محتويات
الكرم صفة نبيلة
كان الإنسان العربي يمتاز بصفة الكرم منذُ القِدَم، فكانت هذه الصفة ممّا يتفاخر بها العرب قديمًا، وبعد مجيء دين الإسلام صارت هذه الصفة محل اهتمام وتكريم من الشريعة الإسلامية؛ لما لها من امتيازات تقرّب الناس بعضهم من بعض، فكانت صفة الكرم إحدى الصفات النبيلة التي تجعل صاحبها سيِّدًا في قومه وأحد الوجوه البارزة عند الشدائد.
هذه الصفة لشرفها وكرمها فإنّ الله تعالى قد سمّى بها نفسه، فهو تعالى الأكرم على إطلاق العبارة، وهذا الاسم من شأنه أن ينبّه الناس إلى إحياء حياتهم بالكرم والجود دون إفراط أو تفريط.
الكرم خُلق الكمّل من العالَمين
جاء الإسلام وجاءت معه أخلاقه الجديدة التي لم يكن العرب يألفونها، فبينما كان العربي في الجاهلية يُعطي ويُنفق ويستجدي الشعراء ليكتبوا فيه مدحًا عن جوده وكرمه، أو كان ينفق ويقول في نفسه شعرًا أنّه أكرم الناس في زمانه، فإنّ الإسلام قد أتى بمفهوم جديد للكرم؛ وهو الإنفاق سرًّا؛ حيث لا تدري اليد اليمنى ماذا أعطت الشمال.
أو أن يعطي في العلن ولكن من دون أن تكون نفسه تطلب ذلك من أجل الشهرة ولكن ابتغاء أن يرضى الله تعالى عنه، فكان للكرم مفهوم جديد حمله الإسلام معه واعتنقه المسلمون، وصارت المنافسة بينهم تكون في السر من أجل بلوغ رتبة الكمال الإنساني في إيثار الآخرين على النفس لبلوغ رتبة محبة الله تعالى للعبد.
منذ ذلك الوقت -أي مجيء الإسلام- والكرم صار عند المسلمين يحمل كثيرًا من المعاني الجديدة، فتحوّل عند بلال الحبشي من بذل للمال إلى بذل للنفس في سبيل الحق الذي صار يمشي عليه، وصار عند أبي بكر إعطاء كلّ شيء في سبيل نيل القرب من الله تعالى ورسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم-.
إذًا؛ فالكرم هو صفة الكاملين من الخلق، الذين يعلمون أنّ الدنيا زائلة، وأنّ ما ينفقونه اليوم سيُجزَون خيرًا منه في الآخرة، وأنّ رؤوس أموالهم هي ما يُعطى من أموالهم لا ما تقوم به تجاراتهم، فاختلف عندهم مفهوم التجارة من التجارة مع البشر إلى التجارة مع رب البشر -سبحانه- الذي يعطي ربحًا أكبر بكثير ممّا يمكن لهم أن يجنوه من البشر.
صار الكرم عادة في نفوس المسلمين، ومن خالَطَ الكرمُ أخلاقَه فإنّه يسمو به فوق رتبة البشر ويجعله كريمًا في كلّ شيء، كريمًا في البذل والسخاء، كريمًا في رفع الظلم عن الآخرين، كريمًا في الترفع عن خلق الجبناء والأنذال، كريمًا حتى في مشيته وقيامه وقعوده.
الكرم عبادة يؤجر عليها المسلم
يمكننا القول إنّ الكرم من أسمى العبادات التي يؤجَر عليها الإنسان المسلم، ناهيكَ عن أمور البذل والإنفاق ومساعدة الآخرين، ولكن هنالك أمرٌ قد يخفى على الناس ألا وهو أنّ في الكرم والبذل والجود كلّ ذلك فيه حسن ظنٍّ بالله تعالى، فمتى أعطى الإنسان ولم يخشَ الفقر فإنّ إيمانه بالله تعالى يكون راسخاً لا يتزعزع في أنّه سيخلف عليه خيرًا ممّا أعطى.
المال الذي بين يدي المسلم هو في الأساس أمانة من الله تعالى، والمسلم مأمور بإنفاقه على الوجه الذي يرضي الله، فإذا انتهى المال الذي بين يدي المسلم المؤمن بالله تعالى أنّه هو الرزاق والمعطي والمانع فإنّ هذا المال سيعود ويتجدد بين يديه من جديد.
أمّا البخيل فإنّه يحرص على أن يكون المال بين يديه ولا يعطي منه أحدًا خوف عدم رجوع ذلك المال، فهو بذلك قد أساء الظن بالله تعالى الذي جاء في قرآنه وفي أحاديث نبيّه الكريم الذي لا ينطق من دون وحي منه تعالى أنّ الذي يعطي سينال أضعاف ما أعطى، فهذا أوّل جوانب العبادة التي تكون عند الكريم.
ربط الإسلام بين الكرم والإنفاق وعدة عبادات حتى يعوّد الناس على الإنفاق والبذل والسخاء فيصلوا إلى الكمال الإنساني في الأخلاق وفي غير ذلك، فجعل الصدقة على الفقير والمسكين والمحتاج عبادة مأجورة يختلف أجرها باختلاف طبيعة المحتاج وباختلاف طريقة الإعطاء.
جعل الزكاة كذلك عبادة ماليّة يؤخذ من خلالها المال من صاحبه ليُعطى لمن يستحقّه في كلّ عام مرة واحدة، ومن نقول أنّ الكرم كان عبادة تدخل في كثير من شؤون المسلم لتقول له: إنّ العبادة لها أشكال كثيرة ولا تنحصر في شيء واحد.
الكرم ينهض بالمجتمع
أخيرًا، إنّ الكرم سببٌ من الأسباب العظيمة التي تنهض بالمجتمع وتُحييه من جوانب عدّة، فتنهض به من الناحية الاقتصادية حين يتكاتف أبناء هذا المجتمع لسدّ ثغرة الفقر التي تنهش الناس وتقلب حياتهم في كثير من الأحيان إلى جحيم.
تنهض بالمجتمع من الناحية الاجتماعيّة حين يشعر أبناء المجتمع الواحد أنّهم إخوة وأقرباء، فتصفو حياتهم ويلتفتون إلى الاهتمام ببلدانهم ومدنهم ويرفعونها عاليًا؛ لأنّ كلّ فرد فيهم يشعر أنّ المكان برمّته هو مكانه وبيته.
الفقر من أكبر المشكلات التي تضرب المجتمعات الحديثة لقلّة الموارد التي يمكن لها أن تغطّي مصاريف الناس، ولعلّ الكرم والمشاريع التي تُجعَل وقفًا للناس من أهمّ الحلول للارتقاء بالمجتمعات، حيث كان هناك قديمًا أوقاف للفقراء والمساكين، وحتى للحيوانات كما يذكر المؤرخون، فكان الفقير لا يهتمّ للطعام والشراب واللباس، كان كلّ شيء موفّر له من الميسورين، ولو كانت الحال اليوم كما هي سابقًا لما بقي فقر وصار اهتمام الناس منصبًّا على مشكلات المجتمع وأحواله فحسب.