تفسير آية (ولمن خاف مقام ربه جنتان)

كتابة:
تفسير آية (ولمن خاف مقام ربه جنتان)

تفسير آية (ولمن خاف مقام ربه جنتان)

بعد أن ذكر الله -تعالى- حال المجرمين يوم القيامة في قوله: (هَـذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ* يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ)،[١] يبين الله -تعالى- حال المؤمنين الذين اتقوا ربهم وخافوه وعظموا أمره، فيقول: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)،[٢] فإن المؤمنين الذين اتقوا ربهم وخافوه في الدنيا سيجازيهم الله -تعالى- يوم القيامة بجنات كريمة جزاءً بما عملوا في هذه الدنيا الفانية.[٣]

والمقصود بقوله -تعالى-: (جَنَّتَانِ)؛ جناتٌ كريمةٌ بالجمع، وهذا واردٌ في اللغة العربية، حيث يستعمل الله تعالى أسلوب التثنية على سبيل الجمع والتكثير وللتماشي مع السياق السجعي للآيات الكريمة، وذلك مثل قول الله -تعالى-: (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ)،[٤] حيث استعمل القرآن كلمة كرتين بالتثنية والمقصود بها التكثير لا التحديد.[٣]

ويحتمل أن تكون (جَنَّتَانِ) بالتثنية تدل على جنتين اثنتين، جنة عن يمين وجنة عن شمال، ويكون قصر المؤمن وسطاً بينهما، وفي جميع الأحوال فالمعنيان محتملان ولهما وجهٌ صحيح، ولكن المهم أنه في جميع الأحوال سيكون كرم الله على عبده المؤمن المتقي كرماً مغدقاً عظيماً.[٣]

الخوف في قوله (ولمن خاف مقام ربه جنتان)

الخوف المقصود به في الآية الكريمة هو الخوف من مقام الله -تعالى-، وتحتمل كلمة مقام معنيين اثنين؛ فهي إما تعني مقام الله -تعالى- بذاته فيخاف المؤمن من عقاب الله -تعالى- وغضبه وشدة بأسه مما يتعاظم في نفسه من شعور داخلي، وإما أن تكون بمعنى مقام المؤمن بين يدي الله -تعالى- يوم القيامة عندما تنصب الموازين، وتصطف الملائكة الكرام ويُجاء بالجنة والنار.[٥]

فيذهل كل الناس، وتصيبهم حالة من الخشوع والرهبة التي لم يعرفوا مثلها من قبل، يقول الله -تعالى: (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا* وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا* وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى)،[٦] وكلا المعنيين لكلمة مقام محتمل وله وجهه،[٣] ويبقى هذا الخوف محمودًا ما لم يصل المؤمن به إلى حالة اليأس والقنوط من رحمة الله -تعالى-.[٥]

وحينها ينقلب الخوف من خوف محمود إلى خوف مذموم، إذ يجب أن يكون قلب المؤمن وسطاً بين الخوف والرجاء، فلا يغلب أحد منهما الآخر، والخوف المحمود هو الخوف الذي يدفع صاحبه إلى الإكثار من الأعمال الصالحة اتقاء الله -تعالى- والابتعاد عن المعاصي والمنكرات خوفاً من عقاب الله -تعالى-.[٥]

سبب نزول آية (ولمن خاف مقام ربه جنتان)

تعددت الأقوال في سبب نزول هذه الآية الكريمة، فقيل إنها نزلت عامة لجميع من خاف الله -تعالى- كما رجحه ابن كثير -رحمه الله- عن ابن عباس -رضي الله عنه-، وقيل في بعض الروايات إنها نزلت في الصحابي الجليل أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- عندما شرب لبناً، فلما علم أنه من مصدر حرام استقاءه خوفاً من الله، أو لأنه تذكر في يومٍ من الأيام حال يوم القيامة، فبكى وتمنى أنه لو لم يكن.[٧]

وقيل كذلك إنها نزلت في الرجل الذي أوصى بنيه بأن يحرقوه بعد موته ويرموا برفاته في شتى بقاع الأرض، وذلك خوفاً من أن يجمعه الله فيعاقبه، فغفر الله -تعالى- له بسبب خوفه من الله -تعالى- وأدخله الجنة بسبب خوفه، وكل هذه الروايات لم تثبت بطريق صحيح، فتبقى الآية على عمومها كما بيّنا بداية الأمر.[٧]

المراجع

  1. سورة الرحمن، آية:43-44
  2. سورة الرحمن، آية:46
  3. ^ أ ب ت ث الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، صفحة 265. بتصرّف.
  4. سورة الملك، آية:4
  5. ^ أ ب ت محمد بن عبد الله باجسير، القواعد في توحيد العبادة، صفحة 786. بتصرّف.
  6. سورة الفجر، آية:21-23
  7. ^ أ ب شمس الدين القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، صفحة 177. بتصرّف.
22503 مشاهدة
للأعلى للسفل
×