مقدمة الخطبة
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المُهتدِ، ومن يضلل فلن تجد له وليَّاً مرشداً، الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علَّمَ الإنسان مالم يعلم، وأشهد أنَّ لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلِّ شيءٍ قدير، أمرنا بطلب العلم عندما أنزل القرآن على أكرم الخلق وبدأ بكلمة اقرأ في قوله -سبحانه-: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ).[١]
وأشهد أنَّ محمداً عبد الله ورسوله، وأكرم خلق الله -سبحانه وتعالى- قاطبةً سيِّد الأوَّلين والآخرين امتثل أمر ربِّه فكان خير معلِّمٍ، عَلَّم من الجهالة وهَدى الله به من الضَلالة أمر أمَّته بالعلم فقال: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)،[٢] فصلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدِّين، ما تعاقب الَّليل والنَّهار، وصلوات الله وسلامه عليه ما ذكره الذَّاكرون الأبرار.
الوصية بتقوى الله
أمَّا بعد، أُوصيكم ونفسي بتقوى الله -عزَّ وجل- فالتَّقوى هي وصيَّة الله للأولين والآخرين من خلقه، فقد قال في كتابه العزيز: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّـهَ)،[٣] وهي وصيَّة نبيِّنا خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- لأمَّته إذ قال: (إن الدنيا حلوة خضره وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء).[٤][٥]
الخطبة الأولى
عباد الله، إن العلم من الأمور الهامة والتي حث الإسلام عليها، ولابد من أن تكون نيتنا في التعلم والجد والدراسة تحصيل العلم ونيل بركته وثماره، كما علينا أن نتعلَّم العلم لنعمل به لا لنجادل ونماري به؛ فإنَّ من طلب العلم ليماري به السُّفهاء أو يجاري به العلماء فقد عرَّض نفسه لعقوبة الله -سبحانه وتعالى- ونزل بها إلى الهدف الأسفل، وصار بذلك حجة عليه لا حجة له.[٦]
يا معشر الأبناء، إنَّ هذا أَوَانُ الجدِّ والاجتهاد في الدِّراسة، فاجتهدوا وارفقوا بأنفسكم، ابذلوا ما في وسعكم ولا تحمِّلوا النُّفوس ما لا تطيق من السَّهَر والتَّعب؛ فإنَّ الله لا يكلِّف نفسا إلَّا وسعها، وإياكم والغشُّ والاعتماد عليه والتَّخطيط له؛ فحبله قصيرٌ وعاقبته وخيمةٌ، تراحموا وتعاضدوا، وإيَّاكم والحسد، ولْيُحبَّ كلُّ واحدٍ منكم لأخيه ما يحبُّه لنفسه، فإن احتاج إليك أخوك في مذاكرته قبل الامتحان في حاجةٍ أو مسألةٍ فأعنه، وإنَّ الله -سبحانه وتعالى- في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.[٧]
إخوتي في الله، ألا وإنَّ أفضل أسباب النَّجاح في الدراسة وأجمعها وأصلحها أنَّ نعلم علم اليقين أنَّه لا حول ولا قوَّة للعبد إلَّا بالله ربِّ العالمين، فعلى الطلاب بذل الجهد ثمَّ التوكُّلَ على الله وتفويضَ الأمور كلِّها له -سبحانه-، مع الأخذ بالأسباب، ولا نغتر بالذَّكاء والحفظ، بل نفوِّض قبل ذلك أمورنا لله، ونلتجئ إليه؛ فالذَّكاء وحده ليس سبباً للنَّجاح والتفوُّق، بل إرادةُ الله -سبحانه وتعالى- وتوفيقُه أوَّلاً، وقد أوصى النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ابنتَه فاطمة أن تقول: (يَا حَيّ يَا قَيُّوم، بِرَحْمَتِك أَسْتَغِيث، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلّه، وَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَة عَيْن).[٨]
أيها الأخوة، يجب أن نعرف الله -سبحانه وتعالى- في الرَّخاء ليعرفنا في الشِّدَّة، يقول عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-: (تعرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ يعرِفْك في الشِّدَّةِ)،[٩] فالحرص كلَّ الحرص أخي المسلم على عبادة الله -سبحانه وتعالى- في كلِّ الأوقات، والدُّعاء في الرَّخاء قبل الشدَّة، إخوتي في الله، ألم تعلموا أنَّ الاشتغال بالعلم من أجل العبادات، وهو أفضل الطَّاعات والقربات، وموجبٌ لرضى ربِّ الأرض والسَّماوات، ومجلسُ علمٍ تجلسه خيرٌ لك من الدُّنيا وما فيها، وفائدةٌ تستفيدها وتنتفع بها لا شيء يَزِنُها ويساويها، فلنتقِّ الله عباد الله، ولنشتغل بما خُلقنا له من معرفةِ الله وعبادته، ولنسأل ربَّنا أن يمدَّنا بتوفيقه ولطفه وإعانته، قال -تعالى-: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ)،[١٠] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.[١١]
وقال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به من بعده أو ولد صالح يدعو له)،[١٢] اطلبوا العلم يكن لكم لسان صدقٍ في الآخرين، فإنَّ آثار العلم تبقى بعد فناء أهله، والعلماء الرَّبانيون لم تزل آثارهم محمودةً، وطريقتهم مأثورةً وسعيهم مشكوراً وذكرهم مرفوعاً، وإن ذُكروا في المجالس امتلأت المجالس بالثَّناء عليهم والدُّعاء لهم، وإن ذُكرت الأعمال الصَّالحة والآداب العالية كانوا قدوةَ النَّاس فيها، قال -تعالى-: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا).[١٣][١٤]
معشر المسلمين، إن الله -سبحانه وتعالى- قد أباح لنا أكل الصَّيد الذي صاده الكلب المعلَّم، وإذا صاده كلبٌ غيرُ معلَّمٍ لا يؤكل، قال-تعالى-: (يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ)،[١٥] فلولا فضل العلم لكان فضل صيد الكلب المعلَّم والجاهل سواءً، وقد علَّمه كيف يصيد، وكيف يمسك لصاحبه، فما بالك بمن تعلَّم الكتاب والسنَّة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)،[١٦] فإذا رأيت نفسك تتجه إلى الفقه، وتتجه إلى العلم، وتتجه إلى فهم الكتاب والسنَّة، فاعلم أنَّك ممَّن أراد الله -سبحانه وتعالى- بهم خيراً.[١٧]
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيراً طيِّباً مباركاً فيه، والصَّلاة والسَّلام على خير مبعوثٍ للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أنَّ لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وبعد، إخوتي الأفاضل، العلم وما أداركم ما العلم، وما أدراكم ما هي فضائله وثماره؛ إن صاحب العلم لا يفتقر، وطالبه لا يخيب، ومن يحفظ العلم يكون عزيزاً عند النَّاس، ولا تنحط َمرتبته أبداً.
إنَّ طلب العلم لا غنىً عنه لأيِّ شابٍ يريد عبادة ربِّه -تبارك وتعالى- على بصيرةٍ، والاستقامة على دينه، فضلاً عمن يريد الدَّعوة إلى دينه، ولقد كان شباب الصَّحابة -رضي الله عنهم- يدركون أهميَّة العلم وفضلَه، ولذا حفظت لنا سيرهم المواقف العديدة من حرصهم على العلم وعنايتهم به.[١٨]
إخوتي في الله، إنَّ على كلَّ أبٍ وأمٍّ وكلُّ من استرعاه الله رعيَّةً من أبناءِ المسلمين مسؤوليَّة كبيرة وأمانة عظمى في أعناقهم تكمن في توجيه وحثِّ من تحت أيديهم على طلب العلم الشَّرعيِّ وغرس ذلك في نفوسهم وتحبيب ذلك إليهم، وفي هذا إصلاحٌ لهم وإنباتهم النَّبات الحسن وإرشادهم إلى طريق الخير وتحذيرهم من طرق الغواية والشَّر: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾،[١٩] وقال -صلّى الله عليه وسلّم-: (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، الرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها).[٢٠][٢١]
الدعاء
- نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يلهمنا رشدنا ويقينا شرَّ أنفسنا، وأن يعيننا على طلب العلم وييسره لنا، وأن يذلِّل الطَّريق والمصاعب حتى يرتفع فيه الكعب وتعلو الدَّرجة إنَّه على كلِّ شيءٍ قديرٍ، وبالإجابة جدير.[٢٢]
- اللهمَّ انفعنا بما علَّمتنا، وعلِّمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً.
- ربِّ اشرح لي صدري ويسِّر لي أمري واحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي.
- اللهمَّ ألهمنا علماً نعرف به أوامرك ونجتنب به نواهيك وارزقنا بلاغة فهم النَّبيين وفصاحة حفظ المرسلين وسرعة إلهام الملائكة المقرَّّبين وعلمنا أسرار حكمتك يا حيُّ يا قيوم.
- اللهمَّ اجعل ألسنتنا عامرة بذكرك وقوبنا بخشيتك وأسرارنا بطاعتك إنَّك على كلِّ شيءٍ قدير.[٢٣]
عباد الله، إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكّرون، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
المراجع
- ↑ سورة العلق، آية:1
- ↑ رواه ابن حجر العسقلاني، في لسان الميزان، عن عبدالله بن عباس، الصفحة أو الرقم:382، فيه عائذ بن أيوب لا ذنب له بل لا وجود له.
- ↑ سورة النساء، آية:131
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبو سعيد الخدري، الصفحة أو الرقم:2742، صحيح.
- ↑ "أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل"، طريق الإسلام، 25/9/2017، اطّلع عليه بتاريخ 8/7/2021. بتصرّف.
- ↑ ابن عثيمين، كتاب الضياء اللامع من الخطب الجوامع، صفحة 318. بتصرّف.
- ↑ "خطب مختارة - [44 الامتحانات "]، طريق الإسلام، 8/2/2016، اطّلع عليه بتاريخ 8/7/2021. بتصرّف.
- ↑ رواه الهيثمي، في مجمع الزوائد، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم:183، مختلف فيه.
- ↑ رواه الزرقاني، في مختصر المقاصد، عن عبد الله بن عباس، الصفحة أو الرقم:312، حسن.
- ↑ سورة الزمر، آية:9
- ↑ عبد الرحمن السعدي، كتاب الفواكه الشهية في الخطب المنبرية والخطب المنبرية على المناسبات، صفحة 179. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبو هريرة، الصفحة أو الرقم:1631، صحيح.
- ↑ سورة الأنعام، آية:122
- ↑ ابن عثيمين، كتاب الضياء اللامع من الخطب الجوامع، صفحة 118. بتصرّف.
- ↑ سورة المائدة، آية:4
- ↑ رواه العيني، في عمد القاري، عن عمر بن الخطاب، الصفحة أو الرقم:62، إسناده حسن.
- ↑ "فضل العلم والتعلم"، إسلام ويب، اطّلع عليه بتاريخ 8/7/2021.
- ↑ "شبابنا وطلب العلم"، الألوكة الشرعية، 16/7/2016، اطّلع عليه بتاريخ 8/7/2021. بتصرّف.
- ↑ سورة التحريم، آية:6
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عمر، الصفحة أو الرقم:5200، صحيح.
- ↑ "شبابنا وطلب العلم"، الألوكة الشرعية، 16/7/2016، اطّلع عليه بتاريخ 8/7/2021. بتصرّف.
- ↑ "فضل العلم والتعلم"، إسلام ويب، اطّلع عليه بتاريخ 8/7/2021.
- ↑ "17 من أجمل أدعية طلب العلم"، إدأرابيا، اطّلع عليه بتاريخ 8/7/2021.