مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي تفرّد بالعزة، والجبروت، والبقاء، وأذل أصناف الخلق بما كتب عليهم من الفناء، وأحمده -سبحانه- جعل الموت خلاصاً للأتقياء، وسوء منقلب للأشقياء، الذين إذا ذُكر الموت فإذا قلوبهم نافرة، وأشكره -تعالى- وأثني عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له، له الحمد في الأولى والآخرة، وأشهد أنّ محمدًا عبد الله ورسوله، وصلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلّم تسليمًا كثيرًا.
الوصية بتقوى الله
أيُّها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله في السرّ والعلن، اتقوه فإن سبب التقوى ما يكون بقلب العبد من تعظيم الله محبةً، وخوفًا، ورجاءً، فكلّما عَظّم العبد ربه دعاه ذلك إلى تقواه، وامتثال أمره واجتناب نهيه، وكلّما أيقن العبد بكمال علم الله واطّلاعه عليه، وأنّ الله يعلم سره ونجواه لا يخفى عليه من أمره شيئا، زاد خوفه من الله، فاتقوا الله امتثالاً لقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).[١][٢]
الخطبة الأولى
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الخلق والمرسلين سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
عباد الله، إننا نسير في هذه الدنيا، مُنشغلين بما تتطلبه هذه الحياة، فاليوم نحن نحتاج إلى وقفة روحانية؛ لنجدِّد فيها الإيمان في قلوبنا، ونُذهب بها ما تراكم من ذنوب، ولنزيل غبار الغفلة عن أنفسنا، فتعالوا بنا اليوم نجلس مع أنفسنا جلسة تزكية ومصارحة، نُقّلب فيها بعض الصفحات، ونستلهم شيئاً من العظات، لعلّ الله -تعالى- يغفر لنا ويرزقنا دخول الجنّات التي وعد بها عباده المتقين.[٣]
نتحدث اليوم عن حقيقة من حقائق الإيمان، فمن أنكر هذه الحقيقة فقد كفر، وهذه الحقيقة التي أوصانا الحبيب عليه صلوات من الله ورحمة أن نتذكرها ونُكثر من ذِكرها، ومع ذلك فإن كثيرًا من النّاس يشمئزّون من سماع حديث عنها، ولا يحبون ذكرها، وهي حقيقة الموت، يقول الله -تعالى-: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)،[٤] فكل حيّ نهايته إلى الفناء، وكُلّ جديد نهايته البلاء، وما هي كغمضة عين، أو كلمح البصر فإذا بالروح تفيض إلى بارئها، وإذا به في عداد الأموات.[٣]
أيُّها الإخوة، ونحن نعيش في غفلة في هذه الحياة، كثيرًا ما نتفاجأ بخبر موت شخص كان بالأمس بيننا، وكم من اتصال أو رسالة كانت تحمل خبر وفاة فلان، وهو في شبابه وعافيته، وهذا ليس بغريب فقد قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (مِنَ اقترابِ الساعةِ أنْ يُرَى الهلالُ قَبَلًا فيُقالُ: لِلَيْلَتَيْنِ وأنْ تُتَّخَذَ المساجدُ طرُقًا وأنْ يَظهَرَ موتُ الفَجأةِ)،[٥] فعجبًا لحالنا، كيف نتجرأ على خالقنا وأرواحنا بيده، وكيف نغفل عن رقابة الله -تعالى- والموت بأمره.[٣]
وما أبلغ الشاعر حين قال:[٣]
هُوَ المــــَوْتُ مَا مِنْهُ مَلَاذٌ وَمَهْرَبُ *** مَتَى حَطَّ ذا عن نَعْشِهِ ذاك يركَبُ
نؤمِّلُ آمالاً و نرجُو نِتَاجَها *** وعلَّ الرَّدَى عَمَّا نُرَجِّيهِ أقْرَبُ
إلى الله نشكو قسوةً في قُلُوبِنَا *** وفِي كُلِّ يومٍ واعِظُ الموتِ ينْدبُ
عباد الله، كانت وصية رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- الإكثار من ذكر الموت، وسمّاه هادم اللَّذَّات، حيث روى أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: (أكْثِرُوا من ذِكْرِ هادمِ اللَّذَّاتِ أحسبُه قال فإنَّهُ ما ذكرَه أحَدٌ في ضيقٍ من العَيشِ إلَّا وَسَّعَه، ولا في سَعةٍ إلَّا ضيَّقَه علَيهِ)،[٦] فما أبلغ وعظه وما أحسن لفظه، فقد اختصر حقيقة الموت وأوجزها.[٣]
ولتعلموا أنّ تذكر الموت لا يعني العيش بقلقٍ وكدرٍ كبير؛ بل على الإنسان أن يتذكر حسن الخاتمة عند تذكره للموت، ويحرص على العمل الصالح فإنما الأعمال بالخواتيم، فرسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: (فَوَالَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حتَّى ما يَكونُ بيْنَهُ وبيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عليه الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا، وإنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حتَّى ما يَكونُ بيْنَهُ وبيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عليه الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا).[٧][٣]
ومن صور خوف السلف الصالح من الموت والحرص على استعدادهم لمثل هذا اليوم ما جاء في الأثر لما حضرت محمدَ بن المنكدر الوفاة؛ فبكى، فقيل له: "ما يُبكيك؟ قال: والله ما أبكي لذنب أعلم أني أتيته، ولكن أخاف أني أتيت شيئًا حسبته هينًا وهو عند الله عظيم". وها هو سعيد بن جبير يروي لنا قصة صحيحة متواترة، وهي أنّه لما مات ابن عباس -رضي الله عنه- بالطائف، جاء طائر لم يُرَ على خِلقته مثله، فدخل نعشه، ثم لم يخرج منه، فلما دفن إذا على حافة القبر سُمِعَ تالٍ يتلو لا يُرى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبَادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي)،[٨] فأي خاتمة وأي مصير قد ناله.[٣]
ومع الأسف اليوم نرى مع ما يحدث مع كثيرٍ من الشباب من موت الفجأة، فيلقون الله على وهم في غفلة من أمرهم، فهذا يموت في حادث سير والأغاني تصدح من سيارته، لم يكن أحدهم يتوقع أن اليوم هو نهاية حياته، فعليكم بتقوى الله وطاعته، والعمل ليوم نلقى به الله -تعالى- وهو راضٍ عنا.[٣] أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتَّقين، ولا عدوان إلَّا على الظَّالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أيُّها النَّاس، إنّ الموت ليس نهاية المرء، فبعد الموت يبدأ الحساب في ظلمة القبر، وما يتبعه من مشاهد، فإذا هممت بفعل ذنب فتذكر الموت، وتذكر أن من مات يتمنى لو عاش لحظة ثانية لِيُطِع الله -تعالى- ولا يعصيه، وكلّما تذكرت الموت اجتهد بالطاعة، وسارع بالعبادة، وافعل الخير، فما هذه الدنيا إلا طريق إلى دار القرار، فمن كان يعصي الله فليبادر إلى التوبة؛ فإن التوبة تَجُبُّ ما قبلها.[٩]
يا عبدالله، يجب أن تدرك هذه الحقيقة، وتلزم تقوى الله، وتبادر إلى التوبة قبل أن يأتيك الموت بغتة، فتقول: يا ليتني قدمت لحياتي، واعلم أن كثيرًا من الأموات يودّون لو يعيشون الدقيقة التي تمر من حياتك ليستثمروها في طاعة الله، وعبادته والتوبة إليه، فلا تُضيِّع دقائق عمرك؛ لئلا تتحسر في آخرتك، أسأل الله -تعالى- أن يحسن ختامنا ويبعد عنا موت الفجأة إنّه ولي ذلك والقادر عليه، وصلّى الله وسلّم وبارك على رسول الله.[٩]
الدعاء
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة:[١٠]
- اللَّهُمَّ نبهنا لذكرك في أوقات الغفلة، واستعملنا بطاعتك في أيام المهلة، ومهد لنا في محبتك سبيلًا سهلًا، اللَّهُمَّ يا إلهي لولا ما جهلت من أمري ما شكوت عثراتي، ولولا ما ذكرت من الإفراط ما سحّت عبراتي، إلهي فامح مثبتات العثرات بمرسلات العبرات،
- اللَّهُمَّ هون علينا سكرات الموت، وذكرنا الشهادة،وأنطق ألسنتنا بقول لا إله إلا الله إذا يبس اللسان، وضعف الجنان، ويبست القدمان، وشلت اليدان وشخصت العينان، وقربت الأكفان.
- اللَّهُمَّ اجعلنا ممن يُبشَّر عند الموت بروحٍ وريحان وربٍ راض غير غضبان، اللَّهُمَّ بدل خوفنا أمنا وارفع منازلنا في جنة عالية قطوفها دانية.
- اللَّهُمَّ آنس وحشتنا في القبور إذا علانا التراب، وتقطعت بنا الأسباب، وحضر الحساب، وانصرف عنا الأحباب، وأتانا الملكان للسؤال والجواب.
- اللَّهُمَّ ثبتنا بالقول الثابت ولقّنّا الجواب، وصلّى الله وسلّم وبارك على رسول الله.
المراجع
- ↑ سورة الحشر ، آية:18
- ↑ عبد العزيز آل الشيخ، جامع خطب عرفة لعبد العزيز آل الشيخ، صفحة 101. بتصرّف.
- ^ أ ب ت ث ج ح خ د "خطبة عن الموت"، الخطباء. بتصرّف.
- ↑ سورة آل عمران، آية:85
- ↑ رواه الألباني، في صحيح الجامع، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم:5899، حديث حسن.
- ↑ رواه الألباني، في صحيح الترغيب، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم: 3334، حديث حسن لغيره.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عبد الله بن مسعود، الصفحة أو الرقم: 2643، حديث صحيح.
- ↑ سورة الفجر، آية:27 28 29 30
- ^ أ ب " موعظة الموت"، صيد الفوائد، اطّلع عليه بتاريخ 26/6/2021. بتصرّف.
- ↑ محمد علي محمد إمام، أحلي الكلام في مناجاة ذى الجلال والإكرام، صفحة 97. بتصرّف.