مقدمة الخطبة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، الحمد لله (الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا).[١]
وأشهد أن لا إله إلَّا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، بلَّغ الرِّسالة وأدَّى الأمانة ونصح الأمَّة، فتركها على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلَّا هالك، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّـهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)،[٢] فاللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد سيد النَّبيين وخير المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
الوصية بتقوى الله
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته، وأحذِّركم وإيَّاها من مخالفة أمره وعصيانه، لقوله -عزَّ من قائلٍ-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). [٣]
الخطبة الأولى
إنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان حريصاً على بناء الشَّباب وإعدادهم لحمل أمانة تبليغ الرِّسالة في جميع مجالات الحياة، وحثِّهم على التزام طاعة الله وعبادته، يقول -صلى الله عليه وسلم-: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ، يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: الإمَامُ العَادِلُ، وشَابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ رَبِّهِ).[٤]
وقد دعاهم -عليه الصلاة والسلام- إلى اغتنام فرصة شبابهم، لتكوين أنفسهم، وبناء شخصياتهم المستقلة، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: (اغْتَنِمْ خَمْسًا قبلَ خَمْسٍ: شَبابَكَ قبلَ هِرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَرَاغَكَ قبلَ شُغْلِكَ، وحَياتَكَ قبلَ مَوْتِكَ).[٥]
فلا نجد بين الفئات العمريَّة من الأطفال إلى الشُّيوخ من يملك الصحَّة والفراغ، ويفعم بالحياة أكثر من فئة الشباب، فهم أحرى باغتنام شبابهم، وفراغهم، وصحتهم، بما يعود عليهم وعلى الأُمَّة بالخير في دينهم ودنياهم.[٦]
أيُّها المؤمنون؛ إنَّ الشَّباب سرُّ نهضة الإسلام، ومبعث عزّته وحضارته، وحامل لوائه، فلو التفتُّم إلى الشَّباب من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، تجدونهم قد تربّوا في مدرسة رسول الله، فهم أقدر على حمل الأمانة، وأقوى على أداء المسؤوليَّة، وأمتن على التزام مبادئ الإسلام، لا يميلون مع رياح الفتنة، ولا يستسلمون لإغراء الفساد، ولا يعتريهم يأسٌ ولا قنوطٌ.[٧]
فهذا مصعب بن عمير عمره خمسٌ وثلاثون عاماً، اختاره الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- سفيراً إلى المدينة، وكان من أشرف النَّاس في مكَّة، إذ هو من بني عبد الدار الذين يحملون مفتاح الكعبة ويتوارثونه، وكان ثريَّاً يلبس أجود الثِّياب، ويأكل ألذَّ الطَّعام، ورغم هذا كان يتَّصف بصفات الدَّاعية الحقيقي من الَّلباقة والذَّكاء والهدوء والصَّبر، وسعة الصدر والحِلم.[٨]
وقد ترك طعامه وملبسه وكلُّ ما يتمتَّع به من رفاهيةٍ في العيش، ورحل مسافة خمسمئةِ كيلو متراً عن مكَّة، ليعلِّم النَّاس الدِّين، طاعةً واستجابةً لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ هو يحفظ كلَّ ما نزل من القرآن الكريم، ويعرف معاني الآيات كما فسَّرها الرَّسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، فكان خير قدوةٍ للأغنياء الذين يدخلون الدِّين ولا يتردَّدون بترك مالٍ أو جاهٍ.[٨]
أما الذي حمل راية الأنصارفي غزوة بدر كان شاباً عمره اثنان وثلاثون سنةً،[٩] والعجيب أنَّه لما أسلم كان عمره واحدٌ وثلاثون، إنّه سعد بن معاذ، قال كلماته المشهورة عندما اجتمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع المهاجرين والأنصار يستشيرهم.[١٠]
فجاء الجواب من سعد: "لقد آمنا بك، وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، ووالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك"، ففرح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكلامه.[١٠]
وعن الحِب بن الحِب، أسامة بن زيد، الذي فرح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لولادته، وفرح المسلمون لفرح رسولهم، كان ذكياً، حكيماً، شجاعاً، عفيفاً، تقياً ورعاً. وفي غزوة الخندق كان عمره خمس عشرة سنةً، فجاء يشدُّ قامته لأعلى ليأذن له رسول الله بالقتال، فرقَّ له قلب الرَّسول فأذن له.[١١]
وكان من الثَّابتين مع النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين، وفي غزوة مؤتة قاتل تحت راية أبيه، ورأى اسشهاده، فلم يضعف ولم يستكن، وفي السَّنة الحادية عشرة للهجرة كان عمره أقلَّ من عشرين سنةً، وضعه النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أميراً على جيش المسلمين المتَّجه لقتال الروم.[١١]
وهذه أسماء بنت أبي بكر، لما أذن الله -تعالى- لنبيه بالهجرة من مكَّة إلى المدينة، جاء أبو بكر فأخبرها، فجهزت عائشة وأسماء -رضي الله عنهما- سفرةً ووضعاها في جراب،[١٢] فقطعت أسماء نطاقها نصفين وربطت به الجراب، إذ لم تجد شيئاً تربط به غيره، فبشّرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنطاقين في الجنَّة.[١٣]
أمَّا عن خباب بن الأرت فقد كان عبداً اشترته امرأةٌ من مكَّة حين كان صبيّاً، ثمَّ اشتهر بصناعة السيوف وإتقانها، ولمَّا بلغته دعوة سيدنا محمد -عليه الصلاة والسلام-، سارع إلى نطق الشَّهادتين، فكان سادس من أسلم، ثمَّ صدع بإسلامه في مكَّة، فصعقت قريش بخبره، إذ لم يسمعوا أحداً من أتباع محمَّد -عليه الصلاة والسلام- يعلن إسلامه بصراحةٍ وتحدٍّ، فنال شتّى صور العذاب من المشركين ومن صاحبته التي شرته.[١٤]
وعاش خباب فرأى موت من شرته وأخاها، وأدرك الخلفاء الرَّاشدين الأربعة -رضي الله عنهم- وأرضاهم، ثمَّ امتنَّ الله عليه ورزقه ما لا يعدُّ من الذَّهب والفضة، فوضع الدَّراهم والدَّنانير في موضعٍ يعرفه الفقراء والمساكين، فكانوا يأتون داره ويأخذون من ماله دون سؤالٍ أو استئذانٍ.[١٤]
وهذا عبدالله بن عمر بن الخطاب، أسلم وهاجر مع أبيه، ولم يؤذن له في القتال يوم أحد، ثمَّ قاتل في الخندق، وبايع النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- تحت الشَّجرة، وروى عن النَّبيِّ وأصحابه علماً كثيرا، ورأى في المنام ملكيْن يأخذانه إلى النَّار، فتعوذ بالله من الشَّيطان، وقصَّ رؤياه على حفصة، فقصّتها على النَّبيِّ فقال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل)،[١٥] فكان لا ينام من اللَّيل إلَّا قليلا.
هكذا كان الشَّباب في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، نماذج في التَّضحية والفداء، منهم العالم ومنعم العابد، منهم الغنيُّ والفقير، شرفاء أعزاء، جمعتهم كلمة الإسلام، واجتمعوا تحت لوا نبيهم الكريم.
أمَّا في عصرنا الحاضر، فالحال مختلفة، ولا داعي لذكر المساوئ التي غرزتها الكثير من العوامل وأهمّها البعد عن الدّين في الشَّباب، إلَّا أنَّنا نساعد الشَّباب كي يقوموا بدورهم، وينهضوا بأمتهم، ويؤدوا رسالتهم، ونجمل ذلك في نقاط:[١٦]
- أن يعرفوا غاية خلق الله للإنسان، فيستشعروا عظم مسؤولية استخلاف الله لبني البشر في الأرض.
- أن يعي الشباب الأخطار التي تكتنف الإسلام.
- أن يتفاءلوا بالنصر، ويقطعوا دابر اليأس.
- أن يقتدوا بخير البشريَّة وأصحابه، ويسيروا على نهجهم القويم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، وادعوه يستجب لكم، إنَّه هو البرُّ الكريم.
الخطبة الثانية
الحمدلله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمَّا بعد، فيا عبد الله، رسالةٌ أقولها موجهةٌ إلى الشَّباب؛ اعلموا أنَّ ربيع العمر الذي تتمتعون به زائلٌ لا محالة.
فإن لم تبقوا ضمن الحدود الشَّرعيَّة، فسيضيع شبابكم، وسيجلب لكم البلاء في الدُّنيا وفي القبر وفي الآخرة، وهي أضعاف ملذات الدُّنيا التي ذقتموها أيام شبابكم، وفي المقابل لو عشتم شبابكم في طاعة ربِّكم، وشكرتموه على ما أنعم عليكم من الفتوة والشباب، فستفوزون بشباب خالد في الجنَّة الخالدة.[١٧]
الدعاء
صلوا على رسول الله الأمين، وادعو الله موقنين بالإجابة والنصر والفرج:
- اللهمَّ صلِّ على سيدنا محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.
- اللهمَّ اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
- اللهمَّ سخر لهذا الدِّين من ينصره، رجالاً ونساءً يا ربَّ العالمين.
- اللهمَّ اهدِ شباب المسلمين، واهدِ فتيات المسلمين.
- اللهمَّ اجعل شبابنا وفتياتنا من القانتين القائمين، والخاشعين الصَّابرين، الحافظين كتابك الكريم، والذاكرين لك كثيراً يا ربَّ العالمين.
وآخر دعواهم أن الحمدلله رب العالمين، عباد الله، إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكّرون، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
المراجع
- ↑ سورة غافر، آية:67
- ↑ سورة الأحزاب، آية:56
- ↑ سورة الحجرات، آية:13
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:660، صحيح.
- ↑ رواه الألباني ، في صحيح الترغيب، عن عبد الله بن عباس، الصفحة أو الرقم:3355، صحيح.
- ↑ عبد الله ناصح علوان، دور الشباب في حمل رسالة الإسلام، صفحة 4. بتصرّف.
- ↑ عبد الله ناصح علوان، دور الشباب في حمل رسالة الإسلام، صفحة 5. بتصرّف.
- ^ أ ب راغب السرجاني، السيرة النبوية، صفحة 10. بتصرّف.
- ↑ راغب السرجاني، السيرة النبوية، صفحة 5. بتصرّف.
- ^ أ ب خالد محمد خالد، رجال حول الرسول، صفحة 369. بتصرّف.
- ^ أ ب عبد الرحمن رأفت الباشا، صور من حياة الصحابة، صفحة 222-226. بتصرّف.
- ↑ كيس أو وعاء يكون عادة من جلد يجمل فيه الطعام
- ↑ محمد أبو شهبة، السيرة النبوية على ضوء الكتاب والسنة، صفحة 474-475. بتصرّف.
- ^ أ ب عبد الرحمن رأفت باشا، صور من حياة الصحابة، صفحة 412-418. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبدالله بن عمر، الصفحة أو الرقم:1156، صحيح.
- ↑ عبد الله ناصح علوان، دور الشباب في حمل رسالة الإسلام، صفحة 8. بتصرّف.
- ↑ سعيد النورسي، الكلمات، صفحة 158. بتصرّف.