خطبة عن العلاقات العائلية وأهمية صلة الأرحام

كتابة:
خطبة عن العلاقات العائلية وأهمية صلة الأرحام


المقدمة

الحمد لله الّذي خلق من الماء بشراً فجعل منه نسباً وصهراً، الحمد لله الذّي جعل بين العباد أواصرَ وأصى بها خيراً، الحمد لله الذّي أوجب صلة الأرحام وأعظم لها أجراً، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، لا ندّ له ولا ضدّ، شهادة تكون لنا يوم القيامة ذُخراً، ونشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، الذّي أعلى شأن المسلمين ورفع لهم قدراً، وصلّ الله على نبيّنا محمدّ النّبي الأمّي وعلى أصحابه الغرّ الميامين، ومن اهتدى بهديه واقتفى أثره إلى يوم الدّين.[١]



الوصية بالتقوى

أما بعد،عباد الله: أُوصيكم ونفسي بتقوى الله -تعالى- وخشيته في السرّ والعلن؛ فإنّ تقوى الله رأس الأمر كلّه، قال الله -تعالى-: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)،[٢] وقال -جلّ في علاه-: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).[٣]



الخطبة الأولى

أيها المؤمنون: اعلموا أنّ وصل الأرحام من أجلّ القربات وهو واجب على كلّ مسلم ومسلمة، وهو أمرٌ لا يختلف فيه المسلمون؛ إذا إنّ ديننا الحنيف أوجبه حتّى ولو كان الأقارب من غير ملّة الإسلام، فقد أوصى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- أن تزور أمّها وهي لا زالت على الكفر حينئذٍ، وتكون صلة الأرحام بتقديم كلّ خير لذوي القرابة، ودفع كلّ أذى عنهم، فصلوا أرحامكم كيفما استطعتم؛ صلوهم بالهدايا والمكافآت، صلوهم بالسؤال عنهم وأكثروا الزّيارات، صِلوهم بأي طريقة شئتم، حتّى وإن تعذّر كل ما سبق فليكن السّؤال عنهم بالمكالمات أو المراسلات، المهم أن لا تقطعوا، ولا تهجروا، ولا تخاصموا.[١]



ولتعلم أخي المسلم أنّ من تمام تقوى الله ومخافته أن تُحقّق مقاصد الشّريعة الإسلامية في توطيد المودّة والألفة بين المسلمين؛ فإنّ الإسلام يؤكد على ضرورة ترك النّزاع في ما بيننا، وأن نكون جميعنا كجسدٍ واحدٍ، إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى، وإنّ من كمال إيمان العبد أن يعطي الحقوق لأصحابها، ولتحقيق هذه المقصد أوجب ديننا الحنيف صلة الأرحام، ونهى عن القطيعة والخصام.[٤]



واعلموا أنّ صلة الأرحام إنما تكون لذوي القربى من النّسب والدّم ومن المصاهرة أيضاً، ولو تأمّلتم -رعاكم الله- في كتاب الله -تعالى- وسنّة نبيّه -صلّى الله عليه وسلم- لأدركتم عظم هذا الأمر وأهميته؛ فإنّ صلة الأرحام سبب من أسباب دخول العبد إلى الجنّة، وسبب لرضا الله -تعالى- في الدّنيا والآخرة، وعندما وصف الله -تعالى- أصحاب الجنّة ذكّرهم بأفعالهم في الدّنيا وقال فيهم: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ).[٥]



وحسبك يا واصل الأرحام ما ينتظرك من عظيم الخير في الدّنيا؛ فإنّ الله -تعالى- كفل لك أن يُطيل في عمرك، وأن يزيد لك في رزقك، وهذا خير البشر يُبشّر من يصل أقاربه فيقول -صلّى الله عليه وسلّم- فيما صحّ عنه: (مَن سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، وأَنْ يُنْسَأَ له في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)،[٦] ومن منّا لا يرجو طول العمر، وكثرة الرزق وسعته، نسأل الله -تعالى- أن يُعيننا على هذه الطّاعة ليبسط لنا دُنيانا، ويُسعد بها بالنا، واعلموا أنّ الرّحم مُتعلّقة بالعرش، تقول يوم القيامة من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله، وأزيدكم من فضلها أنّ أجر وصل الأرحام عند الله -تعالى- كأجر عتق رقبة مسلمة.[٧]



فلنحذر أيها المسلمون من قطع ذوي القُربى وهجرهم؛ فإنّ هذا مدعاة لغضب ربّكم وعقابه، قال الله -تعالى-: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ* أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)،[٨] وإنّ قاطع رحمه لا يدخل الجنّة ولا يشمّ ريحها.[٧] فهل يا ترى لا يزال أحد بيننا مخاصمٌ أو هاجرٌ لأقاربه بعد هذا الوعيد الشّديد؟ قد يقول أحدكم إنني أزور أقاربي على الدّوام وأتفقدّهم وأسأل عنهم، ولا أحد يُبادلني تلك الزّيارات أو الهدايا، فكيف أستمرّ على هذا الحال؟ أبشر أخي فقد جاء الجواب الشّافي على تساؤلك من النّبي -صلّى الله عليه وسلّم-، عندما سأله بعض أصحابه -رضي الله عنهم- عن مثل ذلك فقال -عليه الصّلاة والسّلام-: (ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل إذا قُطِعَتْ رحمه وصلها).[٩][٧]



أيها الفضلاء: صلوا أرحامكم وإن قطعوكم أو كانوا يوماً سبباً في أذيّتكم، وأُذكر نفسي وإياكم بأنَّ رسولنا الكريم قد شبّه من يُحسن لأقاربه ويقابل الإساءة والقطعية منهم بالإحسان بمن يسفّهم الملّ؛ أي كمن يضع في أفواههم رماداً حارّاً.[٧] إخوتي في الله: لو تساءلتم عن طرق وصل الأرحام وكيفية عدم قطعها؛ فهي كثيرة وكلّ منا يأخذ منها بحسب مقدوره؛ فصلة الرحم قد تكون بإعانة الفقير، وزيارة المريض، وتفقّد الكبير والعطف على الصّغير، وتكون أيضاً بمشاركتك أفراحههم وأحزانهم؛ فتفرح معهم وتغتمّ لمصابهم، وقد تصل رحمك أيضاً بسعيك في حاجاتهم، والدّعاء لهم ونُصحهم بالمعروف واللّين، ونهيهم عن المنكر.[١٠]



أمّا الصّدقة فهي خير ما تكون إن كانت لذوي القرابة،[١٠] وإنّ من أجمل صور صلة الرحم وأرقها على الإطلاق التّهادي على قدر المستطاع؛ فمن منا لا يحب الهدية صغيراً كان أم كبيراً، فقيراً كان أم غنيّاً، إذ إنَّ الهدية تؤثّر في القلوب وإن كانت صغيرة، وما هي إلّا دليل على المحبة والوفاء، فتهادوا تحابّوا أيّها المسلمون.[١١]



أيُّها الأخوة الكرام: أُحذر نفسي إيّاكم من الإفساد في الأرض؛ إذ إنَّ الله -تعالى- عدّ قطعية الأقارب من الإفساد في الأرض، فلنصل أرحامنا، ولنُعلّم أبناءنا على الوصل، ولنزرع ذلك في قلوبهم، ولنتذكر ما فعله المهلّب بن أبي صفرة عندما كان يجمع أولاده ويعلّمهم درساً عملياً، فيأمرهم بعصا واحدة ويكسرها أمامهم، ومن ثم يُحضر حزمة منها فلا تنكسر، ليقول لهم: "هكذا الجماعة، فأوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم، فإن صلة الرحم تُنْسِئُ في الأجل، وتثري المال، وتكثر العدد، وأنهاكم عن القطيعة فإن القطيعة تعقب النار، وتورث الذلة والقلة، تباذلوا وتواصلوا تحابوا، واجمعوا أمركم ولا تختلفوا، وتبارّوا تجتمع أموركم".[١٢] أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فيا فوز المستغفرين استغفروه وتوبوا إليه وهو الغفور الرّحيم.



الخطبة الثانية

الحمدلله ربّ العالمين، نحمده حمداً كثيراً، ونشهد أن لا إله إلّا هو وحده لا شريك له، ونصلّي ونسلّم على نبّينا وحبيبنا محمّد -صلّى الله عليه وسلّم-، وبعد، أيّها المسلمون: اعلموا أنّ الله -تعالى- مُطّلع على عباده، وأنّه يُحصي أعمالهم صغيرها وكبيرها، فلنتق الله في أنفسنا، وفي أهلينا، وفي ذوي القربى منا، ولنحذر من الهجر فإنّه ليس من شيم المسلم، ولنؤدي الحقوق إلى أصحابها كاملة، فلا نأتي يوم القيامة وقد ضيعنا حقاً من حقوق العباد، فاعملوا للآخرة الباقية عملاً يبقى ولا يفنى، فوالله ليندمنّ من خاصم وفجر يوم تتطاير الصّحف، فمنهم آخذ كتابه بالمين، ومنهم آخذه بالشّمال، وما ربّك بظلّام للعبيد.[١٣]


أيّها النّاس: إنّ الذّنوب استولت على القلوب فاسودّت، وإنّ البُغض قد غزا بين النّفوس فتغيّرت، فلنسارع إلى توبةٍ عاجلةٍ، ولنغسل عنا ذنوبنا، ولننزع عنا الحقد والحسد، ولنرحم فقيرنا وضعيفنا؛ فإنّ من يرحم يرحمه الله -تعالى-، ولا تظلموا فيصيبكم النّدم، وتاجروا بالأعمال الصّالحة فهي خير مغنم.[١٤] عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).[١٥]



الدعاء

  • اللهمّ صلّ وسلّم على نبيّك محمّد وعلى أصحابه وآله وأجعين، وارض اللهمّ عن الخلفاء الرّاشدين، أبي بكر، وعمر، وعثمان وعليّ، وارضَ اللهمّ عن الصحابة أجمعين، والتّابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدّين، اللهمّ أعزّ الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر هذا الدّين، اللهمّ دمر أعداء المسلمين، اللهمّ اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلّا أنت، واصرف عنّا سيّئها، لا يصرف عنّا سيّئها إلّا أنت، اللهمّ آت نفوسنا تقواها وزكّها أنت خير من زكّاها، أنت وليّها ومولاها.
  • اللهم أعنّا على صلة الرحم، وأعنّا على إعطاء أرحامنا حقوقها كاملة، ولا تجعل منا أو بيننا قاطعاً لرحمه، ولا ناقماً أو حاقداً على أقاربه، اللهم أذهب غيظ قلوبنا وطهرها على أرحمانا وأقاربنا.
  • اللهمّ اهد قلوبنا لطاعتك، اللهمّ اجمع شملنا، واجمع كلمتنا، ووحّد صفوفنا، اللهمّ فقّهنا في الدّين، ولا تكتبنا مع زمرة الغافلين، اللهمّ أصلح لنا قلوبنا التي هي عصمة أمرنا، اللهم تقبّل توبتنا، واغسل حوْبتنا، وثبّت حُجّتنا، وسدّد ألسنتنا، واسلل سخيمة قلوبنا، اللهمّ اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، اللهمّ اغفر ذنوبنا كلّها، دقّها وجلّها، صغيرها وكبيرها، علانيتها وسرّها، اللهمّ يا الله لا تجعل في قلوبنا غلّاً للذين آمنوا، واغفر لنا وارحمنا وتب علينا، إنّك أنت التّواب الرّحيم.
  • اللهمّ آمنّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهمّ وفقهم لسديد الأقوال وأحسن الأعمال، ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربّنا آتنا في الدّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النّار، وصلّ الله على سيدنا محمّد وآله وأصحابه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، أقم الصّلاة يا أخي.[١٦]


المراجع

  1. ^ أ ب مجموعة من المؤلفين (1423)، خطب مختارة (الطبعة 3)، المملكة العربية السعودية:وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، صفحة 227-228. بتصرّف.
  2. سورة البقرة، آية:281
  3. سورة النساء، آية:1
  4. الدخلاوي علال (28/8/2019)، "خطبة الأمر بصلة الرحم والتحذير من قطيعتها"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 21/6/2021. بتصرّف.
  5. سورة الرعد، آية:21
  6. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:5985، صحيح.
  7. ^ أ ب ت ث محمد بن عثيمين (1988)، الضياء اللامع من الخطب الجوامع (الطبعة 1)، صفحة 506، جزء 7. بتصرّف.
  8. سورة محمد، آية:22-23
  9. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عمرو، الصفحة أو الرقم:5991، صحيح.
  10. ^ أ ب علي الحذيفي (15/6/2009)، "فضل صلة الأرحام والتحذير من قطيعتها"، ملتقى الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 21/6/2021. بتصرّف.
  11. حسن الأزهري، دروس الشيخ حسن أبو الأشبال، صفحة 10. بتصرّف.
  12. أحمد صفوت، جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة، بيروت:المكتبة العلمية، صفحة 285، جزء 2.
  13. علي الحذيفي (7/3/2014)، "فضل صلة الرحم"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 21/6/2021. بتصرّف.
  14. محمد بن عبد الوهاب، الخطب المنبرية، صفحة 46. بتصرّف.
  15. سورة الأحزاب، آية:46
  16. عبد الرزاق البدر (2/7/2014)، "صلة الأرحام"، ملتقى الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 21/6/2021. بتصرّف.
3692 مشاهدة
للأعلى للسفل
×