من هو صديقك المفضل في المدرسة؟
اثنا عشر عامًا يقضيها واحدنا بين دارين، داره الَّتي فيها وُلد بين أبويه وإخوته، وداره الَّتي ينهل منها خيوط معارفه الأولى ويزرع فيها بذور ثقافته، وما بين بيته ومدرسته يكوِّن المرء نظرته الأولى عن الحياة، عن العائلة وعن العلم وعن الصَّداقة، ولعلَّ هذه الأخيرة هي أكثر ما يعني الأطفال والنَّاشئة في مراحل عمرهم الأولى، فتكون الصَّداقة هي أولى التَّجارب الَّتي يختبر فيها الفرد قدرته على التَّواصل ومهارته في بناء جسور المودَّة، وأكثر ما يعزِّز ذلك دعم الأهل وتعزيز ثقة أبنائهم بأنفسهم وتشجيعهم لمدِّ جسور المحبَّة مع الآخر وتقبُّله كيفما كان، فإنَّ المرء يتعلَّم طريقته الأولى في الحياة من والديه وإخوته قبل أيِّ شخصٍ آخر.
منهم يتشرَّب رؤيته للأشياء والنَّاس، فينظر إلى الآخر بعيونهم ويستمع إليه بآذانهم ويُشكِّل انطباعاته بأفكارهم، ويحبُّ من النَّاس ما أحبُّوه ويكره ما كرهوه، ويختلف هذا بين فردٍ وآخر ويبهت تدريجيًّا كلَّما نضج المرء ليكوِّن نظرته الخاصَّة للنَّاس والَّتي لا تصفو تمامًا من تأثير المحيط، ويختبر الطِّفل اختياراته الأولى والَّتي تستند غالبًا إلى معايير يشترك فيها مع أبناء جيله ومحيطه، فيميل التِّلميذ إلى الصَّديق المجتهد اللَّامع في صفِّه والمتميِّز في حيِّه واللَّافت بين أقرانه في الهيئة والكلام، ويتباين أثر ذلك بين فردٍ وآخر، فيميل الطَّالب إلى مَن يشبهه في الطِّباع والتَّصرفات والمستوى التَّحصيليّ، فإنَّ الإنسان إلى شبيهه أقرب، وإلى من يشاطره أفكاره يميل أكثر، وفي ذلك قال الشَّاعر:
عنِ المرءِ لا تسأل وسلْ عن قرينِه
- فكلُّ قرينٍ بالمُقارَنِ يقتدِي
إنَّ واحدنا كبير كان أم صغير يميل إلى مَن يُشبهه في العقل والمنطق والهيئة وحتَّى الظَّرف الاجتماعيّ الَّذي قد يجعل كثيرًا من الصَّداقات أكثر متانةً وأصالةً، فإنَّ من يُشبهنا في حياتنا وبيئتنا غالبًا ما يكون أقدر على فهمنا ونبش خبايانا الَّتي لا نكشفها للجميع. ولا تتوقَّف الصَّداقة عند كونها مبنيَّةً على التَّشابه بل إنَّها تعزِّز هذا التَّشابه وتزيده، فإنَّ الإنسان يتأثَّر أكثر الأمر بأصدقائه فيتشرَّب طباعهم كما يتشرَّبون طباعه لتولِّد تلك الصَّداقات تشابهاتٍ جديدةً لم تكن موجودةً من قبل، ومن هنا تأتي أهميَّة انتقاء الصَّديق الصَّدوق الصَّالح وضرورة متابعة الأهل لهذه العلاقات السَّامية لتؤتي ثمارًا طيِّبةً لا ضرر فيها ولا فساد.
إنَّ الكبير بالنَّاس أعرف وعينه برؤية السُّوء أبصر؛ وهذا لا يعني أن تحتكم الصَّداقات إلى قرارات الأهل بل أن تنشأ في ظلِّ رعايتهم، ليتركوا للأبناء فرصة الانتقاء واكتشاف المجتمع، فإنَّ من حقِّ الأطفال والنَّاشئة أن يختاروا صديقًا يأنسون به، وأن يختبروا عيوب النَّاس وسجاياهم بأنفسهم، كما يجب أن يعلم واحدنا أن لا وجود لأحدٍ خالٍ من العيوب، فإنَّ على المرء أن يتقبَّل من عيوب النَّاس ما يُمكن احتماله من خطأٍ ممّا لا يخلُّ بأصول الصَّداقة من ثقةٍ واحترام، فإنَّ من لا يتقبَّل عيوب النَّاس لن يجد من يتقبَّل عيوبه ولن يخلو منها مهما حاول، ليجد نفسه بلا صديقٍ ولا أنيس، وفي ذلك قال الشَّاعر:[١]
إذا كنتَ في كلِّ الأمورِ معاتبًا
- صديقُكَ لنْ تلقى الَّذي لا تعاتبُه
ما هي صفات صديقك المفضل؟
ليس النَّاس أمتارًا من القماش نقصُّ منها ما يسوءنا من خصالٍ ونفصِّلها بما يناسب مقاييس أبداننا، وليست جسور الودِّ تبنى بمعادلات الجبر ومقاسات الهندسة، فإنَّ الرُّوح سرٌّ كبيرٌ لا تكشفه قوانين العلوم، والمودَّة والبغض والقبول والرَّفض كلُّها أسرارٌ لا قواعد ثابتة لها، إلَّا أنَّ العاقل مَن يبذل وسعه في حسن الاختيار، فيغلي مودَّته ليمنحها من يستحقَّها من النَّاس فقط، وهذا ما يستوي لمن كان له من الخصال الفضيلة وأدرك عيوبه وجانب الرَّذيلة، فذلك من يحقُّ له أن يضع النَّاس في الميزان ويُفاضل بينهم فينتقي لنفسه ما يليق بها بعد أن وضع نفسه وعرف قدرها فلم يحطَّ منها ولم يرفعها لما هي أدنى منه.
إنَّ أحسن النَّاس مَن صدق صديقه بالقول والفعل والنيَّات، ومَن كان عونًا له ما استطاع ووفى له في غيبته وشرح صدره في حضرته، ومن إن وجد صديقه أوشك على السُّقوط سارع فأمسك بيده وجذبه ومنعه من الوقوع في الهاوية، فإنَّ مِن حُسن الصَّداقة أن يتمنَّى الإنسان لصديقه ما يتمنَّى لنفسه من الدُّنيا ويكره له ما كره لنفسه، وفي ذلك قال مصطفى صادق الرَّافعي: "الصَّديق هو الَّذي إذا حضر رأيت كيف تظهر لك نفسك لتتأمَّل فيها، وإذا غاب أحسستَ أنَّ جزءًا منكَ ليس فيك"[٢]، فالصَّديق من يرى فينا شيئًا من نفسه، فيكترث لحالنا ويسأل لنا الصلاح من كلِّ سوءٍ والعافية من كلِّ ألمٍ كما يسأل لنفسه.
الصَّداقة علاقةٌ تسمو على كلِّ المصالح والمنافع، فمن علامات صلاحها أن يحبَّ الصَّديق صديقه دون انتظار منفعةٍ أو توقُّع فائدةٍ، فإن كانت المصالح والمكاسب سببًا في قيامها وقعت وإنْ قامت الصَّداقة دون ذلك تحصَّلت منها المنافع دون انتظارٍ أو طلب، وإنَّ أكثر النَّاس أوَّل أمرهم هم جميلون، لا سوء يبدو منهم ولا نقص يكدِّر صفاء صورتهم، لكنَّ طول المعرفة يكشف أصل الطَّبائع ويظهر الخفيَّ من أسرار النُّفوس، فلا ترسخ الصَّداقات إلَّا بالمطاولة واختبار القلوب في تقلُّباتها، فإنَّ كثيرًا من النَّاس يتغيَّرون وينقلَّبون عن ودِّهم، وفي هذا قال الشَّاعر:
كذلك جدِّي ما أصاحبُ صاحبًا
- منَ النَّاسِ إلَّا خانني وتغيَّرا
ليس الصَّديق من بدت مودَّته في أوَّل الأمر، إنَّما الصَّديق مَن طالت مودَّته في جميع أحواله، فلم يتغيَّر في حزنٍ ولم يبتعد في شدَّةٍ ولم يأخذه سرورٌ وهناءٌ من ودِّه، وإنَّ أصلح النَّاس من تقبَّلنا كما نحن وأحبَّنا في جميع ظروفنا، فلا ابتعد في مصيبةٍ ولا تخلَّى في نائبة، فإنَّنا أكثر ما نعوز أصدقاءنا في الهمِّ والضِّيق فبه نعرف صدق ودادهم وأصالة وفاءهم، وبه ينكشف نقاء سجاياهم وصفاء قلوبهم، وما جدوى الصَّداقة إن لم تكن عونًا للإنسان، فدون ذلك يبدو زيف المحبَّة وادِّعاء الوفاء واصطناع الصِّدق ممَّا يستوجب الحذر منه وأخذ الحيطة واتِّقاء الشَّر.
لا يستوي النَّاس في قُدرتهم على معرفة خبايا النَّاس واستشفاف نيَّاتهم؛ فإنَّ فيهم من تخدعه المظاهر وتأخذه الكلمات اللَّيِّنات، فيُسرع في بذل ثقته واستيداع أسراره ليُمنَى بخيبةٍ كبيرة، ومن النَّاس من يسيء الظنَّ ويتوقَّع الغدر من أقرب النَّاس إليه وذلك قد يوقيه من خيبات الأمل لكنَّه يحرمه من نعمة الودِّ الصَّادق وفرص الصَّداقة الصَّادقة المُمكنة، فلا يلتمس النِّعم المتحصِّلة منها ولا يشعر بهناء الاطمئنان إلى الآخر والوثوق به، فهو بخوفه آمنٌ حزينٌ وناجٍ وحيد.
كيف تقضي وقتك مع صديقك المفضل؟
الوقت شعورٌ وليس مجرَّد عقارب ولا يُحسب بالدَّقائق، فإنَّه في الحزن طويل ثقيل وفي السُّرور قصيرٌ خفيفٌ، وفي الوحدة شديد وبالصُّحبة هيِّنٌ يمرُّ على خفَّةٍ، فمعأصدقائنا نكسر السَّأم ونُذهب الملل ونطوي الهموم ونغلب الحزن، والنَّاس ليسوا على وفاقٍ فيما يحبُّون، فلكلٍّ سعادته الخاصَّة وميقاته الهانئ في البيت أو في الشَّارع أو في السَّيارة أو في المطاعم أو الأندية أو المسارح، فإنِّي إن أحببت حضور الأمسيات الشِّعريَّة والحفلات الموسيقيَّة عرفت في صديقي مثل ذلك، فهو قسيمي في الميل والمزاج، ولكلٍّ وجهته في ذلك يشاركها صديقه، ويقتسم معه متعة الأشياء حتَّى يجدها ناقصةً دونه باهتة الألوان.
إنَّ ساعة بصحبة الصَّديق تُعطي واحدنا راحةً وطمأنينةً لا يجدها في سواه حتّى بين أهله وإخوته، فالأصدقاء أهلٌ مُختارون والأهل أصدقاءٌ مفروضون قد لا يشبهوننا لكنَّ رابطة الدَّم تلزم مودَّتهم، أمَّا الصَّداقة فلا يحكمها دمٌ ولا تحدث لواجبٍ، بل إنَّها هي الواجب الَّذي تتحصَّل بعده روابط أقوى من روابط الدَّم أحيانًا، وقد أثبتت الدِّراسات النَّفسيَّة أهميَّة الصَّداقة وتأثيرها العميق في النَّفس وخاصَّةً عند المرأة، وهو ما ذكره العالم الفرنسيّ جان لوك دانيال من أنَّ الصَّداقة ترفع المعنويَّات وتُحسِّن المزاج، كما تساهم في رفع نسبة هرمون "الأوسيتوسين" الذي يساعد على التَّمسك بالآخرين، وهرمون "السيروتونين" الذي ينشِّط المزاج وهرمون "الإندروفين" الَّذي يزيد السَّعادة.
إنَّ تلك الفوائد لا تتحصَّل إلَّا مع وجود صديقٍ صدوق، صافي النِّية ونقيّ السَّريرة، لا مداهنة في صحبته ولا كذب في مودَّته، يحفظ الغيبة ويكتم السِّرَّ، وإذا أسعفنا الحظّ بالصُّحبة الصَّالحة فتلك نعمةٌ كبيرةٌ نحفظها بالودِّ والوفاء والإيثار والدَّعم، فلا يستحقُّ الوفاء إلَّا صاحبه ولا يطلب الودَّ إلَّا الودود ولا ينشد الصِّدق إلَّا الصَّادقون، فمن ظنّ غير ذلك فقد أساء الحساب إذ انتظر من سوء الفعل حسن الثَّواب، وهذا ما لا يستوي في عقل العقلاء إلَّا أن يكون الإنسان من الجهلاء أجارنا الله من أن نُشبههم.
المراجع
- ↑ "إذا كنت في كل الأمور معاتبًا"، مقولة، اطّلع عليه بتاريخ 2020-12-03.
- ↑ "أقوال مصطفى صادق الرافعي"، اقتباسات، اطّلع عليه بتاريخ 2020-12-03.