تعبير عن مهنة المستقبل

كتابة:
تعبير عن مهنة المستقبل

ماذا تحب أن تكون؟

في إحدى صباحات الشتاء الباردة كنتُ أجلسُ في الصف مستمعًا إلى مُدرّس اللغة العربية، إذ كان واقفًا في منتصف المنصّة التي تلي السبورة، وهو يشرح درسًا مستفيضًا عن المُضافِ والمضاف إليه. لم أكن أحبّ القواعد النحوية كثيرًا، ولكنّي كنتُ أستمتع بمادّة القراءة التي تحتوي على نصوصٍ عديدةٍ ومتنوّعة بلغة أدبية عاليّة تسحرُ القارئ بالمفردات والتشبيهات والاستعارات المدهشة.


في حصّة القواعد تلك، وبعد أن انتهى المدرّس من شرح القاعدة وجّهَنا لفتح الكتاب ومحاولة حلِّ التمرين الأول الذي يشتملُ على نصٍّ، ويتوجّب علينا أن نستخرج منه المضافَ إليه ونُعربه. بدأتُ بقراءة النصّ المنسوبِ إلى الشاعر والكاتب والأديب اللبناني جبران خليل جبران، وإذا بهِ يسحرني بتعبيراته التي تصفُ المطرَ وصفًا رقيقًا، وكأنَّ الغيمةَ عاشقةٌ للحقل فيكون المطر وسيلتها لتصل إليه، وكأنّ الحقل عاشقٌ أيضًا فيرتوي شوقُهُ من سُقيا المطر، والمطر طفلٌ ينقرُ بأصابعه على نافذةِ المنزل، ولا يفهمُ صوتَ طرقاتهِ إلا أصحاب النفوس الحساسة.


لقد أبدع الكاتب في التشبيه حتى لم يدع سحرًا إلا أبهرني به، ولامسَ قلبي بكلماته، وفي طريق عودتي إلى المنزل تلمّستُ حبّات المطر التي تهطل من السماء، وشعرتُ بأني أمتلك الكثير من الكلمات التي يُمكن أن تعبّر عن هذا الشعور الجميل الذي يبعثُه هذا الخير الهاطل. حين وصلتُ إلى المنزل أمسكتُ بورقةٍ وقلم، وكتبتُ موضوعًا يتجاوز الصفحتين عن وصف المطر، ثمّ أتيتُ به إلى أستاذ اللغة العربية في اليوم التالي.


أُعجبَ الأستاذ بكتابتي أيّما إعجابٍ، وأثنى على الأسلوب الرقيق الذي كتبتُ به ذلك النص، فأخذَ أوراق الموضوع الذي كتبتهُ وأصبحَ يعرضها على بقية الأساتذةِ يشرحُ لهم شدّة إعجابِه، ويحكي لهم عن تأثري بالكاتب جبران، وما أثمرهُ هذا التأثّر من دافعٍ للكتابة.


زُرتُ فيما بعد معرض الكتاب، فاقتنيتُ الأعمال الكاملة لجبران، وقرأتُها بأكملها وتعرفتُ على حياته وحياة الذين تأثر بهم من شعراء المهجر، فحلمتُ أن أكونَ كاتبًا في المستقبل، أسعى للتعبير عن آلام المتألّمين، وكشف أسرارِ اللغةِ واستخدامها في الوصفِ والسردِ والقصّ والفِكر، وأخذتُ أحثُّ أصدقائي على القراءةَ للشعراء والكُتّاب، وأبيّن لهم كم تُخفي هذه اللغة بين طيّاتها آلاف العلوم والمعاني العميقة التي تخوضُ في أعماق النفس الإنسانية فتشفي زفراتها، وتنفثُ آلامها، وتعالج قضاياها وقضايا شعوبها.


من أيّ مسلكٍ أو طريق، من أي مُلاحظةٍ أو هوايةٍ أو كتاب، يُمكنُ للإنسانِ أن يكتشف حُلمه الذي قد يُعينُه في مهنته المستقبليّة، أو يكتشف المهنة التي يمكن أن تُعينه على حلمه، ثم يصنعُ منها أمَلًا ينمو كلّ يوم بالاهتمام والمتابعة والشغف، ليكبر ويثمرَ ويتحقق ويملأ الكون نجاحًا ونهضة، فلكلّ إنسانٍ قدراتٌ جبّارة لا بدّ أن يستثمرها خلال حياته، وبداخل كلّ إنسانٍ بذرةٌ إذا تعهّدها بالعناية ستجعل منه عظيمًا.  

كيف تختار عملك المستقبلي؟

مضتْ عشرُ سنواتٍ، تخرّجتُ فيها من الجامعةِ، فعملتُ أستاذًا لمادّة اللغة العربية، وكنتُ أظنّ أني سأبدع في مجالِ التدريس، إلا أنني لم أستطع أن أستعمل موهبتي التأليفيّة أثناء التدريس، إذ كان المنهجُ مُحدّدًا لا يُمكنُ الخروجُ عنهُ، وليس فيه تفعيلٌ للإنشاء إلا في بعض الأسئلة في مادة الإنشاء والتعبير، كما أنني وجدتُ الحاجة إلى ضبطِ طلبةِ المدارس حاجةً متعبةً وضروريّة أكثر من ضرورةِ براعتي في التأليف.


قررتُ التنازل عن هذا العمل إلى صديقي، وشرعتُ أبحثُ عن عملٍ في دُورِ النشر، وحين كانت الفُرَص قليلةً فيها لجأتُ إلى تأليف كتبٍ خاصّةٍ بي، فألّفتُ كتابًا مختصرًا يشتملُ على تدريباتٍ نحويّة لأبحاث النحو كافّةً، وساعدتُ أصدقائي في إنشاء أبحاثهم في الجامعة، وكتبتُ الكثير من قصص الأطفال التي طُبِعَت ونُشِرَتْ وبِيعَت في المكتبات، ثمّ طُلِبتْ مني من بلادٍ أجنبية فتُرجِمَتْ إلى الألمانية والفرنسية والإنكليزية، ونُشِرَت في معارض الكتاب الشهيرة.


أصبحتُ كاتبًا معروفًا، يقصدُ الناسُ كتبي من شتّى بقاع الأرض، رغم أنني ظننتُ في صغري أنني سأكونُ مدرّسًا للغة العربية وحسب، أعلّم قواعدها وأنهل من علومها وأشرحُ تفاصيلها لمجموعةٍ من الطلاب، ولكنّ مهنتي لم تكن كذلك، بل اتّسعتْ لتشملَ ما هو أعمّ وأبلغُ أثرًا، وأدركت فيما بعد أنَّ الإنسان حين يسعى بكل جهدِه ويطلبُ المعونة من الله تعالى يأتيه التوفيقُ والنجاح، وقد تفتحُ الحياةُ أبوابًا لم تكن في جدرانِ مخيّلته الضيّقة.


لا بدّ للإنسانِ أن يُجرّب في مجال العمل، فلا يُمكن أن يتأكّد من مُناسبةِ العملِ له تمامًا إلا من خلال العمل به والعمل بغيره، كي تحصل الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات في كل عمل من الأعمال ومردودها ومُحيطها وآثارها. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى الرّسالة الأولى من أيّ عمل يقوم به الإنسان، فالعمل الذي لا يستند على مبدأ صحيح لا يبني إلا بناءً هشًّا، يُمكن أن يتصدّع في أية فرصة، أما العمل الذي يهدفُ إلى هدفٍ سامٍ نبيلٍ يسمو بصاحبهِ إلى العلياء، فينالُ به المجد كلما تقدّمت به الأيام، وترتفع به هامَتُهُ كلما مضت السنوات.


والسّعي والهمّة والإخلاص مكوّناتٌ عجيبةٌ لأيّ خلطةٍ تكوّن سرّ النجاح، فالسعي بتوفيق الله عزّ وجلّ هو الذي يضعُ الفُرصَ أمام الإنسان ويجعلها ممكنةً، ويجعل من التجديد عنصرًا حيًّا ينهضُ بالإنسانِ كلما تقلّبت ظروفه وتغيّرتْ أحوال المجتمع حوله، والهمّةُ العاليةُ تمكّن العمل من الاستمرار وتجعلهُ مُنجَزًا على أتمّ وجه، وفي الوقت المحدد، فهي التي تمنحُ الفاعليّة للعمل ذاته، أما الإخلاص فهو بمثابةِ العمودِ الأساسيّ الذي لا يقومُ رُكنٌ في العمل إلا به، فإذا كان الإيمانُ بلا إخلاص يُعدّ نفاقًا فإن العمل أيضًا بلا إخلاص يُعدّ فارغًا من المعنى، ولا قيمة له.


ويمكن القول بأن التجديد والحرص على البحث عن الأفكار الإبداعية في العمل يُعطي المهنة طابعًا حديثًا ويجنّبها الاندثار، ويجعلها أكثر شهرةً وثباتًا، فالزمن متبدّلٌ باستمرار، ولا يبقى شيءٌ على حالٍ واحد إلا سبّب الملل والسآمةَ للناس، وأكثر ما يصحُّ التمثيل به في هذا الميدان هو اللباس الذي يرتديه الناس، فمصمّمو الأزياء في عملٍ دؤوبٍ دائمًا لإصدار كل ما هو غريبٌ في كل عام حرصًا على إرضاء الذوق العام، وهذا ما يجعل عملهم ناجحًا.   

كيف تجتهد لتصل إلى حلمك؟

على إحدى جُدرانِ الجامعة حينَ كنتُ خارجًا من محاضرةٍ طويلة كان أحدهم قد كتبَ بخطٍّ كبير: "ادرُسْ بذكاء". فكّرتُ مليًّا بمعنى أن يدرس الإنسان بذكاء، وكيف يمكن أن يتجنّب الدراسة غير المُجدية والتي لا تؤدّي نفعًا في النهاية، فكثير من الناس يطلبُ منا أن ندرس ونجتهد، ولكنّ بعض الاجتهاد لا يؤدّي إلى أي نتيجة، أو قد يؤدّي إلى نتيجة لا فائدة منها.


منذ ذلك الحين وأنا أعلّق على جدار غرفتي أوراقًا صغيرة، أرسمُ عليها طُرُقًا مُختلفة لخطّة ما، وأعنونها بأرقامٍ متعددة، بحيث تكونُ الثالثةُ بديلةً عن الثانية إذا فشلتْ، والثانية بديلةً عن الأولى إذا فشلتْ، وهكذا. فإذا وصلتُ إلى حلمي سعدتُ بتحقيقِ الإنجاز، وإن فشلتُ أو وصلتُ إلى طريقٍ مسدودٍ في ذلك المجال غيّرتُ الفكرةَ، واستبدلتُها، وفكّرتُ بما هو أفضلُ منها.


كلّ إنسانٍ في هذا الزمن يعلمُ قيمة الوقت، فلا يوجدُ ناجح في الحياة إلا استغلّ الوقتَ في تحصيل العلم أو التفكير أو الممارسة، فالوقت رديفُ الاجتهاد في تحقيق المُراد، وفي سِيَر العلماء القدماء والصالحين مئاتُ القصص التي تحكي أهميّة استغلال الوقت  الذي هو نواةُ النجاح، حتى قال بعضُ الصالحين: "الإنسانُ وليدُ أوقاته"، أي أنَّ شخصيّته في النهاية لن تكونَ إلا نتيجةً لمعظمِ أوقاتهِ، إن كان يُمضيها بالخير أثمرت خيرًا وإن كانت في الفراغ لم تثمر إلا شخصيّة فارغةً من كل علم ومنفعة.


كما أنَّ للمثابرةِ أثرًا بالغًا في تعويدِ النفسِ على الصبرِ لنيلِ ما تريد، وفي هذا المعنى قال الشاعر يحثّ على التحلي بالصبر الطويل على المصاعب:

لا تحسبنَّ المجدَ تمرًا أنت آكِلُه

لن تبلغَ المجدَ حتّى تلعقَ الصبرَ[١]

فمن لم يتذوق طعمَ مرارةِ الصبر ويجرّبه، فلن يتمكن من تذوّق طعم المجد طوال حياته، والمثابرةُ تُعانقُ الصبر في معناه الأساسيّ لأنها قائمةٌ على الاستمرار في مواجهةِ السأمِ والملل الذي قد يتعرّض له كل من ينوي الإقدام على أمرٍ عظيم، ويريد أن يحقق ذاته من خلاله.


ومن ذلك كلّه يتبيّن أنّ الهدف الأساسيّ لوجود الإنسانِ على هذه الأرض هو إعمار الأرض بكل ما يستطيعه من طاقة، وتسخير هذه الطاقة لإفادته وإفادةِ غيره

وإفادة المجتمع، وحين يلتزم كل فردٍ بهذا المبدأ تنهضُ الأمة بأسرها، وتزدهر البلادُ بكافّة مستوياتها العلمية والاقتصادية والفنيّة، وينتشرُ الإبداعُ في كل مكان، فالعقل البشريّ لا يمكنُ تصوّر آفاقِه.  مرجع غير مباشر [٢]

المراجع

  1. أبو تمام، ديوان الحماسة حماسة أبي تمام برواية الجواليقي، صفحة 306.
  2. فاتح عبد السلام، الفكر مهنة، صفحة 164. بتصرّف.
5985 مشاهدة
للأعلى للسفل
×