محتويات
رحلتي إلى عيون السمك
انتهى العام الدراسي وانقضى شهر رمضان المبارك، وبدأت أمي بتحضيرات العيد من الكعك والحلويات وغير ذلك ممّا اعتادت العائلة أن تصنعه في أيام العيد، وقد قررت ما سنفعله في اليوم الأول والثاني حيث زيارات العائلة، أما في اليوم الثالث فهو اليوم المقرر لنذهب في رحلة من اختيارنا.
جلسنا في المساء ونحن نفكر إلى أين سنذهب في هذا العيد خاصة أن الخيار قد تُرِك لنا هذه المرة، بدأنا بالتفكير معًا وكل واحد من العائلة يقترح علينا اقتراحًا فكانت مجمل اقتراحاتهم أن نذهب إما إلى البحر فالأجواء لطيفة الآن أو ربما نذهب معًا لتسلق الجبال، لم ترق لكثير منا الفكرة الثانية أما الفكرة الأولى فقد كانت محل تفكير من قبل الجميع، إلا أنني عارضت الذهاب إلى البحر لأنني لا أفضل العبث كثيرًا مع المياه المالحة، ولا يستهويني اللعب برمال الشاطئ لأنها حارقة وتؤدي إلى جفاف الأيدي وهذا ما يؤذيني كثيرًا.
قررت الاستعانة بمحرك البحث غوغل والتفتيش عن بعض الأماكن التي يُمكن زيارتها مع العائلة فظهر أمامي فجأة منظر طبيعي خلاب تهفو النفوس إليه وتستريح بين يديه، دخلت فورًا إلى الصورة فإذا بذلك المكان في منطقة جميلة يقال لها عيون السمك، هذه المنطقة لا تبعد عن بيتي كثيرًا فهي في طرابلس لبنان في المكان الذي أعيش فيه، بحثت أكثر فإذا بيني وبين ذلك المكان نصف ساعة في السيارة فركضت بالصورة إلى أمي وسألتها عن رأيها وبدورها سألت عائلتي فأجابوا جميعًا بالموافقة فالمكان جميل عليل.
دائمًا ما يلجأ الإنسان إلى الطبيعة من أجل الترويح عن نفسه وخاصة في أيام الصيف الحارة، لذلك يبدو أن اختياري لهذه البقعة كان صائبًا ويبدو كذلك أن العائلة ستستمتع بهذه الرحلة الجميلة وتنفض عن نفسها غبار التعب، فالطبيعة هي بمثابة الأم الرؤوم لكل أبناء الأرض.
الاستعداد للاستراحة بين أحضان الطبيعة
الطبيعة هي حلم كل بشري على وجه هذه الأرض فمهما علت الأبنية وتطاولت وكثرت الزينة واختالت بألوانها يبقى لبريق الشمس دائمًا طعم لا مثيل له، فروح الإنسان لا تكون صافية إلا والنسيم يداعب خصلات ذاكرته ليأخذه إلى عالم الطفولة التي ربما قضت الحياة أن يهجره منذ زمن، ربما كان هذا السبب الذي جعلني أختار عيون السمك لتكون هي ملجأنا في ثالث أيام العيد.
بدأنا بالتجهيز من أجل تلك الرحلة أختي سلمى كانت تعد قائمة بالألعاب التي سنلعبها هناك، فلا يخفى على أحد أن الألعاب هي التي تجمّل النزهة، وقد تعلمت سلمى حديثًا لعبة الشطرنج وبدأنا بالمنازلات ما بيني وبينها منذ إتقانها لتلك اللعبة، وقد شجعنا والدنا على ذلك إذ إنها تنشط الذاكرة والعقل وتعد ممارستها رياضة ذهنية تتجدد فيها النفس البشرية، أما اللعبة الثانية فكانت كرة الطائرة حقيقة إن هذه اللعبة واحدة من الألعاب التي تستهويني بشكل كبير، إضافة إلى متعتها إلا أنها تمنحني قدرة جسدية عالية على تحمل الركض والقفز دون جهد لفترة ليست قليلة من الوقت.
الرياضة حياة هذا ما اعتدنا على سماعه من أجدادنا وهذا ما وجدته حقيقة واضحة لا نقاش فيها، أما أنا فقد كانت مهماتي مختلفة عن مهمات أختي في عملية التحضير، إذ يقع على عاتقي أن أجلب مختلف الأشياء من السوق التي ستحتاجها أمي في عملية إعداد الطعام، إذ اتفقنا معًا على تحضير الدجاج المشوي مع مختلف أنواع السلطات الطازجة وقليلًا من الحمص المتبل بالليمون وبعضًا من أنواع الفاكهة والحلويات، ولا بد أن حلوى العيد سترافقنا أيضًا في رحلتنا، فلا يمكن قضاء يوم من أيام العيد دون طقوسه المتمثلة بالمعمول والكعك المحلى وقليل من الشاي الأحمر اللذيذ.
أجزم أن هذه الرحلة ستكون رحلة متفردة بسبب المكان المتفرد الذي سنذهب إليه، ولا أجمل من الرحلة مع العائلة فتكون محفوفة بالألفة والمحبة، وكم أدعو الله أن يديم عائلتي ويحفظها من كل شر، حتى تبقى أيامنا ضاحكة باسمة.
حوار مع مظاهر الجمال
قرّرنا الآن أن نذهب جميعًا إلى عيون السمك تلك البقعة الرائعة التي اجتمعت فيها أسباب الجمال، فلا يرى عاقل صورها البديعة إلا ويتمنى أن يستريح بين أغصان أشجارها ويرتوي من مائها، لذلك فقد وافقت العائلة كلها على الذهاب في تلك الرحلة المتفردة، وقد أعددنا العدة لذلك ولم يبق لنا إلا أن نختار وسيلة النقل التي سنذهب بها إلى ذلك المكان.
إنّ عيون السمك تبعد عن بيتنا نصف ساعة ونستطع الذهاب إليها بالسيارة أو حتى بالقطار الذي يصل ما بين بلدتنا وتلك المنطقة الجميلة، اجتمعنا معًا مساء قبل الذهاب إلى الرحلة واقترح والدي علينا أن نذهب إلى عيون السمك بالقطار، إذ من خلال القطار يُمكننا أن نشاهد المناظر الخلابة التي أنعم الله بها على هذه البلد الجميل، لأنّ سكة القطار تمر بغابة قريبة من عيون السمك ونتمكّن بذلك من رؤية الشلالات التي تضج بها منطقة عيون السمك، فوافقنا كلنا على ذلك الاقتراح.
ركبنا القطار في الساعة السابعة صباحًا وكان ذلك اليوم بديع الجمال، فالشمس ليست حادة بشكل كبير بل أشرقت وهي ناعسة فكانت بالكاد ترسل أشعتها على الجبال التي نراها حولنا، والغيوم لم تكن خارج دائرة اللعبة بل كانت تأتي أمام الشمس قليلًا ثم تبتعد وكأنّها تلعب مع الشمس لعبة الغميضة التي نشأنا عليها، وصلنا إلى القطار وركبت أنا في المقعد الذي يطل على النافذة، كانت الأشجار مهيبة الجمال ومائلة كلها على اتساق واحد وكأن الهواء لم يشأ أن يمر من ذلك المكان دون أن يضع توقيعه عليه، فالأشجار المكونة من الخشب القاسي استجابت لمطالب الريح اللطيفة، كان كل شيء جميلًا في ذلك اليوم، والأزهار تتمايل بعضها إلى بعضها وكأنها تغني لأيام فصل الربيع.
لم ندر إلا وسائق القطار قد أسرع حتى صار الهواء يضرب وجنتيّ وكل ما حولي يسير سريعًا فلا أرى إلا صورًا متلاحقة لو اجتمعت لعدّها الفنانون أيقونة للجمال، سعيد جدًّا في هذه الرحلة المميزة التي سنتعرف فيها إلى معلم من معالم الطبيعة غير معروف على مستوى العالم، ربّما كان ذلك لضعف التسويق الإعلامي لهذه المنطقة، ولكنّ الجمال لا يحتاج أن يسوق إلى نفسه، كم أنا مشتاق أن أصل إلى ذلك المكان مع عائلتي لنمضي أجمل الأوقات ونستريح من عناء الحياة سوية، إنها الطبيعة أمان كل خائف في الدنيا.
الوصول إلى النهاية
إنّ عيون السمك جميلة جدًّا وكم أتمنى أن تطوى الأرض تحت أقدامي حتى نصل إلى المكان المطلوب سريعًا، كم أنا متشوق إلى رؤية الشلالات الصافية التي تنبع من كل حدب وصوب، وكأنّها تعلن عن انفجار الجمال في كل مكان.
وصلنا إلى عيون السمك وكم كان المنظر أعمق من الوصف، وكم عجز الحبر عن تدوين ما رأته عيناي، جمال منقطع النظير وعيون متفجرة من الصخر من بين مجموعة عظيمة من الأشجار المعرشة حولها، والنّاس قد وضعت طاولاتها منهم على مقربة من النهر السريع ومنهم من اختار جانبًا من النهر ليس فيه تيارًا قويًّا فوضعت طاولاتها وجلست بداخله، المكان أكبر من الوصف بكثير وخاصة لما حاولنا قطع الجسر الخشبي الذي يصل ما بين الضفتين، كان شعورًا منقطع النظير لم أصدق أني سأعيشه إلا مع أبطال أفلام الكرتون ولكنه الآن صار حقيقة، وصلنا إلى شجرة من التفاح جميلة تتدلى الثمار الناضجة منها، وجلسنا تحتها.
بدأت أمي بتحضير المائدة من أجل البدء بإعداد الطعام، وكانت الجولة الأولى في هذا المكان لي ولأختي فقد لعبنا في النهر وحاولنا اصطياد بضع من الأسماك وكم كانت الفرح كبيرة لمّا تمكنت من ذلك قبلها، بدأنا جميعًا بتحضير المائدة وأضفنا وجبة من السمك المشوي إلى جانب الدجاج ثم لعبت وأختي في مياه النهر وذهبنا لمساعدة أمي في تحضير مائدة الطعام، كم هو لذيذ أن يأكل الإنسان بين أحضان الطبيعة، ولما انتهينا ساعدنا والدي في جمع القمامة ولعبنا الشطرنج، ولا أنكر أنّ أختي قد استطاعت أن تغلبني بعد أن كنت أنا من يعلمها هذه اللعبة، حلّ المساء وصارت العودة إلى المنزل حتمية فقد قاربت الساعة العاشرة مساء.
إنّ شعوري في هذه اللحظة مزيج ما بين الحزن والسعادة، السعادة على قضاء يوم جميل مثل ذاك والحزن لأنه انتهى، كانت العائلة فرحة جدًّا وقد شكروني جميعهم على وصولي إلى مثل هذا المكان وإخبارهم به، أنا فخور بنفسي لأنّي شاركت في إسعاد عائلتي، وسطرنا جميعًا أجمل الابتسامات في هذا المكان.