المقدمة
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المُهتدِ، ومن يُضلل فلن تجد له وليَّاً مرشداً. الحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله أن جعلنا من أمّة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله بعثه ربُّه بمكارم الأخلاق؛ منها الصدق مع النفس الذي يُعدّ أفضل طريق لتزكية النفس، وتغيُّر المجتمع نحو الأفضل، وما أجمل أن نتذكر ذلك على منابر الجمعة، حتى نراجع أنفسنا معشر المُصلّين، ونحثُّها على الصدق مع النفس والإخلاص لله -تعالى-.
الوصية بالتقوى
أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عزَّ وجلَّ- وطاعته، كما أمركم الله بذلك في كتابه؛ فقال -جلّ جلاله-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)،[١] فالتقوى هي زادُك أيها المؤمن وإيّاي في الطريق إلى الله.
الخطبة الأولى
عباد الله، إنَّ الصدق من الخِصال الحميدة التي تنجِّي صاحبها في الدنيا وترفع مكانته في الآخرة، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)،[٢] فالصدق خلق المؤمنين، وعنوان الموحِّدِين، وراية المتَّقين، وهو أساس الدين، وعمود اليقين، قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا. وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا).[٣]
ومن الجدير بالذكر إخوتي في الله أن نعرف معنى الصدق، حيث إنَّ الصدقَ يعني مطابقة منطوق اللسان للحقيقة، ومطابقة الظاهر للباطن، والصدق مع الله يكون بإخلاص الأعمال كلِّها له -سبحانه وتعالى-، والصدق مع الناس يكون بأن لا يكذب المسلم في أقواله وأفعاله معهم، والصدق مع النفس أن يكون المسلم صادقاً يعترف بعيوبه وأخطائه ويصحّحها.[٤]
عباد الله، الصدق مع النفس يكون بمحاسبتها على تقصيرها وعدم خداعها وإهمالها، فكم من الناس من يعرف في قرارة نفسه أنّه يكذب على نفسه ومع ذلك لا يهتمّ ولا يكترث! فلو أنّه وقف مع نفسه وقفة مُحاسبة صادقة، وهذّبها وزكّاها عن النفاق، لكان خيرا له وأشدُّ تثبيتا. وقد قال أحد السلف: "الصادق لا تراه إلا في فرض يؤدِّيه، أو فضلٍ يعمل فيه".[٥]
أيها المسلمون، الصدق مع النفس هو المعرفة بقواعد الحكمة مع النفس عند تربيتها، وأهم هذه القواعد:[٦]
- أوّلها: التدرج مع النفس، فالتدرُّج من المقاصد الشرعية، ويجب أن نعلم أنَّ التدرُّج لا يكون في باب الشرع إلّا في المستحبّات والمكروهات والزهد والورع المستحبّ، وأمّا أن يريد الإنسان إعمال التدرُّج في أمر واجب كصلاة الجماعة فلا يجوز، كما لا يجوز إدخال التدرّج في ترك المحرمات؛ بل يجب على الإنسان تركها حالا.
- القاعدة الثانية: وهي الأولويات؛ بأن يُراعي الأهمّ فالأهمّ، فيجب على المسلم أن يحرص على المعرفة بمراتب الشرع، عارفاً بمقاصد التشريع، أمّا إن كان جاهلاً فإنّه لا يستطيع إعمال هذه القاعدة حقَّ الإعمال.
- القاعدة الثالثة: أن يُجمّ الإنسان نفسه ويُريح ذاته في سَيرها إلى التزكية والتربية، فالنفس كالراحلة إذا لم تُرحها انقطعت، فلنعلم أن لأنفسنا علينا حقّا، وقد كان السلف يفعلون هذا.
- القاعدة الأخيرة: وهي إعمال اللين والرفق مع النفس، واللين والرفق أعمُّ معنىً من التدرج مع النفس، فينبغي أن يكون الواحد منّا ليناً مع نفسه رفيقاً بها، ولكن هذا لا يعني اللين مع النفس في كلِّ الأوقات، فالحزم وقت الحزم، والرفق يكون في موضعه.
عباد الله، فلنصدق في أعمالنا مع الله، فإن مخالفة الظاهر للباطن عن قصد هو الرياء، وإن كان عن غير قصد يفوت بها الصدق، فقد يمشى الرجل على هيئة السكون والوقار وليس باطنه موصوفاً بذلك الوقار، فهذا غير صادق فى عمله، وإن لم يكن مرائياً، فقد كان الحسن البصري رحمه الله إذا أمر بشىء كان من أعمل الناس به، وإذا نهى عن شىء كان من أترك الناس له، و قالوا عنه: "لم نر أحداً قط أشبه سريرة بعلانية منه".[٧]
إخوتي في الله، فلنبدأ بأنفسنا، ولنصلحها، ولنكن صادقين معها، فالصدق مع النفس أفضل طريق لتزكيتها، ألم تعلم أنَّ أوّل نصرٍ للدين بأن يُصلح المسلم نفسه، وأوّل صلاحٍ للمجتمع أن يصدُقَ مع نفسه، فلو أنَّ كلّ شخصٍ حاسب نفسه ولامها على تقصيرها، لكان خيراً لنا وسبباً من أسباب الحفاظ على مجتمعاتنا من الفساد، ألا يا عباد الله لا ندع الكبر والغرور يمنعنا من محاسبة أنفسنا، نسأل الله العافية.
وأن يتقدم المرء في الخير خطوات ولو قليلة؛ خيرٌ من أن يبقى في مكانه أو أن يتأخّر، وَفي الحَدِيثِ عَن أَبي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: رَأَى رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في أَصحَابِهِ تَأَخُّرًا فَقَالَ لَهُم: (تَقَدَّمُوا وَأْتَمُّوا بي وَلْيَأتَمَّ بِكُم مَن بَعدَكُم، لا يَزَالُ قَومٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ)،[٨] فعلينا إخوتي بعدم التأخر في المبادرة الى الخير، والمسارعة إلى الصدق مع أنفسنا.
معشر الفضلاء، ختاماً لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الصدق مع النفس من أهمّ ما يكشف للمرء معايبها؛ فلا يجامل المسلم نفسه ولا يحابيها على حساب دينه؛ فيضرّها عند لقاء الله -تعالى-،[٩] وإن إصلاح النفس وتقويمها يعدّ من جهاد النفس، فلنبدأ بها وولنجاهد أنفسنا، فإن جهادها من أعظم الجهاد، قال -صلى الله عليه وسلم-: (أَفضَلُ المُؤمِنِينَ إِسلامًا مَن سَلِمَ المُسلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَأَفضَلُ المُؤمِنِينَ إِيمَانًا أَحسَنُهُم خُلُقًا، وَأَفضَلُ المُهَاجِرِينَ مَن هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ تعالى عَنهُ، وَأَفضَلُ الجِهَادِ مَن جَاهَدَ نَفسَهُ في ذَاتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ).[١٠][١١] وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيراً طيِّباً مباركاً فيه، الحمد لله حمداً يوافي نعمه، ويدفع نقمه، ويكافئ مزيده، والصَّلاة والسَّلام على خير مبعوثٍ للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين، وأشهد أنَّ لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين، وبعد:
إخوتي في الله، لنلزم النّظَر إلى قلوبنا لتنقيتها باستمرار، وذلك باستغفاراللهِ -تعالى- والرّجُوع إليه، وتصحيح أي خطأ، وهذه تخلية، وملازمة القُرآنِ الكريم والأعمال الصالحة مع الصّدقِ مع النّفْسِ، وهذه تحلية.[١٢]
عباد الله، لَو تأمّلنا كلامنا في مجالسنا أَو ما نكتبه في وسائل التواصل الاجتماعي ونرسله لبعضنا، لعجبنا لما نعيشه من تناقض في تناولنا للأمور، إِذ كيف يحلم امرؤٌ بتغيير العالم كلِّه، وكيف يأمل أن يُغيِّر مجتمعه من حوله، وَهو لم يبدأ في تغيير نفسه التي بين جنبيه ويبادر إلى اصلاحها؟! لكن ليس معنى هذا أيها الإخوة أَنَّهُ لا يسوغ لأحدٍ أَن ينصح غيره ويوجه إِلى الصَّوابِ وهو ليس بكامل أو مخطئ، وَإِنَّمَا المقصودُ أَن نجتهد بقدر ما نستطيع ونبذل كلَّ الجهد وَنتّقِّ الله ما استطعنا، وأن نأخذ بما يُمكننا من الخير ونجاهد أنفسنا على المبادرة فيه.
الدعاء
- (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلّغنا به جنتك، ومن اليقين ما تُهَوِّنُ به علينا مُصِيباتِ الدنيا، ومَتِّعْنا بأسماعنا وبأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث مِنَّا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا).[١٣]
- اللهم ارزقنا الصدق والإخلاص في القول والعمل، وباعد بيننا وبين الرياء والنفاق كما باعدت بين المشرق والمغرب.
- (اللَّهمَّ ربَّ السَّمواتِ السَّبعِ، وربَّ العرشِ العظيمِ، ربَّنا وربَّ كلِّ شيءٍ، أنتَ الظَّاهرُ فليس فوقَكَ شيءٌ، وأنتَ الباطنُ فليس دونَكَ شيءٌ، مُنزِلَ التَّوراةِ، والإنجيلِ، والفُرقانِ، فالقَ الحَبِّ والنَّوى، أعوذُ بكَ مِن شرِّ كلِّ شيءٍ أنتَ آخِذٌ بناصيتِه، أنتَ الأوَّلُ فليس قبْلَكَ شيءٌ، وأنتَ الآخِرُ فليس بعدَكَ شيءٌ، اقضِ عنَّا الدَّينَ وأَغْنِنا مِن الفقرِ).[١٤]
- اللهم أخرج حبَّ المعاصي من قلوبنا، فكلّما تبنا عدنا، وكلّما ندمنا كررنا، وكلّما عاهدناك نقدنا، ربِّ اهدنا وردنا إليك ردًا جميلاً.
- (اللَّهمَّ رَحمَتَكَ أرْجو، فلا تَكِلْني إلى نَفْسي طَرْفةَ عَيْنٍ، أصْلِحْ لي شَأْني كُلَّهُ، لا إلهَ إلَّا أنتَ).[١٥]
- (رَبِّ اشرَح لي صَدري * وَيَسِّر لي أَمري * وَاحلُل عُقدَةً مِن لِساني * يَفقَهوا قَولي).[١٦]
- اللهم إنَّا مستغيثون، نستمطر رحمتك الواسعة من خزائن جودك، فأغثنا يا رحمن، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ظلمنا أنفسنا فارحمننا، إنك أرحم الراحمين.
عباد الله، إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكّرون، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
المراجع
- ↑ سورة آل عمران، آية:102
- ↑ سورة التوبة، آية:119
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عبدالله بن مسعود، الصفحة أو الرقم:2607، صحيح.
- ↑ خالد الكناني (11/4/2018)، "الصدق والصادقون (خطبة)"، الألوكة الشرعية، اطّلع عليه بتاريخ 10/7/2021. بتصرّف.
- ↑ ناصر الزهراني (12/8/2011)، "الصدق"، ملتقى الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 10/7/2021. بتصرّف.
- ↑ محمد نصر الدين محمد عويضة، كتاب فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب، صفحة 26-27. بتصرّف.
- ↑ محمد حسين يعقوب، كتاب أصول الوصول إلى الله تعالى، صفحة 130-131. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدري، الصفحة أو الرقم:438، صحيح.
- ↑ ابن القيم، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، صفحة 472. بتصرّف.
- ↑ رواه الألباني، في السلسلة الصحيحة، عن عبدالله بن عمرو، الصفحة أو الرقم:1491، إسناده صحيح رجاله ثقات.
- ↑ "ابدأ بنفسك"، طريق الإسلام، 26/3/2017، اطّلع عليه بتاريخ 10/7/2021. بتصرّف.
- ↑ إبراهيم زكي خورشيد، أحمد الشنتناوي، عبد الحميد يونس وآخرون، أرشيف الفصيح، صفحة -. بتصرّف.
- ↑ رواه الألباني، في صحيح الترمذي، عن عبدالله بن عمر، الصفحة أو الرقم:3502، حسن.
- ↑ رواه ابن حبان، في صحيح ابن حبان، عن أبو هريرة، الصفحة أو الرقم:966، صحيح.
- ↑ رواه ابن حبان، في صحيح ابن حبان، عن أبو بكر الصديق، الصفحة أو الرقم:970، صحيح.
- ↑ سورة طه، آية:25-27