كيف أثرت أمي في حياتي؟
عادة ما يبدأ الأدباء بتنميق كلامهم للحديث عمَّا تجول فيه خواطرهم والإبداع فيه، ولكن قد يعجز الأديب عن ذلك عند محاولته صبّ روحه في كلماته على ورق أبيض بهيم، قد لا يكون المرء في كثيرٍ من الأحيان مُدركًا للعطايا التي يكتنزها وما أوجع أن يدرك تلك العطايا عند فقدها!، ومَنْ يستطيع أن يُعيد الإنسان إلى عالمه سوى تلك المرأة التي احتوت طفلها في عالمها، ذلك العالم الذي نسجته من مشاعرها ففاض حنانًا وشعَّ أملًا.
أقف الآن كشخصٍ ناهز الثلاثين وشاءت ظروف الحياة أن تبعد تلك اليد عن كتفه، تُرى كيفَ أثّرت أمي في حياتي، كيف تركت تلك المرأة العظيمة بصمتها فيَّ لتجعلني قائدًا للحياة وليس تابعًا لها؟، أذكر في ذلك اليوم حين قدمتُ من مدرستي وقد اغرورقت الدّموع في عينيَّ لأنّي أضعت قلمي وعلى غير ما توقّعت فإنَّها لم توبّخني بل قالت لي كلمات ما زالت ترنّ في سمعي حتى هذه اللحظة: بُنيّ إنّ كلَّ حَدثٍِ في هذه الحياة له سببٌ خفيّ، تذكّرْ هذه الكلمات جيدًا، إنَّ صغر سني في ذلك الوقت لم يُمكنّي من فهم ما حاكته من الكلمات، لكنَّ الزمن كان كفيلًا أن يفهمني كل شيء.
اليوم وأنا أعيش وحيدًا في هذه البقعة الباردة من الأرض أرنو على نفسي علَّني أدفئ بعضي وعلَّ هذه الحياة تهديني شيئًا من عبق أمي، تلك المرأة التي بنت شخصيتي وعلَّمتني الصدق والأمانة وأنَّ الكلمة الطيبة تُسعد النفس والروح، لا أزال أذكر تلك الابتسامة التي تعتلي شفتيها، كيف لا وهي التي رسخّت فينا أنَّ هموم الحياة لا تُواجَه إلاّ بالابتسامة، نعم هي ابتسامة يتقطّر منها العذاب وتشتعل منها الرّوح، لكنَّها كانت لأمّي نورًا تستضيء به في عتمة ظلام الأيام.
بُنيَّ ازرع الخير وانسَ موضعه، كانت تلك الحكمة التي تشرّبتها منذ نعومة أظفاري وكأنّني أُرضعتها مع اللبن وما أزال يا أمي أعمل بتلك النصيحة الثمينة، ما أزال يا أمي أزرع الخير ولا ألتفت إرضاءً لروحك التي لا ترافقني، كم أحببتُ عندما كنت صغيرًا أن أنتصر لنفسي من الآخرين، وأن أردَّ الصاع صاعين مع كلّ مَن أساء إليَّ أو حمَّلني ما لا أطيق، لكنَّك كنت تمنعيني وكنت أتذّمر لذلك كثيرًا، لم أكن أفهم تلك المرامي البعيدة التي كانت تُبصرها أمّي.
الآن وبعد أن كبُرت واشتدّ عظمي وعودي وبتّ قادرًا على أخْذ حقّي من أيّ مُغتصب أبتعد وأنسحب دون أن آخذه، بل وأفعل ذلك بملئ إرادتي؛ لأنك علَّمتني يا أمي أنّني بذلك الفعل أكسب نفسي وغيري، كثيرةٌ هي المفاهيم التي غرستِها فيَّ يا أمي، ولكنّني الآن سعيد جدًّا، فأنا الآن الثمرة التي زرعتِها وشبَّت بِطِيبٍ وهي تسمع كلماتك في كل لحظة، نعم هذه هي أمي تلك المدرسة التي دربتني للحياة، وما أزال تلميذًا بين يديها شئتُ ذلك أم أبيت.
وصف الأب الحنون
الأب هي الكلمة التي ينطقها الخائف فيأمن من غياهب الدنيا بأكملها، لم يكن يشغل سامي في ذلك اليوم سوى التطلُّع إلى سحاب السماء وهو يتشكّل بصورٍ مختلفة تُوازي سرعة الباص الذي يركبه، سامي لم يكن يعرف معنى الأبوة إذ لم يعشها وفاقد الشيء لا يُعطيه، أو ربّما قد يعجز عن وصفه طفلٌ في الرابعة عشر من عمره، سنُّه يفرض عليه أن يودعَ الطفولة ويستقبل الشباب، ولكن ما العمل إن لم يكن مستعدًا لذلك بعد؟، مع أنَّ الحياة قد سحبت منه مرحلة الطفولة منذ زمن.
نظر سامي إلى تلك الغيمة ولكنَّه رأى فيها شيئا مختلفًا عن الجميع، فقد تشكّلت على صورة أبٍ قادمٍ من عمله يحمل الحلوى لطفلته التي لم تبلغ بعد سنّها الرابعة، فباغتها الأب بحملها على رقبته والرّكض فيها في أرجاء البيت، إنّ وصف ملامح الوجه لذلك الأب صعب البلوغ فهي خليط ما بين رجلٍ رأى بئر ماء بعد أن تاه في صحرائه ثلاثين يومًا حتى إذا شارفَ على الانتهاء وجدَ مُنقذه، استرسل سامي في خياله ليصل إلى تلك اللّحظة التي طالما تمنَّاها ولكنَّه لم يعشها فقد شاء له القدر دوام التمني.
يُمسك الأب بملعقة الطعام في وجبة الغداء ويُحاول أن يُدخلها في فم ابنته، ولكنَّها تأبى إلّا أن تكون تلك المُدلّلة فتؤرجح فمها يمنةً ويسرةً ليزداد في ملاحقتها وتشعر بحبّه لها، الأب الحنون ليست كلمةً تُقال فتُسمع ويأنس بها الجميع، الأب الحنون هو نعمة لا تُضاهيها أيّ نعمة، أنْعَمَ النّظر سامي إلى ذلك الأب ليرى الحياة تتشكّل في أبهى حللها من بين ثنايا وجهه فهو رجلُ قد شارف على الأربعين.
لكنَّ ذلك لم يزده إلا وقارًا وجمالًا، وهو يُهدهد ابنته في نومها ويُغنّي لها طفلتي الصغيرة اسمها منى إنّي أحبها.. بنيّتي منى.. ويُراقصها على تلك الأنغام وهي تُمسك بثنايا قميصه وتلعب في أناملها الصغيرة بشعر لحيته الذي ما طال إلا لكي تلعب فيه، وتلك الصغيرة التي تأبى إلّا أن تثبت أنّها مُدلّلة أبيها في كل وقت وحين، ويأبى إلّا أن يثبت لها ذلك، الرجل الكامل في عيني أولاده دائمًا، تلك هي الجملة التي تصف الأب الحنون بدقّة وتُصوّره لمن لم يشعر بتلك النعمة في حياته.
نزل سامي من الباص واختفت تلك الغيمة التي أمعن فيها طويلًا واختفت مع ذلك أحلامه في رؤية حنان ذلك الأب عيانًا، ربّما فقد سامي أن يكون له ذلك الأب، لكن علَّ القدر أن يُساعده في أن يكون ذلك الأب نفسه في يومٍ من الأيام، وينعم بما لم يحصل عليه في صغره.
وصف شخصية صديقتي
بدأت المدرسة ودخلت معلمة اللغة العربيّة على طلابها وكان المقرر في تلك الحصة أن تُعطي لهم مادة التعبير، فأتّمت ذلك وأعطت الأطفال واجبًا في وصف شخص لطيف، استعدت منى للرجوع إلى بيتها وبدأت بالتفكير طيلة الطريق عن كيفيّة وصف شخص جميل، دخلت إلى البيت وأمسكت أدواتها وبدأت بالتفكير، نعم لقد تبادر إلى ذهنها تلك الصديقة التي التقت بها في المدرسة السنة الماضية.
حملت منى قلمها واستعدّت لخوض معركة الوصف وتشكّلت شخصيّة سارة أمام عينيها، تلك الفتاة التي جعلت الصعب المُستحيل سهلًا، خفيفة الظل، لطيفة المعشر، طيّبة النفس وخفيفة الروح، تلك الفتاة التي امتازت بأدبها حتى كانت جميع مُعلمات الصف يحُببنها ويودنّ الحديث معها، سارة لم تكن حياتها خالية من المشكلات بل كانت تقف على تلك العثرات لجعلها صخورًا تقفز عليها إلى أحلامها.
قد حدث في أحد المرات أن أخذتْ سارة علامةً كاملةً في الرياضيّات دونًا عن بنات الصف كلهنّ، ممّا جعل بعض الفتيات يشتعلنَ غيظًا منها ويُحاولنَ أن يسمعنَ كلامًا يجرحها، فسارة لم تكن ميسورة الحال مثلهنَّ على العكس من ذلك فهي بالكاد تشتري الحاجيات الضروريّة للمدرسة، لكنَّ ما حصل معها لم يزدها إلّا ابتسامًا وقالت لي يومها: منى أنا لا أنظر إلى الأمور من خارجها ولا أحكم على جمال الغد من أسى اليوم، أنا أؤمن أنَّ القادم دائمًا هو الأفضل.
لقد أحسنت المعلمة حين أعطتنا موضوعًا عن وصف أخلاق شخص ما؛ لأنَّها بذلك الموضوع أعادت لي الذاكرة، تلك الفتاة التي أثرت فيَّ أيَّما تأثير، تلك الفتاة التي ما كان الحزن ليجد دربًا إلى روحها، لم تكن تتأمّل بالأمور الماديّة كثيرًا بل كانت تقف على شرفة منزلهم وتسعد في رؤية النجوم سعادة أيّ فتاة بشراء فستان باذخ الثمن، ربّما لم تكن الحياة مُحالفة لها، لكنَّ ذلك ما كان ليعنيها وهي التي عاشت في سموّ الروح.
حين قرّرت المدرسة أن تُخرجنا في رحلة ذلك اليوم أعدَّت للرحلة لوحةً بيضاء وألوانًا زيتيةً، فاستغربت لذلك وقلت لها: سارة ألن تأخذي معك كرةً لنلعب بها أو مضربًا أو حتى حبلًا لنقفز عليها، استدارت إليَّ وقالت: منى أنا أحبّ التأمُّل والآن هي فرصتي لأنْ أتامّل هذا العالم وأُحاول أن أخطّه على ورقتي، نعم لقد آن الوقت لأنْ أكتب كلمات صادقة لشخصٍ ما أو لشخصٍ معروف بالنسبة إليّ مجهولٍ لغيري، سارة إنَّك استطعت أن تفهمي الحياة أكثر مني أنا التي لم أعتد على ما كان من صلب شخصيتك.
سأقرأ الموضوع على صديقاتي ومُعلّمتي في الغد، ربّما تكون كتابتي كلمات عابرة بالنّسبة لهم، لكنَّها بالنسبة لي هي الحياة بعينها، هي مواقف أثّرت بروحي فجعلت مني نهرًا مُتدفقًا بالمشاعر الطوّاقة إليك، نعم إنّها تلك الفتاة التي عبرت روحي واستقرّت فيها، وها أنا ذا أُحاول أن أعصر ذاكرتي لأحصل على تلك العابرة شيئًا فشيئًا.