن لها أن تتمّ من دون إتقان وإخلاص في العمل؛ فهي مهنة حسّاسة والخطأ فيها يجعل العمل الطويل يذهب سدًى من غير نفع.
وأيضًا من الحرف اليدويّة حرفة التصديف، أو تطعيم الخشب بالصّدف، وتُعرف باسم "الموزاييك"، فهي حرفة تعود إلى آلاف السنين، وتكون بأن يُطعّم الخشب بشيء من الأصداف وقشور الحيوانات البحريّة وبيت اللؤلؤ إلى جزيئات الخشب، وذلك في عمليّة طويلة تحتاج جهدًا ووقتًا كبيرين، ومن الحرف اليدويّة وهي لها محبّة خاصّة عندي لأنّني عملتُ بها زمنًا طويلًا هي حرفة صناعة الزجاج، فهذه المهنة من أكثر المهن إثارة وتشويقًا للمرء، فيؤتى بالرمل من الصحاري ويُدخلُ إلى فرنٍ كبير ذي حرارة مرتفعة تتجاوز الـ 1500 درجة مئويّة.
عندما يذوب الرمل يتحوّل إلى كتلة ضخمة من الزّجاج المنصهر، وعندها يكون من السّهل تحويله إلى أيّ شكل نريده، فنصنع منه الأواني المختلفة من الأكواب والصّحون وغير ذلك، ومن الصناعات كذلك الجميلة واللّطيفة التي تحتاج إلى صانع ماهر هنالك صناعة الخيزران، فصناعة الخيزان ضاربة في التاريخ إلى ما قبل 4000 عام من اليوم، وهذه الصناعة منتشرة في آسيا كثيرًا؛ لأنّ الخيزران -أو البامبو- لا ينمو في قارة أوروبا، فتكثر صناعة الكراسي أو الأثاث المنزلي أو أمور أخرى كثيرة من نبات الخيزران، لقد كان أجدادنا من المُسلمين يصنعون منه الرماح.
ولو قُدِّرَ لك أن تعمل معهم في حرفة ما تتعلّمها منهم فإنّ الصفات والسجايا التي قد تكتسبها منهم لعلّ أهمّها الصّبر والأناة والتفكير العميق في الأمر قبل أن تخطو أيّ خطوة في أيّ عملٍ تعمله، فإنّ أصحاب الحرف اليدوية هم واجهةٌ مُشرّفة لبلادنا أمام الزوّار والسيّاح من البلدان والأمم الأخرى، فعدا عن أنّهم صُنّاعٌ مَهَرَة فهم أيضًا أُناسٌ مُثقّفون يستطيعون الخوض في أيّ نقاش يدور حولهم سواء كان في مجال حرفتهم أم في الحرف الأخرى أم في الحياة عمومًا بعلومها وفنونها كافّة.
قيمة الحرف اليدوية بين الماضي والحاضر
وقد يدور في ذهنك سؤال بعد أن علمتَ عن هذه الحرف ما علِمت من أنّها تمثّل صورة ناصعة للبلاد، وحتّى سعرها لا يكون زهيدًا عادة؛ فالعمل المشغول بإتقان وحبّ يستحقّ أن يُدفعَ فيه ماء العيون، ولكن لماذا لا تتكاثر هذه الصناعات اليوم، لماذا السوق هنا صغير على عكس الأسواق الأخرى؟ فالإجابة عن هذا السؤال هو أنّ قيمة الحرف اليدوية تختلف كثيرًا بين الماضي والحاضر، فقيمتها قديمًا كانت عالية ومحلّ تقدير من جميع الناس، أمّا اليوم فأمام الآلة الحديثة تكاد الحرف اليدويّة تتلاشى وتضمحلّ، فالناس اليوم تتّجه للكسب السريع، وهذا ما تفتقده الحرف اليدوية التي تحتاج إلى صبر طويل حتى تخرج بأبهى حلّة.
وإنّ كثيرًا من شيوخ هذه الحِرَف يموتون وتموت معهم أسرار حرفتهم التي لم يتعلّمها أبناؤهم الذين اتّجهوا إلى الكسب السريع مستعينين بالآلات والمصانع العملاقة التي تبتلع كلّ شيء أمامها، وبعد هذا يأتي سؤال آخر مهمّ أيضًا وهو: ما أهداف الحرف اليدوية؟ ولعلّنا لا نجانب الصواب إن قلنا إنّ من أهداف المهارات اليدوية والفنية أنّها تُنمّي الجسم والعقل معًا؛ فتمدّ الجسم بالطّاقة من جرّاء الجهد المبذول في العمل، وتمدّ الفكر بالقوّة والقدرة على التفكير والابتكار ما يجعل الفردَ وحده قادرًا على أداء أعمال لم يكن يعتقد أنّه يفعلها في يومٍ من الأيّام، فهي من هذا الباب أيضًا تنمّي ثقة الفرد بنفسه.
ومن أهدافها أيضًا أنّها ترفع السويّة المعرفيّة عند الفرد من خلال اطّلاعه على معارف جديدة لم يكن ليعرفها قبل ذلك، ومن أهدافها أيضًا القضاء على مظاهر الكسل والبطالة من خلال تعزيز فكرة العمل والحثّ عليه، وأنّ العمل يُمكن أن يبدأ به الإنسان من الصفر من دون أن يكون عنده رأسُ مالٍ ضخمٌ كباقي المشاريع الإنتاجيّة التي يبنيها الناس اليوم برؤوس أموال ضخمة، وتنمية الأخلاق الكريمة وزرعها داخل الفرد وذلك من خلال زرع خلق الصّبر ومراقبة النفس والإخلاص في العمل، وذلك لأنّ الحرف اليدويّة مُحال أن تنجح ويذيع صيت صاحبها وهو يغشّ زبائنه ويعطيهم بضاعة ذات جودة منخضة على أنّها بضاعة من الطراز الأوّل.