محتويات
خصائص المذهب الرومنطيقي
للمذهب الرومنطيقي عدّة خصائص ظهرت في شعر البارزين من شعرائهم، ويمكن أن تتلخص فيما يأتي:[١]
الثورة على الشعر القديم في شكله ومضمونه
ما هو الشعار الذي تبنّتْهُ الرومنطيقية في رفض الموروث القديم؟
إنّ التجديد هو حجر الأساس الذي بنتْ عليه الرومنطيقية أفكارها ومبادئها في رفض الموروث القديم من الشعر، فدعتْ إلى التخلص من الوزن الذي حدّده الخليل بضوابط صارمة، وإلى عدم التقيد بالقافية أو حرف الرويّ الذي لم تعرف القصيدة شكلًا آخر لهُ، وإلى التخلص من المحسنات البديعية التي كانت تزخر بها القصيدة العربية، فهي من وجهة نظر الرومنطيقية تكبّل الشاعر عن قول ما يريد وتُحيلُهُ إلى ما يريدهُ النص من الزخرفة والتزيين، مما يُخرج النص عن غرضه الأساسي وهو التعبير عن الإنسان وما يعتلج بداخله من مشاعر.[١]
يختلف مضمون القصيدة في المذهب الرومنطيقي أيضًا، إذ إنّ المدح الذي زخرت به القصائد القديمة على سبيل المثال لم يعد من أولويات الشعر برأي هذه المدرسة، بل إنّ الأهمية الأولى تتجلى بالتعبير عن ذات الإنسان داخل الشاعر وما ينعكس عليها من موجودات أهم مظاهر الرومنطيقية في الأدب العربي الحديث[٢]، ويمكن في هذا الموضع الاستشهاد بالكثير من المقاطع من أشعارهم ليتبيّن فيه اختلاف الشكل والمضمون عن القصائد العربية القديمة، فعلى سبيل المثال يقول جبران خليل جبران:[٣]
- هَبَّ زهرُ الرَّبيعْ
- في نظامٍ بديعْ
- تحتَ أقدامِها
- وَعوَا لي الغُصونْ
- نكَّسَتْ للعُيونْ
- نُضْرَ أعلامِها
- وبدا في حُلى
- وجهِها ما جَلا
- نورُ إلهامِها
- إنَّ هذي عَروسْ
- تتَمنَّى النُّفوسْ
- سَعدَ أيَّامِها
- لمْ يُوَفِّ البَيانْ
- في مَقامِ القِرانْ
- حَقَّ إِكرامِها
- فانتَقى للثَّناءْ
- منْ فُنونِ الغِناءْ
- خَيرَ أنغامِها
- نَجمُها في صُعودْ
- فَلْتَدُمْ والسُّعودْ
- رَهنُ أحكامِها
يُمكن القول إنّ الشاعر في المدرسة الرومنطيقية لم يخرج عن كونه شاعرًا بالمعنى الحقيقي، فلم يهدم جميع ما جاء به الشعر القديم، وإنما احتفظ بما يمكنه الاحتفاظ به متناسبًا مع مبادئهِ في التحرر والتطوير، فبدا الشاعر الرومنطيقي مُتأرجحًا بين التقليدية والتجديد، كما جمع بين السرد والشعر بطريقة حداثية.[٤]
التأكيد على الفردية والذاتية
كيف غاصت الرومنطيقية في تحقيق ذات الشاعر؟
يُعِدُّ الرومانسيون القصيدةَ الشعرية مساحةً مناسبةً للتعبير عن ذواتهم وما يعتريها من مشاعر تفيضُ فتؤرّقهم كالحزن والألم، أو الفرح والسرور، أو الخوف والتأمل، فالرومنطيقية تُعبّر عن كل فرد من الأفراد على وجه الخصوص، ولا تعتمد على المحاباة أو شعر المناسبة، إذ يرى أصحاب هذه المدرسة أن الشعر هو الوسيلة الأجدر بالتعبير عن النفس البشرية، والسلطان الأول الحاكم لتعبيرات الشاعر هو صوت وجدانه الداخلي، ويمكن أن يندرج تحت هذا المحور الشعر الغزلي الذي نظمه الرومنطيقيون في صدد التعبير عن ذواتهم وما يعتريها من مشاعر الحبّ والتّوق[١]، ومن هؤلاء الشعراء الشاعر إبراهيم ناجي الذي يقول:[٥]
وكأَنَّ ضِحكَتَها وقَد طَرِبَتْ
- قَطَراتُ ماءٍ فوقَ بِلَّورِ
عوَّذتُها مِن شرِّ أمسيةٍ
- تَعيا بها وتضِلُّ أبصارُ
وكواكبٌ ليستْ بمُجديةٍ
- ظُلَمٌ مُكدَّسةٌ وأحجارُ
عَثَرتْ بها فرفعتُها بِيَدي
- جِسمًا يَكادُ يشِفُّ في الظُّلَمِ
ويَرفُّ مثلَ الزَّهرِ وَهْوَ نَديْ
- ويَخِفُّ مثلَ عَرائِسِ الحُلُمِ
وكأنَّني ممَّا يَسوءُ خَلِيّْ
- وحياتيَ انجابَتْ حوالِكُها
أرمي الطَّريقَ بناظِرَي رَجُلٍ
- وأنا لها طِفلٌ أُضاحِكُها
مَلَّكْتُها الدُّنيا بِما وَسِعَتْ
- وأنا أُهامِسُها بأَسراري
الاعتماد على الحرية في التعبير
هل يكون الشعر جيّدًا حين يكون مرآةً لعاطفة الشاعر؟
اعتمدت الرومنطيقية على الحرية في التعبير بالدرجة الأولى، وقد كان النواة لهذا الأساس هو رفض الشعر القديم المتوارث وأساليبه التي غدتْ مُستهلَكة، إذ إنّها برأي الرومنطيقية لا تفي بالغرض الكافي للشعر ولا تعطي الأهمية لما يجب أن يعبر الشعر عنه، وبالمقابل يجب أن يكون الشعر المرآة البريئة وغير المتكلّفة لذات الشاعر كي يعبّر عن صاحبه أفضل تعبير، والشعر الجيد هو الذي لا يخضع إلى القيود التي تكبّل بها القديم من الوزن والسجع والتصريع والجناس وغيرها من الوجوه البلاغية والعروضية، بل يحلّق بصاحبه في الميادين الوجدانية والشعورية التي دفعتْهُ إلى كتابة النص، وهذا ما يجعله أكثر تأثيرًا بالقارئ، وهذا أيضًا ما جعل الرومنطيقية تتّسم بالإبداعية ثورةً على الكلاسيكية الاتّباعية.[١]
اشتهرت الرومنسية بتمجيد الألم بين سائر المشاعر الإنسانية، وعدّتهُ الملهم الأسمى لما يمكن للشاعر أن يخطّهُ على الورق، ويتأمل بواسطته الكون والإنسان، فأخذَ عليها الإغراق في السوداوية[٦]، وقد اعتمدت الرومنطيقية أيضًا على الخيال والإلهام كمصدر من مصار الشعر، ولا شك أن الخيال يعبر بالشاعر عوالم لا يمكن أن يعبر عنها إلا إذا امتلك الحرية التعبيرية، فعوالم العاطفة التي ينسجها الخيال ويجعلها في قالب شعري لا يمكن أن تتأطّر بأطر تقليدية أو تتقلص بضوابط في الشكل أو المضمون.[٧]
من الأمثلة الحيّة على التعبير الحرّ عمّا في ذات الشاعر وصف إبراهيم ناجي لشعورهِ في القصيدة آنفة الذكر بالكثير من الرقة والشفافية والبعد عن التكلف والتعقيد في الصور والمعاني، وذلك في قوله:[٨]
وَجذَبْتُها بِذِراعِها نَمشي
- نَمشي وما نَدري لَنَا غَرَضا
إِلفانِ قَد فَرَّا مِنَ العُشِّ
- يَتبادلانِ سَعادةً ورِضا
يا لَحظَةً ما كانَ أسعَدَها
- وَهناءَةً ما كانَ أعظمَها!.
الوحدة العضوية للقصيدة
ما الفرق بين وحدة البيت ووحدة النص؟
كان الشعر قبل ظهور الحركة الرومنطيقية يعتمد على وحدة البيت، وهي تعني أن يكون لكل بيت معنى متكامل بذاته، يصحّ أن يكونَ تامًّا إذا أُفرِدَ وحدهُ فيؤدي معنىً لا يحتاجُ إلى تتمة القصيدة حتى يتمّ بيانه، ولكن بعد ظهور المدرسة الرومنطيقية ظهر مصطلح "الوحدة العضوية"، والتي قصد بها الرومنسيون وحدة النص بأكمله، إذ يؤدي في مجملهِ معنى من المعاني، فأصبحت القصيدة تحتوي على فكرة واحدة تتدفق عبر العديد من الأبيات أو عبر القصيدة ككلّ، وبذلك تصبح القصيدة عملًا فنيّا مترابطًا.[١]
يشرح عباس محمود العقاد الوحدة العضوية للقصيدة بقوله: "إنّ القصيدة ينبغي أن تكون عملًا فنيًّا تامًّا، يكملُ فيها تصويرُ خاطرٍ أو خواطرَ متجانسة، كما يكملُ التمثال بأعضائهِ، والصورة بأجزائها، واللحن الموسيقيّ بأنغامه، بحيث إذا اختلف الوضعُ أو تغيرت النسبة أخلَّ ذلك بوحدة الصنعةِ وأفسدها، ومتى لم تتحقق هذه الوحدة في الشعر يصبح مجرد ألفاظٍ مجتمعة، لا تعبر عن شعور كاملٍ بالحياة"[١]، ومن الأمثلة على الوحدة العضوية في النص الشعري قول الشاعر أحمد زكي أبو شادي:[٩]
وَقَفنا لَدى الشَّلَّالِ وَقفَةَ عابِدٍ
- فَفيهِ لنا نُورٌ وفيهِ ضِرامُ
تُغازِلُهُ الشَّمسُ الحَيِيَّةُ مِثلَما
- تُغازِلُهُ الأَشجارُ حينَ تَنَامُ
وهَذي نُجومٌ أَطلَعتْ دونَ ليلِها
- وأَلوانُها فوقَ الغُصونِ مُدامُ
ومن حَولِها الأَدغالُ لكنْ تهذَّبَتْ
- فَلا رِيبَةٌ للناظِرينَ تُشامُ
الوضوح والبساطة في الأسلوب التعبيري
ما أثر التحرر على اللغة الشعرية؟
رفع الرومنطيقيون لواء الحرية في مجالها الأدبي على وجه الخصوص، فجاءت أفكارهم في مجال الفكر وعلى النطاق الفردي للإنسان داعيةً إلى الانطلاق من رغبة الإنسان وعاطفته، فأتاح لهم أدبهم فرصة التغيير الشعري، وفرصة التقدم إلى الأمام مستعينينَ بتحررهم من قيود التراث الإغريقي والروماني وما كان يفرضه من قواعد في الأدب، ومن الطبيعي أن ينعكس ذاك التحرر على اللغة الشعرية وعلى الموضوعات النمطية، فلغتهم الشعرية كانت قريبة من اللغة المتداولة في الاستعمال اليومي، بعيدة عن كل ما يحتاج الرجوع إلى قواميس اللغة للبحث عن معناه ودلالاته، وموضوعاتهم من أكثر المواضيع انغماسًا في المجتمع، فاقتربت بذلك المدرسة الرومنطيقية من الجمهور، وحازت على قبول الكثيرين من القرّاء.[١]
لا يوجد في تصنيف الرومنطيقيين لغة شعرية وأخرى غير شعرية، إذ إنّ اللغة هي وسيلة للتعبير، ويجب أن يكون الشعر واضحًا ومعبّرًا دون اللجوء إلى التراكيب المعقدة والمفردات النادرة أو القديمة، وفي ذلك يقول وردزورث الذي رسم حدود المدرسة الرومنسية في الأدب: "إن الغرض الأساسي المقصود من هذه القصائد هو اختيار الأحداث ولمواقف من الحياة العامة، وروايتها ووصفها من خلال اختبار اللغة التي اعتاد الناس في الواقع استخدامها"[١]، وخير دليلٍ على هذا المحور قول الشاعر خليل مطران مُستخدمًا الألفاظ المتداولة والتراكيب البسيطة في معاني لطيفة:[١٠]
يَا حَبِيبًا مَا لِي سِوَاهُ حَبِيبُ
- وَبِهِ كَانَ مِنْ صِبَايَ هِيَامِي
أَنْتَ لَوْ لَمْ تَكُنْ أَلِيفَ شَبَابِي
- لَمْ تُطِبْ لِي نَضَارَةُ الأَيَّامِ
لَسْتُ أُخْفِي عَلَيْكَ سِرّاً أَلِيمَا
- هُوَ شَكْوَى دَفِينَةٌ فِي عِظَامِي
كُلُّ شَيْءٍ تَهْوَاهُ أَهْوَاهُ إِلاَّ
- أَنْ أَرَى لِي شَرِيكَةً فِي غَرَامِي
وَبِوَدِّي لَوْ كُنْتَ لِي لِيَ وَحْدِي
- أَنِّي أَقْصَرْتُ عَنْكَ مَلامِي
يؤمن الفنان الرومنطيقي أيضًا بأن الحقيقة والجمال لا يتلخص بالعين فقط بل بالعقل في الدرجة الأولى، فيرى المتأمّل مزيجًا من ألوان الحكمة في شعر المدرسة الرومانسية دون أن يحظى ذلك الشعر بمعنى الحكمة الحقيقي، وكأنه يأتي عفو الخاطر، وذلك في شعر الكثير من أصحاب المدرسة الرومنسية، كما أنّ شعراءها لم يكتفوا بالنظر إلى الحياة اليومية لتكون مصدر إلهامهم، بل جعلوا من العوالم البعيدة في خيالهم ومن أسرار الشرق وسحره مصدر استلهام للعديد مما كتبوه وضمّنوه في شعرهم[٧]، كما يمكن الإشارة إلى الكثير من شعر جبران خليل جبران الذي تجسد فيه الوضوح والبساطة والمعنى العميق، بالإضافة إلى مرور الحكمة في آن واحد، وذلك في مثل قوله:[١١]
أعطِني النَّايَ وغَنِّ
- فالغِنا سِرُّ الوُجودْ
وأَنينُ النَّايِ يَبقى
- بَعدَ أنْ يَفنى الوُجودْ
المراجع
- ^ أ ب ت ث ج ح خ د الدكتور هاني إسماعيل رمضان، نظرية الحداثة الشعرية بين صلاح عبد الصبور و ت س إليوت، صفحة 66. بتصرّف.
- ↑ فؤاد الفرفوري ، أهم مظاهر الرومنطيقية في الأدب العربي الحديث، صفحة 100 - 101 . بتصرّف.
- ↑ "الديوان » لبنان » جبران خليل جبران » هب زهر الربيع"، الديوان ، اطّلع عليه بتاريخ 05/04/2021م. بتصرّف.
- ↑ فتحي النصري، شعرية الأليغوريا مدخل إلى دراسة الصور السردية في الشعر الحديث، صفحة 114 - 115 . بتصرّف.
- ↑ "الديوان » مصر » إبراهيم ناجي » قالت تعال فقلت لبيك"، الديوان ، اطّلع عليه بتاريخ 05/04/2021م. بتصرّف.
- ↑ دانتي أليغري ، الكوميديا الإلهية، صفحة 52. بتصرّف.
- ^ أ ب أحمد العزي صغير، الخطاب الإبداعي المعاصر: رؤى واتجاهات، صفحة 134. بتصرّف.
- ↑ "الديوان » مصر » إبراهيم ناجي » قالت تعال فقلت لبيك"، الديوان ، اطّلع عليه بتاريخ 05/04/2021م. بتصرّف.
- ↑ "الديوان » مصر » أحمد زكي أبو شادي » وقفنا لدى الشلال وقفة عابد"، الديوان ، اطّلع عليه بتاريخ 05/04/2021م. بتصرّف.
- ↑ "الديوان » لبنان » خليل مطران » يا حبيباً ما لي سواه حبيب"، الديوان ، اطّلع عليه بتاريخ 05/04/2021م. بتصرّف.
- ↑ إسكندر نجار ، قاموس جبران خليل جبران، صفحة 25. بتصرّف.