محتويات
المقدمة: الفلاح غارس البهجة
من المسلّم به أن للفلاح أثراً كبيراً في حياة الناس كما أنه ذو أيادٍ بيضاء ممدودة نحو السماء، كيف لي أن أصف ذلك الإنسان الذي يغرس البهجة في كل مكان وزمان؟! كيف لا يغرس البهجة وهو يمنح الأرض حبه وشقاءه فرحه وتعبه، ومما لا يمكن إنكاره أن الفلاح خُلق للكد والعمل والتعب والشقاء كما خلق أيضًا ليمنح الأرض لمساته الحانية، ويسقيها من حبه الوفير ومن عرق جبينه، لا أحد يعلم كم يقاسي ذلك الفلاح وهو ينبش ويحفر ويرش البذور ويزرع تحت الشمس حينًا وتجلده الأمطار حينًا آخر، لكنه سعيدٌ ولا يشكو من طول ساعات العمل ولا يبكي الملل فهو الفلاح القوي الذي يعمل بلا كلل.
العرض: أغاني الحصاد احتفاء بالعطاء
يروي الفلاح بذوره ويجمعها وينثرها ينادي ربه في الصباحات الباكرة ويدعوه أن يكون عونًا له في يومه الطويل، يُغني أغنيةً للحصاد يمشي غبِطًا مسرورا لا يثنيه التعب عن بلوغ المرام، فهو يعلم علم اليقين أنه لو توقف يومًا عن المسير فقد تذوي نباتاته التي سقاها من عرقِ جبينه وقدم لها كامل الحب والعطاء، حتى كَبرت واستطالت نحو السماء، شاكرةً ربها على ذلك الأمر الذي ما برح يومًا وما أثناه الشقاء عن العطاء، قلنا: إن تلك الشجرات كبرت وترعرعت حتى بلغت عنان السماء قويةً تقف في وجه الرياح والأمطار والعواصف المدمرة، هي شامخة؛ فقد تعب الفلاح حتى كبرت وصارت تغني للحياة والأمل والحب والعطاء، وتدعو ربها أن يحفظه صباح مساء.
سمعتُ جدتي ذات يوم تقول قولًا عجيبًا بينما كانت تقف قرب شجيراتها، إذ مر طفل يلعب آنذاك وألقى بكرته عاليًا حتى أصابت الشجرة، ذهلتُ وأنا أراقب رد فعل جدتي، فقد آلمتها تلك الضربة حتى خيل إلي أنّ الكرة أصابت جزءًا من جسدها، أمسكت الشجرة تتحسس ذاك الجزء الذي أصابته الكرة وكأنها تتحسس جسد طفلٍ مسكين أعياه التعب ظننت أن للشجرة روحًا، تناولت الكرة قائلة: لا حول ولا قوّة إلا بالله ونادت ذلك الطفل الشقي وسألته عن فعلته وشرحت له كيف أنه آذاها قبل أن يؤذي الشجرة، أخبرت جدتي ذلك الطفل أن كل شجرةٍ من شجراتها هي ولدٌ من أولادها وكل فرعٍ من فروعها هو حفيدٌ من أحفادها الذين ما انفكت ترعاهم وتسقيهم حتى كبروا واشتد عودهم، لله درك يا جدتي! قلت لها: هل تقصدين أن تلك الشجرات والدي وأعمامي وان فروعها هم إخوتي وأولاد عمي؟ ! قالت وأكثر يا بني، وتابعت القول: إنّ أبي وأعمامي وأحفادي جميعًا قادرون على درء المخاطر إن حدّقت بهم لكن الشجرة لا حول لها ولا قوة، أصابني الذهول مما سمعت أما الطفل فقد خجل كثيرًا من نفسه وطأطأ رأسه واعتذر عما بدر منه وسلم علينا وذهب.
منذ القدم وأغاني الحصاد الجميلة مشهورةً بين الحصادين والحصادات وهي أغانٍ لا يُعرف قائلها ولا واضع كلماتها ولا مؤديها، وإنما هي كلماتً ابتدعها أهل العمل، فتارةً تحكي الحماسة وتدعو المزارعين للإسراع والإنجاز فتزيدهم حماسًا للعمل، ومن تلك الأغاني أيضًا أغاني الدراس والرّجيدة والتذرية والقطاف إلى جانب أغاني البرغلة والسليقة، ولتلك الأغاني دلالات متعددة منها: الدلالات الاجتماعية التي تحمل الكثير من المعاني: الشكوى والتعب والألم كما تصف الأحوال الشخصية للفلاح: الخوف والحنين والشوق أما الدلالات الفلسفية فهي تُعطي أسئلةً عن الحياة والموت وعن الوجود وكل ما هو آتٍ وتحكي مصير الإنسان، وهناك دلالات للعمل، وتشجيع الفلاحين وحثهم على الإسراع في العمل والانتباه والتركيز، ومنح الفلاحين النشاط واستنهاض هممهم .
لم أردد تلك الأغاني يومًا ولم أسمعها بأذني من قائليها، ولكني حين جلست مع جدتي وسألتها عن مواسم الحصاد ضحكت وعدّلت من جِلستها وأخبرتني أنها ما زالت تحفظها عن ظهر قلب، وأنها لا تنساها أبدًا إذ كانت تشدو بها كل يوم حين ينالها التعب أو يشتد الحر أو عند جني القمح، قلت لها: جدتي غنِّي لي بعضًا من كلماتها. ابتسمت جدتي وشعرت بالفرح وبدأت تقول، كنا عند اشتداد الحرّ نقول:
- يا زرع قطفته والندى عليه
- يا سامي ندهته واسم الله عليه
- يا زرع قطفته من شطك يا واد
- يا فلان ندهته من بين الأجواد
- يا زرع قطفته من شطك يا بير
وعندما نتعب من الحصاد نردد:
- بكرة بتخلص الحصيدة
- والموارس والغمور
- تنلبس الثوب المطرز
- ونقعد في القصور
ما إن انتهت جدتي من سرد تلك الأغاني حتى ترقرق الدمع في عينيها، حاولت إمساك دموعها على خجل ولكن قطرة شقية تدحرجت على خدها داعيةً أخواتها للحاق بها، فانهارت الدموع مرةً واحدة وملأت حجرها وهي تدندن بكلام من أغنيات الصبا.
عندما يحين موعد قطاف الزيتون تتحول الأرض الخضراء إلى بساط أبيض من الأقمشة وينسل الأهل والأقارب والأصحاب ويبدؤون بقطف ثمار الزيتون فيبدؤون بالعمل منذ الصباح الباكر من غير كلل أو ملل، ويغنون معها أغاني الحصاد التي ظلت خالدة في عقول الكثيرين حتى يومنا هذا فهي ميراثٌ جميل ينتقل عبر الأجيال، وما إن تتوسط شمس الظهيرة صفحة السماء حتى يبدأ الكد والتعب وتلفح وجوهم الشمس، فينزلون كل من مكانه ويتفيؤون ظلال شجرة معمرة شهدت عصورًا من الصبر والألم وأجيالًا من الشقاء والمحن، فيتحلق الجميع حول كأس من الشاي وبعض الطعام وبعدها يذهبون في غفوة قصيرة ليزيحوا عن ظهورهم عناء العمل، وبعد مرور وقت من الزمن يعود الأبطال نشيطين سعداء كما بدأوا في الصباح إذ يعملون حتى المساء، وقبل هبوط الليل بقليل يجمعون تلك الثمار الغالية بصناديق ليذهب كل صندوق في طريقه فبعضها يُعصر ويتحول إلى زيتون بكر صاف، أو يبقى كما هو ليبتاعه الناس ويصنعون منه المخللات وشتّى الأصناف الشهية.
الخاتمة: صباحات المزارع بدايات للحياة
إنّ صباحات المُزارع هي بدايات الحياة، فتلك الثمار والخضراوات التي نشتريها جميعًا لتُؤكل أو تُطهى في بيوتنا هي رزق الله وقدرته عز وجل في تحويل البذرة إلى شجرة مثمرة ويد الفلاح التي تعمل صباح مساء كي ترعى تلك البذور وتحمي تلك الثمار من كل من يدنو نحوها من: دواب وحشرات مؤذية وأيادٍ مخربة حتى تصل إلينا ونتذوق حلاوتها.
قد تستلهم أفكارًا لكتابة تعبير عن الفلاح من هذا المقال: أهمية الفلاح.