مقدمة الخطبة
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هادي له، نحمده سبحانه وتعالى أن أباح لنا البيع وحرم علينا الربا وكل ما فيه استغلال لحاجة الإنسان وضعفه، ونحمده أن يسّر لنا سُبل الكسب المباح ونوّعها لنا، وأشهد أنَّ لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ وسلم تسليمًا.[١]
الوصية بتقوى الله
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله -سبحانه وتعالى- ولُزوم طاعته واجتناب معصيته؛ فالتزام التقوى باب لكل خير ومغلاق لكل شر، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).[٢]
الخطبة الأولى
معشر المسلمين، نتحدث اليوم معكم عن الربا وحرمته وخطورته، وآثاره السلبية على كل من الفرد والمجتمع، فلنعلم أولاً أيها الكرام أنَّ الرِّبا من الكبائر التي حذَّر الإسلامُ منها في كثيرٍ من الأحاديث والآيات، والتي أجمع المُسلمون على تحريمها، كقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ* وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)،[٣] وقد أخبر الله -تعالى- في كتابه أنَّ المُرابي يقوم من قبره يوم القيامة كالمجنون الذي يتخبطه الشَّيطان، وهذا يُناسب حالهم في الدُّنيا؛ فهم لا يتورَّعون عن المعاصي، ولا يستمعون إلى المواعظ.[١]
ومعنى الرِّبا أيها الأفاضل الزِّيادة، وقيل: هو المكان المُرتفع عن غيره من الأمكنة، وأمَّا في الشَّرع: فهو الزِّيادة التي لا يقابلها عِوَض في البيع، واشتراطهُ في البيع يعد من مُفسدات العقد والبيع، وتوعَّد الله -تعالى- آكل الرِّبا بخمسٍ من العُقوبات، ورد أول هذه العقوبات في قوله -تعالى-: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)،[٤] أي ينتفخ بطنه ولا تقدر قدماه على حمله، وإن حاول القيام قام كالمجنون الذي مسَّه الشَّيطان، وثانيها: أنَّ الله يفضحه أمام النَّاس بملئ بطنه ناراً بقدر أخذه من الرِّبا؛ كما أخبر بذلك النبيُّ -عليه الصلاةُ والسَّلام-.
وثالثُها هذه العقوبات أيها السادة أنَّ الله يُهلك ويمحق ماله ويُذهب بركته؛ فلا يقدرُ على الاستمتاع به، ورابعها: إعلان الحرب من الله -تعالى- عليهم، وخامسُها: دُخولهم النَّار يوم القيامة، ووردت بعض هذه العُقوبات في قوله -تعالى-: ( وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ* يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ).[٥][٦]
وقد بيَّن النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لنا الرِّبا ومواضعه وأصنافه لكي نتجنُّبه ونبتعد عنه، وذلك في قوله: (الذَّهَبُ بالذَّهَبِ، والْفِضَّةُ بالفِضَّةِ، والْبُرُّ بالبُرِّ، والشَّعِيرُ بالشَّعِيرِ، والتَّمْرُ بالتَّمْرِ، والْمِلْحُ بالمِلْحِ، مِثْلًا بمِثْلٍ، يَدًا بيَدٍ، فمَن زادَ، أوِ اسْتَزادَ، فقَدْ أرْبَى، الآخِذُ والْمُعْطِي فيه سَواءٌ. [وفي رواية]: الذَّهَبُ بالذَّهَبِ، مِثْلًا بمِثْلٍ، فَذَكَرَ بمِثْلِهِ)،[٧] لكي يحل بيع هذه الأصناف الواردة في الحديث بمثلها؛ كالفضة بالفضة مثلاً، يجب من توافر فيها شرطين؛ الأوَّل: التَّساوي في الوزن، والثَّاني: أن يتمَّ القبض في نفس مجلس العقد أو البيع، فمثلاً لو باع أحدُ الأشخاص لغيره فضةً بفضة وزاد عليه شيءٌ في الوزن؛ فهو ربا ويبطُل البيع، حتى وإن كانت هذه الزِّيادة بسيطةً ويسيرةً.
وأمَّا إن بيعت هذه الأصناف أو أحدها بغيرها من الأصناف، فيشترطُ فيها شرط واحِد؛ ألا وهو أن يتمَّ الاستلام في مجلس العقد، أي مكان إنشاء عملية البيع، بحيث لا يتفرق البائع والمُشتري وفي ذمَّة أحدهما شيءٌ للآخر، فلو باع أحدُهما للآخر ذهباً بفضة وتفرَّقا قبل القبض والاستلام يكون هذا ربا.[٨]
وأمَّا في الأوقات المُعاصرة أيها الكرام فقد حلَّ مكان الذَّهب والفضة ما يُسمَّى بالأوراق النقديَّة، وتأخذ الأوراق النقديَّة حُكم الذهب والفضة في الرِّبا؛ فلو أراد شخصٌ أن يصرف أحد العملات لعملة أخرى؛ فيجب أن يكون القبض والاستلام في مجلس العقد وإلَّا كان فيه رباً، وكذلك من يُداين ويشترط عند السَّداد أن يكون المبلغ أكثر من المبلغ الأول فهذا أيضاً ربا.[٨]
كما يجبُ على المُسلم أن يبتعد عن الرِّبا، وألا يسلك طريق الحيلة في الوصول إليه، فقد ذمَّ الله -تعالى- اليهود عندما حاولوا التَّحايل لإبطال ما أمرهم الله به، فقال عنهم: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً)،[٩] وبيَّن النبيُّ -عليه الصلاةُ والسلام- عظيم جريمة الرِّبا؛ إذ إنَّ كُل من له علاقةٌ بها ملعونٌ؛ كالموكل والشاهد والكاتب، وبيَّن أنَّهم جميعهم في الإثم سواء، وأنَّ آكل الرِّبا يوم القيامة يكون عقابه بوجوده في نهرٍ من الدَّم كُلَّما أراد الخُروج رماه رجُلٌ بالحجارة وأعادة إليه.[١٠]
أيها الأفاضل، لقد حذر الإسلام من الربا ورتَّب على فاعله أشدَّ العُقوبات في الدُّنيا والآخرة، بل عدّهُ النبيُّ -عليه الصلاةُ والسلام- من الكبائر، وينال من أقدم عليه لعنة الله -تعالى-، وهو سببٌ لنُزول العذاب، وقد قسَّم العُلماء الرِّبا إلى عدَّة أقسامٍ، الأوَّل: ربا الفضل؛ ويكون بالزِّيادة عند التَّبادل بمالٍ من أحد الأصناف الربويَّة التي تمَّ ذكرها سابقاً بمالٍ من نفس جنسه.[١٠]
والنوع الثَّاني من الربا: ربا النسيئة؛ وهو أن يتمَّ تأخير القبض في بيع كُلِّ جنسين اتَّفقا في نفس العلَّة من أنواع ربا الفضل، وكان هذا النَّوع مشهوراً في الجاهليَّة، فجاء الإسلام فحرَّمه، ومن صور الرِّبا المُحرم ما يُسمَّى ببيع العينة؛ وصورتها: أن يبيع شخصٌ آخر سلعةً مُعينة على أن يتمَّ السَّداد بعد مُدَّةٍ من الزَّمن، ثُمَّ يقوم البائع بشرائها منه نقداً، وهي من الصور التي يتم فيها التَّحايل لأخذ الرِّبا.[١٠]
وأمَّا ما يترتَّبُ على الرِّبا من أضرارٍ ومفاسد فهي كثيرةٌ، سواءً أكانت على المُرابي أو على المُجتمع، والإسلام لم يأمر البشريَّة إلَّا بما كان فيه خيرٌ لها وسعادة في الدُّنيا والآخرة، فمن أضرار الربا؛ أنَّ فيه انطباعٌ في نفس المُرابي على البُخل، والعُبوديَّة للمال والمادَّة، وقسوة القلب، وأمَّا أضراره الاجتماعيَّة؛ فهي تؤدي بالمُجتمع إلى الإنحلال والتفكُّك، وانشغال كُلِّ شخص بنفسه بعيداً عن التفكير بغيره ومُساعدتهم.[١١]
أيها الموحدون، قد شدد النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لما بُعث في تحريم الرِّبا، وعدَّه أشدَّ من زنا الرَّجل بأمِّه، وكانت صورة الربا في الجاهليَّة تتم بزيادة المال على القرض إن لم يكُن عند المقترض مال يقدر من خلاله على سداد الدين، فعندها يتم تأجيل السداد مع رفع قيمة المبلغ،[١٢] وهو ما تقوم به بعض البُنوك في وقتنا المُعاصر؛ حيثُ تقوم بإعطاء عُملائها قُروضاً بفائدة، وعلى المُسلم أن يحرص على تحرِّي الحلال في ماله، وأن يبتعد عن الحرام وألا يتعامل بهذه الصور المحرمة من المعاملات؛ فقد جاء عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّ اللحم الذي ينبت من الحرام مصيره إلى النَّار، كما أنَّ الله يمحق البركة من مال المتعامل بالربا، ولا ننسى أيها الإخوة أنَّ أكل المال الحرام سبب من أسباب منع استجابة الدُّعاء.[١٣]
أيها الإخوة، علينا جميعا أن نضع نُصب أعيننا مخافة الله، وقول النبيِّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وعِرْضِهِ، ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ وقَعَ في الحَرامِ)،[١٤] فالرِّبا إثمه عظيمٌ، وارتكابه طريقٌ للهلاك، ومحقٌ للبركة،[١٥] أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه؛ إنَّه هو الغفور الرَّحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الواحد القهار، أشهد ألا إله إلَّا هو الكبير المتعال، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله أرسله الله رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً؛ أمَّا بعد، عباد الله، لا بُدَّ لنا أن نعلم أنَّ الرِّبا من الكبائر والموبقات والتي تُهلك صاحبها، وتوجب غضب الله عليه، فالمُرابي هو بمقام من يُعلن الحرب على خالقه، وقد جاء عن ابن عباس -رضي الله عنه- قوله: "يقال يوم القيامة لآكل الرِّبا: خذ سلاحك للحرب"، ولذلك حذَّر الإسلام منه، ومن جميع أنواعه وصوره.[١٦]
وقد بيَّن النبيُّ -عليه الصلاةُ والسلام- بالتفصيل الأصناف التي يُمكن أن يدخُلها الرِّبا وذلك كي تبتعد الأُمَّة وتحذر من الوقوع فيه، وحذَّر الله -تعالى- من مُخالفة أوامره بقوله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)،[١٧] ومن ظنَّ أن الرِّبا يزيد في أمواله فليتذكر وعيد النبيِّ -عليه الصلاةُ والسلام- له بأنَّ من أخذ الرِّبا ليُكثر من أمواله فعاقبة أمره إلى قلَّةٍ؛[١٨] إذ إنَّ الله -تعالى- يمحق ماله، ويمحق بركته فلا ينتفع به.[١٩]
الدعاء
- اللهمَّ طهِّر أموالنا من الرِّبا والسُّحت والمال الحرام.
- اللهمَّ اجعلنا ممَّن إذا رفعوا أيديهم لا يقال لهم: لا يستجاب لكم.
- اللهمَّ اجعلنا ممَّن أطابوا مطاعمهم ومشاربهم، ومن الذين عرفوا الحلال فأحلُّوه، وعرفوا الحرام فحرَّموه.
- اللهم اجعلنا ممَّن يقف عند حدودك ولا يتعداها.
- اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
- اللهم اجعل مطعمنا حلالاً، ومشربناً حلالاً، وملبسناً حلالاً، وبناءناً حلالاً، ونفقاتنا حلالاً.
- اللهم ارفع وادفع عنَّا الرِّبا والزِّنا والزلازل والمحن، وأعذنا من مضلات الفتن.
- اللهم ارزقنا رزقاً حلالاً وبارك لنا فيه.
- اللهم ارزقنا القناعة وبارك لنا فيما رزقتنا.
- ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
- اللهم إنا نسألك الجنة وما قرَّب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرَّب إليها من قول أو عمل.
قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.[١٨]
عباد الله، إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكّرون، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
المراجع
- ^ أ ب محمد العثيمين (1988)، الضياء اللامع من الخطب الجوامع (الطبعة 1)، صفحة 535، جزء 7. بتصرّف.
- ↑ سورة آل عمران، آية:102
- ↑ سورة آل عمران، آية:130-132
- ↑ سورة البقرة، آية:275
- ↑ سورة البقرة، آية:275-276
- ↑ محمد السرخسي (1993)، المبسوط، بيروت:دار المعرفة، صفحة 109-110، جزء 12. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدري، الصفحة أو الرقم:1584، صحيح.
- ^ أ ب محمد العثيمين (1998)، الضياء اللامع من الخطب الجوامع (الطبعة 1)، صفحة 535-539، جزء 7. بتصرّف.
- ↑ سورة النساء، آية:161
- ^ أ ب ت سعيد القحطاني، الربا أضراره وآثاره في ضوء الكتاب والسنة، الرياض:مطبعة سفير، صفحة 13-31، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ سعيد القحطاني، الربا أضراره وآثاره في ضوء الكتاب والسنة، الرياض:مطبعة سفير ، صفحة 71، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ عبد الرحمن السيوطي، الدر المنثور، بيروت:دار الفكر، صفحة 103-105، جزء 2. بتصرّف.
- ↑ "من الكبائر: الربا"، ملتقى الخطباء، 26-3-2019، اطّلع عليه بتاريخ 11/8/2021. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن النعمان بن بشير، الصفحة أو الرقم:1599، صحيح.
- ↑ عبد العزيز الغامدي (29-4-2017)، "خطبة عن خطر الربا"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 11/8/2021. بتصرّف.
- ↑ موقع إسلام ويب (2004-9-30)، "ماهية الحرب من الله ورسوله لآكل الربا"، إسلام ويب، اطّلع عليه بتاريخ 2021-8-15. بتصرّف.
- ↑ سورة النور، آية:63
- ^ أ ب "حرب الله لأكلة الربا"، الموقع الرسمي للشيخ محمد صالح المنجد، اطّلع عليه بتاريخ 11/8/2021. بتصرّف.
- ↑ شحاتة صقر، دليل الواعظ إلى أدلة المواعظ، الإسكندرية:دار الفتح الإسلامي ، صفحة 332، جزء 2. بتصرّف.