مقدمة الخطبة
الحمد لله وليّ الصَّالحين، وأشهد أنَّ لا إله إلَّا الله وحدهُ لا شريك له إله العالمين، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبدهُ ورسولهُ إمام المرسلين، الحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله الذي جعلنا من أمة محمد صلى الله عليهِ وسلم، والسلام على من جاء بالصِّدق وأمر بهِ وحذَّر ونهى عن ضدهِ، اللهمَّ اجعلنا من الصِّديقين الصَّادقين في الأعمال والأقوال، وأعذنا من الكذب والكاذبين.[١][٢]
الوصية بالتقوى
عباد الله، أوصيكم بتقوى الله، إذ جاء إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- رجلٌ فسأله عن حقيقة التَّقوى، فقال له: هل سلكت طريقًا ذات يوم فيه شوك؟ قال: نعم، قال: فما صنعت؟ قال: أتجاوزه أو أميل عنه، فقال: فكذلك التَّقوى. أيها المسلمون، فاتَّقوا الله -تعالى-، فإنَّ خير الوصايا وأعظمها تقوى الله، قال -سبحانه وتعالى-: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}،[٣] والتَّقوى هي العاقبة الحميدة، قال -تعالى-: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}،[٤] وحقيقة التَّقوى: العمل بطاعة الله -سبحانه وتعالى- إيمانًا واحتسابًا، وهي وصيَّة النَّبيِّ -عليه الصلاة والسلام- لأمتهِ في عموم وصاياه وخطبهَ -عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام-.
الخطبة الأولى
أيُّها المسلمون، أصل الحياة الطيِّبة، وقاعدة السَّعادة، وأساس العاقبة الحسنة في الدُّنيا والآخرة، تكمُن في الصِّدق مع الله -سبحانه وتعالى-، ظاهرًا وباطنًا، يقول -سبحانهُ وتعالى- في كتابهِ الكريم: (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّـهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ)،[٥] فلنحرص على تطبيق الصدق في كلّ مجالات الحياة، فوالله إنّ للصّدق فضائل عظيمة، وبه يُرفع قدرك عند الله وعند خَلْقِه، وتفوز بالجنّة، وتَسلم من النّار، وتُرزق البركة والطمأنينة والسّكينة في الحياة.
وقد بينَّ الله -تعالى- صفات الصَّادقين ومناقبهم العظيمة في آيةٍ واحدةٍ وهي في قوله -سبحانه-: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَة وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْس أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون)،[٦] وتدُلُّ الآية الكريمة أنَّ ما ذُكر من الصفات والمناقب هو حقيقة الصِّدق مع الله ومع الخلق.
وقال -تعالى-: (أولئك الذين صدقوا)،[٦] لماذا؟ لأنّهم آمنوا بالله، وباليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنَّبيين، وأقاموا الصَّلاة، وآتوا الزَّكاة، وبذلوا المحبوب في هذه الجهات، فليس للعبد شيءٌ أنفع من صدقه مع ربّهِ في جميع أموره،[٧]
إخوتي في الله، الصِّدق فضيلةٌ ونجاةٌ، وطمأنينةٌ وراحة بالٍ، وهو منبع الفضائل وأصل المروءة، ويؤدّي إلى تصفية السَّرائر وإخلاص العمل لله -تعالى-، وتنقية القلب من الرِّياء وحب السُّمعة والتظاهر، يقول الإمام ابن القيم -رحمهُ الله-: "ليس للعبد شيء أنفع من صدقه ربه في جميع الأمور مع صدق العزيمة، ومن صدق الله في جميع الأمور صنع الله له فوق ما يصنع لغيره"، وللصِّدق مقتضيات عدّة؛ كالتَّحري في قول الحقِّ سرًا وعلانيةً، والإخلاص في النِّيَّة والعمل، والوفاء بالعهود والعقود، وعدم تعدِّي الحدود، قال وكيعٌ بن الجراح رحمه الله: "هذه بضاعة لا يرتفع فيها إلا صادق".[٨]
وفي ذات يومٍ أعطى الرَّسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- أعرابيًا قِسمًا من غنائم غزوة خيبر، فجاء للنَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- فقال: ما على هذا اتبعتك يا رسول الله، ولكن اتّبعتك على أن أُرمى هاهنا، وأشارإلى حلقهِ، فأموت فأدخل الجنَّة، فقال له إن صدق فصيصْدقه الله، ثم نهض إلى قتال العدو، فأُتِي للنبي -عليه الصلاة والسلام- وهو مقتول، فقال: (أهو هو؟ فقالوا: نعم، فقال: صدق الله فصدقه؛ فكفنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في جبته ثم دعا له: الَّلهُمَّ هذا عبدُك خرجَ مهاجِراً في سبيلِك قُتِلَ شهِيدًا وأنا على ذلك شهِيد).[٩]
وها هو خليفة رسول الله أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يقول للناس عندما تولّى أمرهم: "أيها الناس، إني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة"، وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "ما من مضغة أحب إلى الله من لسان صدوق، وما من مضغة أبغض إلى الله من لسان كذوب"، وقد أوصى الأحنف ابنه ذات يومٍ فقال له: "يا بني، يكفيك من شرف الصدق، أنَّ الصادق يُقبل قوله في عدوه، ومن دناءة الكذب، أن الكاذب لا يُقبل قوله في صديقه ولا عدوه، لكلِّ شيء حِليةٌ، وحليةٌ المنطق الصدق؛ يدلُّ على اعتدال وزن العقل".[١٠]
عباد الله المسلمين، إنّ لِلعبادة ثلاثة أركان أحدهما الصِّدق مع الله، والصِّدق مع الله من أجلِّ أنواع الصِّدق، فيكون المسلم صادقًا مع ربِّه إذ حقَّق هذه الجوانب، وهي الإيمان، والاعتقاد الحسن، وفعل الطَّاعة، والتحلّي بالأخلاق، فليس الإيمان بالتَّمنِّي ولا بالتَّحلِّي، بل الصَّادق هو من حقّق الذي أراده منهُ ربّه، ومنه الصِّدق في اليقين، والصِّدق في النِّيَّة، والصِّدق في الخوف من الله -سبحانهُ وتعالى-، وليس كلُّ مَن عمِل طاعةً يكون صادقًا حتى يكون ظاهره وباطنه على الوجه الذي يحبُّهُ الله -تعالى-.
أيُّها المسلمون، طاعة الله -سبحانهُ وتعالى- بتوحيدهِ، وامتثال أوامرهِ واجتناب نواهيه، والابتعاد عن المعاصي والمحرَّمات، ولا يُقبل ذلك إلَّا بالصدق والإخلاص لله -سبحانهُ وتعالى-، سواءً كان ذلك في فعل الطَّاعة أو ترك المعصية، ولهذا كان المخلص لله -سبحانه- من عباده المقرَّبين وأوليائه الصَّالحين، إخوتي أُخْبركم بأنواع الصِّدق وهي:[١١]
- الصِّدق في الأقوال: بتحرّي الحقّ وتجنّب الكذب في القول.
- الصِّدق في الأعمال: باستواء الأعمال على المتابعة والاقتداء بالنبيّ الكريم.
- الصِّدق في الأحوال: باستواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص والأخلاق الحسنة الحميدة، وبذل الوسع في ذلك.
وأسال الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا من الصَّادقين، وأن يحشرنا معهم يوم الدِّين، وأن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال.
الخطبة الثانية
الحمد لله وليُّ المتَّقين، وإلهِ الأوَّلين والآخرين، وقيُّوم السَّماوات والأرض، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحدهُ لا شريك له، لهُ الملك الحقُّ المبين، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولهُ الصَّادق الأمين، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، وصلِّ اللهمَّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبهِ أجمعين،[١٢][١٣]
إخواني وأحبتي، الصِّدق مع الله لا يتحقَّق إلَّا بالالتزام بِتقواه، والاستقامة على ما يحبُّهُ ويرضاه، والصِّدق مع الله مرتَبةً عاليةً لا يصل إليها الإنسان إلَّا ببذل نفسهِ لله -تعالى-، إذ يكون حاله تبعًا لأمر الله، يُحبُّ ما يحبّه الله، ويفعل ما يأمره به، ولا بدَّ من تدريب النَّفس على الالتزام والطَّاعة المطلقة لأمر الله، وإن كَلَّفت أغلى ما نملك، ابتغاءً لمرضاة الله -تعالى-، ولا بدّ لنا أن نحرص من اجتناب خطوات الشَّيطان، قال الله -تعالى-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).[١٤]
أيُّها المسلمون، يجب علينا أن نكون صادقين مع أنفسنا، نرى عيوبنا ونُصلِحها، ونُحاسب أنفسنا باستمرارٍ على أيّ تقصير، ونُربّي أبناءنا على الصِّدق، ونُجنِّبهم الكذب، وللصِّدق مع الله ثمراتٌ عديدةٌ أهمّها:[١٥][١٦]
- الصِّدق طريقٌ يُوصل إلى الجنَّة.
- الصِّدق منجاةٌ في الدُّنيا والآخرة، فلا ينفعنا يوم القيامة لا مالٌ ولا بنون.
- الصِّدق مع الله -تعالى- فوزٌ بالجنان والحصول على رضا الرَّحمن.
- الصِّدق مع الله -تعالى- يؤدّي إلى بلوغ درجة الشُّهداء بإذن الله.
- الصِّدق مع الله -تعالى- سببٌ للتوفيق وتفريج الهموم والكروب.
- الصدق والإخلاص يحفظ المخلص بإذن الله من تسلُّط الشَّيطان عليه.
- الصدق والإخلاص يحفظ الأمَّة ويحقِّق النَّصر.
- الصدق والإخلاص سببٌ لمغفرة الذُّنوب من علَّام الغيوب.
يا عباد الله، إنْ تَصْدُقوا الله يَصْدقكم، فكونوا من عباده الصادقين المخلصين، فلن ينفعنا ولن يُنجينا من عذاب يوم القيامة إلا الصّدق في أقوالنا وأفعالنا وإيماننا، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الدعاء
اللهمَّ كما أحسنت خَلقنا فأحسِن خُلقنا، اللهمَّ إنَّا نعوذ بك ممَّا يحلُّ به علينا غضبك، ونسألك اللهمَّ أن ترشدنا لكلِّ ما يقربنا إليك، اللهمَّ طهِّر قلوبنا من الكذب والآثام والأمراض، واحفظ جوارحنا عن الفواحش وسيِّء الأخلاق، نسألك أن تدخلنا في عبادك الصالحين، وتجعلنا من الصّادقين المخلصين، اللهم احفظ قلوبنا وجوارحنا من الرّياء والنّفاق، اللهمَّ كما حفظت أنبياءك وأولياءك فاحفظنا، اللهمَّ ألهمنا رشدنا وبصِّرنا بمواطن الضَّعف في نفوسنا.
اللهمَّ اهدِ ضال المسلمين وأصلح شأنه، وعافه فيمن عافيت، وتولَّه فيمن توليت، اللهمّ إنّا نعوذ بك من قلبٍ لا يخشع، ونفسٍ لا تشبع، وعلمٍ لا ينفع، اللهمّ إنّا نعوذ بك من الجبن والبخل، اللهمّ بارك لنا في أخلاقنا، اللهم احفظنا بالإسلام ولا تشمّت بنا عدوا حاسداً، اللهمَّ إنا نسألك من خير خزائنك، وصلِّ اللهمَّ على سيدنا محمد وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين[١٧][١٨].
المراجع
- ↑ حسين بن عبدالعزيز آل الشيخ (16/5/2010)، "الصدق مع الله"، الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 20/6/2021. بتصرّف.
- ↑ خالد عبدالرحمن الكناني (11/4/2018)، "الصدق والصادقون"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 20/6/2021. بتصرّف.
- ↑ سورة البقرة، آية:197
- ↑ سورة الأعراف، آية:128
- ↑ سورة محمد، آية:21
- ^ أ ب سورة البقرة، آية:177
- ↑ محمد صالح المنجد، كتاب موقع الإسلام سؤال وجواب، صفحة 1583. بتصرّف.
- ↑ د. سعد الله المحمدي (13/5/2020)، "الصدق مع الله"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 20/6/2021. بتصرّف.
- ↑ رواه الالباني، في صحيح الترغيب، عن شداد بن الهاد الليثي، الصفحة أو الرقم:1336، صحيح.
- ↑ "أقوال السلف والعلماء في الصدق"، الدرر السنية، اطّلع عليه بتاريخ 29-6-2021.
- ↑ أميرة عزت، "الصدق مع الله"، صيد الفوائد، اطّلع عليه بتاريخ 20/6/2021. بتصرّف.
- ↑ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر (12/3/2014)، "الوصية بالتقوى"، الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 20/6/2021. بتصرّف.
- ↑ مجموعة من المؤلفي، كتاب فتاوى الشبكة الإسلامية، صفحة 4271. بتصرّف.
- ↑ سورة البقرة، آية:207 208
- ↑ السيد مراد سلامة (8/10/2020)، "الصدق مجالاته وثمراته"، الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 20/6/2021. بتصرّف.
- ↑ خالد سعد الشهري (10/12/2016)، "الإخلاص (خطبة)"، الالوكة، اطّلع عليه بتاريخ 20/6/2021. بتصرّف.
- ↑ سليمان بن حمد العودة، كتاب شعاع من المحراب، صفحة 107. بتصرّف.
- ↑ "جوامع الدعاء"، صيد الفوائد، اطّلع عليه بتاريخ 20/6/2021. بتصرّف.