محتويات
شرح حديث إنّما الأعمال بالنيات
قال النبيّ محمد -عليه الصلاةُ والسلام-: (سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: إنَّما الأعْمَالُ بالنِّيَّةِ، وإنَّما لِامْرِئٍ ما نَوَى، فمَن كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسولِهِ، ومَن كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيَا يُصِيبُهَا أوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلى ما هَاجَرَ إلَيْهِ)،[١] وسبب ورود الحديث: أنّه كان هُناك رجُل بمكة خطب امرأة تُسمّى أُمّ قيس، وكان ذلك قبل هجرة النبيّ محمد -عليه الصلاةُ والسلام- إلى المدينة، وعزمت أُمُّ قيس على الهجرة، ولمّا تقدم الرجل لخطبتها رفضت أن تتزوجه حتى يُهاجر معها، فهاجر معها لكي يتزوجها وليس لوجه الله -تعالى-، فسُمّيَ بِمُهاجر أُم قيس،[٢] وفيما يأتي بيانٌ وشرح للحديث:[٣][٤]
- إنّما الأعمال بالنيات: فكُلُ عملٍ يكون بالجوارح أو القلب يُسمّى عملاً، ولكن ما يتبادر إلى الذهن أنه ما يتعلّق بالجوارح، وذهب بعضُ المُتأخرين إلى أنّه خاصٌ بما لا يكون قولاً، وتعدّدت آراء الفُقهاء في تقديرهم للفعل المحذوف، فمن قال باشتراط النية قدروها بقولهم: إنّ صحة الأعمال تكون بالنيات، ومن لم يشترطها قدّرها بقوله: إنّ كمال الأعمال يكون بالنّيات، وجاء عن بعض مُتأخّري الحنفيّة؛ وهو شمس الدين السُرُوجي أن التقدير يكون: إنّ ثواب الأعمال يكون بالنيات.[٥]
- وإن قيل إن ال التعريف في كلمة الأعمال تُفيد العهديّة؛ فإنّها تكون مقصورةً على الأعمال التي يُتعبد بها لله -تعالى-، فتكون بمعنى صحّة الأعمال بالنيات،[٦] وقيل: إنّها خاصّة بالعبادات، وقيل: إنّها للعُموم؛ أي في كُلّ عمل، فإن كانت عبادة فيؤجر عليها، وإن كانت من العادات فيؤجرُ عليها إن قصد بها التقرُّب والتقوّي على الطاعات، كالنّوم والأكل والشُرب وغير ذلك، والنية في اللُّغة فهي بمعنى القصد، وتكون النيّة للتمييز بين العبادات؛ كالتّفريق بين فرضٍ وفرض، أو فرضٍ ونفل، وتأتي للتّمييز بين العبادات والعادات؛ كالتفريق بين الغُسل للجنابة أو الغُسل بقصد النظافة،[٧]وجاء اللّفظ بكلمة الأعمال ولم يقل الأفعال؛ لأنَّه لو قال: إنَّما الأفعال بالنيات لتناول أفعال القلوب، ومنها النيَّة، ومعرفة الله -تعالى-، فكان يلزم أن لا يصحَّا إلَّا بالنية، لكنّ النيَّة فيهما محال.[٨]
- وإنما لكل امرئٍ ما نوى: وهو أنّ من نوى فعل شيءٍ حصل له أجره، وكُلّ ما لم ينوه الإنسان فلا يحصلُ له أجره، ويدخُل تحت هذه العبارة الكثير من المسائل وما لا يُمكنُ حصرُه، وهذا يدُلّ على عِظم هذا الحديث، حتى قيل: إنّه يدخُل تحته ثُلثي العلم، كما أنّها تعني أنّ ثواب العمل يكون حسب صلاح نيّة صاحبه، وعقابه بحسب فساد نيّة صاحبه، ويكون أجر صاحبه على قدر ما تعدّدت النوايا عنده في العمل الواحد، كمن يذهب إلى المسجد للصلاة وينوي أيضاً زيارة مريضٍ في طريقه.
- فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ: ولفظ الهجرة في اللّغة يكون بمعنى الترك، وهي تحتمل الكثير من المعاني، كالهجرة إلى الحبشة، وإلى المدينة، أو الهجرة عن المعاصي، وغير ذلك، ولكن سبب ورود الهجرة في الحديث المقصود منها؛ الهجرة من مكة إلى المدينة، والمعنى أنّ من كانت هجرته لأجل الله -تعالى- ورسوله بالنية والقصد، فهجرته لله -تعالى- ورسوله بالحُكم والشرع، والهجرة في الاصطلاح: هي الانتقال من بلاد الكُفر إلى بلاد الإسلام، وهي واجبةٌ، واستثنى الله -تعالى- من ذلك العديد من الأصناف بقوله: (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً).[٩]
- ومَن كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيَا يُصِيبُهَا أوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلى ما هَاجَرَ إلَيْهِ: وكرّر النبيّ محمد -عليه الصلاةُ والسلام- ذلك؛ تحقيراً لشأن الهدف والمقصود من الهِجرة، وهو في سياق الذم.
مكانة حديث إنما الأعمال بالنيات
عظم العُلماء من شأن حديث إنما الأعمالُ بالنيات؛ لأنّ النية سببٌ لصلاح العمل وفساده، وقد جعل الإمامُ البُخاريّ هذا الحديث أول حديثٍ في صحيحه، وقال عنه الشافعيّ: يدخُل تحته سبعين باباً من أبواب العلم، وقيل: إنّه رُبع العلم، حيثُ إنّ العلم والدين يقوم على أربعة أحاديث، وحديث النية واحدٌ منها،[١٠] وجاء عن ابن حجر قوله أنّ الأئمة اتفقوا على تعظيم هذا الحديث، وجاء عن ابن تيمية أنّه أصلٌ من أُصول الدين، وهو أصلٌ لِكُل عمل، وقيل: إن مدار الإسلام وأُصوله على ثلاثة أحاديث، وحديث النية واحدٌ منها، حيثُ إنّه يشمل جميع الأعمال الباطنة، وجاء عن أبي سعيد عبد الرحمن بن مهديّ أنّه لو ألف كُتباً لجعل في بدايتها هذا الحديث، وأوصى بمن يؤلّف كتاباً أن يجعل هذا الحديث في بدايته.[١١]
أهمية النية في الأعمال
إنّ للنيّة في الأعمال الكثير من الأهمية، ومنها ما يأتي:
- النية الصالحة من الأعمال الخاصة بالقلب، وهي سببٌ من أسباب السعادة في الدُنيا والآخرة، حيثُ يُكتب للمُسلم ما نوى حتى وإن لم يقدر على عمله، وقد ورد عن عُثمان بن عفان -رضي الله عنه- أنه لم يشهد معركة بدر، فقال له النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- إن له من الأجر كمن حضر؛ وذلك لأنه نوى الخُروج ولم يستطع لمرض زوجته ابنة الرسول.[١٢]
- النية الصالحة الخالصةُ لله -تعالى- أعظم الصفات الحميدة، ويؤجر المُسلم عليها كثيراً من الأجور حتى لو كان العمل قليل.[١٣]
- النية يدور حولها الكثير من المسائل الفقهيّة، وهي من القواعد الفقهيّة الكُبرى المُسمّاة: "الأمور بِمقاصدها"، فالقصد هو النية، وفالقول أو العمل وترتّبُ آثاره عليه يكون بحسب نية عامله، فالعبادة لا تجزئ إلا إذا اقترنت بالنية، والعادات يؤجر عليها المُسلم إذا قرنها بالنية الحسنة.[١٤]
المراجع
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عمر بن الخطاب، الصفحة أو الرقم: 6689، صحيح.
- ↑ شمس الدين محمد السفيري (2004)، المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية صلى الله عليه وسلم من صحيح الإمام البخاري (الطبعة الأولى)، بيروت: دار الكتب العلمية، صفحة 109، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ عبد الكريم بن عبد الله الخضير، شرح الأربعين النووية، صفحة 15-22، جزء 2. بتصرّف.
- ↑ ابن دقيق العيد، إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام، القاهرة: مطبعة السنة المحمدية، صفحة 61-62، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ زين الدين عبد الرحيم العراقي، طرح التثريب في شرح التقريب، مصر: الطبعة المصرية القديمة، صفحة 7، جزء 2. بتصرّف.
- ↑ عبد الكريم بن عبد الله الخضير، شرح الأربعين النووية، صفحة 15، جزء 2.
- ↑ عبد المحسن بن حمد البدر، شرح الأربعين النووية، صفحة 6-8، جزء 2. بتصرّف.
- ↑ سليمان بن عبد القوي الطوفي (1998)، التعيين في شرح الأربعين (الطبعة الأولى)، بيروت: مؤسسة الريان، صفحة 43-44، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ سورة النساء، آية: 98.
- ↑ عبد الكريم بن عبد الله الخضير، شرح المحرر في الحديث، صفحة 4، جزء 60. بتصرّف.
- ↑ عماد السيد الشربينى (2002)، كتابات أعداء الإسلام ومناقشتها (الطبعة الأولى)، مصر: دار الكتب المصرية، صفحة 893-895. بتصرّف.
- ↑ سعيد بن علي القحطاني (1421 هـ )، فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري (الطبعة الأولى)، السعودية: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، صفحة 905-906، جزء 2. بتصرّف.
- ↑ سعيد بن علي القحطاني (1421 هـ )، فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري (الطبعة الأولى)، السعودية: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، صفحة 218، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ عبد الرحمن بن صالح العبد اللطيف (2003)، القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير (الطبعة الأولى)، المدينة المنورة: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، صفحة 195-198، جزء 1. بتصرّف.