مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي لا شريك له، ولا ندّ ولا قبيل، الذي خلق الخلق، وهداهم سواء السبيل، وأنزل القرآن والتوراة والإنجيل، وأمرهم باتباع الآيات البينات، والحكم بالتنزيل، وشرع من العلوم ما فيه هدايات العقول.[١]
وأشهد أن لا إله إلا الله الفرد الواحد الأحد العزيز الوكيل، أحاط بكل شيء علمًا، ولا يحيطون بشيء من علمه، فما له شريك ولا مثيل، وأشهد أنّ محمدًا صاحب الحوض، ذو الشفاعات يوم لا ينفع شفيع ولا كفيل، ما ينطق عن الهوى، ولا تقوّل بعض الأقاويل، صلى عليك الله يا ابن آمنة، ما سجعت حمائم الأيك بالهديل، وما صدحت حناجر المؤمنين بالتهليل.[١]
الوصية بتقوى الله
معاشر المسلمين، أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، وأحذرّكم وإياها عن مخالفة أمره، وانتهاك محارمه، فاتقوا الله واعملوا بالتنزيل، فإنّ النفوس موشكة على الرحيل، وفي دار المقامة لا تغير ولا تحويل، ولا تنتفع نفس إلا بما وجدت ولو كان مثقال فتيل.
واتقوه كما أمر، وانتهوا عما نهى عنه وزجر، ولا تملؤوا الصحائف إلا بما يثقل الميزان، فإنّ من خفت موازينه أمّه هاوية، وما أدراك ما هيه، ذات لظى وشرر، إنّها نار الله الحامية، فاتقوا الله القائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).[٢]
الخطبة الأولى
عباد الله، أيها المؤمنون، اعلموا -يا رحمكم الله- أنّ الله ما بعث رسولًا،إلا وأمر قومه بالتوبة، وأرشدهم إلى الرجوع إلى الله -تعالى- وحذّرهم من تبعات المعاصي والتمادي بالآثام، فنصحوا لله ولرسالته، ونصحوا للناس أجمعين، وبينوا وأرشدوا.[٣]
ولكن نهج الناس لا يختلف على مرّ السنين؛ وهو أنّ العصاة دائما أكثر من الطائعين، قال الله -تعالى-: (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)،[٤] وهذه مهمة المصلحين من بعد الأنبياء، وهي دعوة الناس إلى التوبة، وحثّهم عليها، قال الله -تعالى-: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ).[٥][٣]
أيها العاصي، أيها المذنب، أوَ ما علمت أنّ لك ربًا اسمه التّواب، أوَ ما علمت أنّ التوبة مفتّحة الأبواب، وهل دريت أنّ الله يفرح بالتائبين، وأنّه ينادي على المستغفرين، ينادي على العصاة وينسبهم إليه، ويقول لهم: (يَا عِبَادِيَ)،[٦] ما أعظمه من رب ينادي ويقول للعصاة يا عبادي!
في أي شِعب ضللت، وفي أي وادٍ، هل سمعك وقلبك من جماد، أو ما سمعت ذاك التنادي، أيها العاصي، لبِّ نداء الله قبل أن تُغلّ الأيادي، ولا صريخ ولا غوث يومئذ ولا تهادي، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ).[٧][٨]
واعلم يا عبد الله أنّ الصلاح والتوبة قرينان، وأنّهما متلازمان، فمن أكثر من المعصية أفسد فيها، ومن تاب إلى الله -تعالى- فقد أحسن العمل، وقد قرن الله -تعالى- بين التوبة والمعصية، فقال الله -تعالى-: (فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّـهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).[٩]
والفساد مقرون بالمعصية ومقترن بها، فكل عاص مفسد، والشرك فساد، والمعصية فساد، والإثم فساد، والإصلاح هو أن تتوب عن ذلك كله، وتُلقي بمعاصيك وراء ظهرك، وتُقبل على الله -تعالى- طائعًا مخبتًا منيبًا، قابلًا للحق، وسالكًا سبيله، ومتبعًا منهجه، وراضيًا به.[١٠]
تقدّمه على غيره من الهوى والضلال، فلا تعتدي على حرمات الله بانتهاكها، ولا تعتدي على حدود الله، ولا تضيع أوامره، ولا تقتحم ما حرم الله من حقوق العباد؛ فإن الفساد فيها الهلاك.[١٠]
ومن شرح للتوبة صدرًا، يسّر الله -تعالى- له السبل، وهيأ له الطرق، وأعانه، ودلّه على طريق الخير، وبيّن له طريق الشرّ، وقذف في قلبه من النّور والإيمان والطمأنينة ما لا عدد له، وإنّ الله -تعالى- أعون على توبة العبد من العبد لنفسه، وفي قول الله -تعالى-: (فَإِنَّ اللَّـهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)،[٩] معانٍ كثيرة، ومنها:[١١]
- إن الله -تعالى- يعين التائب والراجع إليه على التوبة إذا أخلص النية، وأراد ذلك بإخلاص وإرادة جازمة لا رجوع فيها ولا تردّد.
- إن الله بعد أن يعين العبد على التوبة؛ فإن تاب العبد، والتزم أمر الله -تعالى-، فإن الله يرضى عنه، ويقبل منه التوبة، ويغفرها له، ويمحو عنه الإثم، ولا يعاقبه عليه يوم القيامة.
وقد قرن الله التوبة بالصلاح والإصلاح، "وذكر سبحانه أنّ التوبة الخالصة لا بد أن تقترن بالإصلاح؛ لأنّ الإذعان القلبي لا يكون كاملًا وناميًا إلا إذا اقترن به العمل الصالح، لأنّه يزكيه ويسقيه".[١١]
معاشر المسلمين، من دلائل اقتران التوبة بالصلاح وبالإصلاح أنّ الرجل الذي قتل تسعًا وتسعين نفسًا، لما تاب إلى الله -تعالى- فعن أي شيء تاب؟ تاب عن القتل الذي هو الفساد العريض، والشر الوخيم، فقد أمره العالِم أن يخالط الصالحين، وأن يستبدل القتل بمخالطة الصالحين، وهذا من الإصلاح، وإنّ في توبة هذا الرجل قد حقنت الدماء، وسلمت الأنفس، وحفظت الأرواح، بعد أن كان هذا الرجل يزهق الروح بسبب وبدون سبب.[١٢]
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا، ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ، فَأَتَى رَاهِبًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ، فَجَعَلَ يَسْأَلُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا، فَأَدْرَكَهُ المَوْتُ، فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ العَذَابِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي، وَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا، فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ، فَغُفِرَ لَهُ).[١٣][١٢]
معاشر المسلمين، إن الله -تعالى- جعل باب التوبة مفتوحًا، وإنّ للتوبة إلى الله -تعالى- شروطًا، فينبغي العمل بالشروط كي يقبل الله التوبة، وهذه الشروط هي:[١٤]
- الإقلاع عن الذنب إقلاعًا صحيحًا صادقًا، لا شبهة فيه، ولا خلل، ولا عودة إلى المعصية، والتخلص من هذه المعاصي، وعدم العودة إلى اقترافها مرة أخرى.
- النّدم على ما فات من الأعمال الآثمة، ووجود الحسرة والنّدامة في القلب، وعدم التفاخر بهذه المعصية أو الحنين إليها.
- إن كانت المعصية مرتبطة بحق من حقوق العباد؛ كسرقة المال، أو رشوة، أو ربا، أو أكل لمال ضعيف، أو غير ذلك، فلا بدّ من إعادة هذا الحقّ إلى صاحبه، أو الاستسماح منه، وطلب العفو من صاحب هذا المال.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الحي القيوم، ربّ السموات وخالق البريات، وأشهد أن محمدًا رسول الله، قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حق جهاده.
يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث القدسي: (يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً).[١٥]
يا عبد الله، هذا الحديث يعرفك على الله، ويعلمك من هو ربك، تجَيئ إليه بالذنوب والآثام حتى تملأ ما بين السماء والأرض، فلا يلقاك إلا بالمغفرة والعفو والإحسان، ما يريد منك إلا توبةً نصوحًا، حتى لا يبقي لك شيئًا من السيئات ولا يذر، فالباب ما زال مفتوحًا، وسيبقى مفتوحًا ما بقي الخلق.[١٦]
ولن يوصد باب الله في وجه أحد، مهما بلغت ذنوبه، وساءت سيرته، وقبحت سريرته، فإنّ الباب سيظل مفتوحًا، على الرغم من كثرة الطارقين، وكثرة الداخلين، فإن الباب لن يغلق، وإن الله -تعالى- لا يغلقه إلى يوم القيامة.[١٦]
فيا حبذا العبد التائب المنيب! ويا حبذا من رجع إلى ربه واستغفره وأكثر من استغفاره! فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا).[١٧]
الدعاء
- اللهم اغفر لنا ذنوبنا وتب علينا، وتقبل من محسننا وتجاوز عن مسيئنا، وأقل عثراتنا وزلاتنا يا رب العالمين.
- اللهم اغفر للأحياء والأموات، وارفعنا عالي الدرجات، يا من إذا أراد شيئا قال له كن فيكون.
- اللهم اغفر لميتنا وحينا، وحاضرنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، ومحسننا ومسيئنا يا رب العالمين.
- اللهم تجاوز عن المسيئين، وزد في حسنات المحسنين، وتقبل توبة التائبين.
- اللهم أبدل فسادنا صلاحًا، وإثمنا فلاحًا، وإخفاقنا نجاحًا.
- اللهم طهر قلوبنا بالإيمان، وزكّها بالإحسان، ونورها بالقرآن.
- اللهم اغفر لنا ما علمنا وما جهلنا، وما أعلنا وما أسررنا، وما أنت أعلم به منا.
- اللهم انصر المجاهدين في بلاد المسلمين أجمعين.
- اللهم سدّد رميهم، ويسّر أمرهم، واغفر ذنبهم، وأقل عثرتهم، واجعل النصر حليفهم يا رب العالمين.
عباد الله، إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكّرون، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ* وَالْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).[١٨]
المراجع
- ^ أ ب ابن عثيمين (1408)، الضياء اللامع من الخطب الجوامع (الطبعة 1)، صفحة 653، جزء 8. بتصرّف.
- ↑ سورة آل عمران، آية:102
- ^ أ ب عبدالله بن صالح القصيِّر (19/10/2016)، "خطبة عن التوبة والإصلاح "، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 16/10/2021. بتصرّف.
- ↑ سورة سبأ، آية:13
- ↑ سورة هود، آية:3
- ↑ سورة الزمر، آية:53
- ↑ رواه مسلم، في صحيح، عن أبي ذر، الصفحة أو الرقم:2577 ، صحيح.
- ↑ ابن رجب (1424)، جامع العلوم والحكم (الطبعة 2)، صفحة 1162، جزء 3. بتصرّف.
- ^ أ ب سورة المائدة، آية:39
- ^ أ ب مجموعة من المؤلفين، نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (الطبعة 4)، جدة:دار الوسيلة للنشر والتوزيع، صفحة 5236، جزء 11. بتصرّف.
- ^ أ ب محمد أبو زهرة، زهرة التفاسير، صفحة 2178، جزء 4. بتصرّف.
- ^ أ ب محمد نصر الدين محمد عويضة، فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب، صفحة 279، جزء 4. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في الصحيح، عن أبي سعيد، الصفحة أو الرقم:3470 ، صحيح.
- ↑ عبد القادر الجيلاني (1417)، الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل (الطبعة 1)، بيروت - لبنان:دار الكتب العلمية، صفحة 237، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ رواه الترمذي، في السنن، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم:3540، حسن.
- ^ أ ب ابن القيم (1416)، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (الطبعة 3)، بيروت: دار الكتاب العربي، صفحة 211، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ رواه ابن ماجه، في السنن، عن عبدالله بن بسر، الصفحة أو الرقم:3818 ، صحيح.
- ↑ سورة الصافات، آية:180-182