مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي أوجب العلم على عباده المؤمنين، وجعلهم به من عباده المخلَصين، وأشهد أن لا إله إلا الله، الذي علّم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، الذي أنزل الكتاب، وجعل العناية به من أعلى المراتب، وجعل بالعلم منارات رشد وهداية للناس أجمعين، قال الله تعالى: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾.[١]
نحمده تعالى على آياته العظيمة، وعلى آلائه الجسيمة، ونصلّي ونسلّم على المعلّم المبعوث رحمةً للعالمين، بعثه الله -تعالى- عالمًا ومعلمًا، وهاديًا ومرشدًا، فأنار بعلمه الظلمات، ومحا به الجهل، فهو مصباح الدجى لكل سائر على درب الهداية، ومن حاد عن هداه، فلا أفلح ولا اهتدى.[٢]
الوصية بتقوى الله
معاشر المسلمين، أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله العلي العظيم، وملازمة أمره، والقيام على طاعته، وأحذرّكم ونفسي أن تخالفوا أمره، وأن تحيدوا عن دربه، فقد قال الله -تعالى-: (وَأَنَّ هـذا صِراطي مُستَقيمًا فَاتَّبِعوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبيلِهِ ذلِكُم وَصّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقونَ).[٣]
الخطبة الأولى
معاشر المسلمين، اعلموا أن العلم لا شيء مثله، يرفع صاحبه، ويورثه المحبة بين الناس، فاطلبوا العلم الخالص، بنية خالصةٍ صافيةٍ من الرياء، وحب ّالدنيا، وحبّ المناصب، فكم من الناس جاء إلى الدنيا ثم مضى، فذهب وباد، وبادت آثاره، وانمحى ذكره في الأرض، ولكن العلماء جاءوا إلى الدنيا، فذهبت أجسادهم وانمحت آثارهم.
ولكن علومهم ومؤلّفاتهم لم تزل حية، يستفيد منها القاصي والداني، وهذه هي الرفعة، قال الله -تعالى-: (يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)،[٤] فما من عالم إلا وبعد ذكره قد ترحّم الناس عليه، وأثنوا عليه خيرًا، وهذه ثمرة العلم في الدنيا، وثمرته في الآخرة جنة وسعت السماوات والأرض.
وإن العلم والتعلّم مقرونان بالخلق والتخلّق، ومن خلق العالم والمتعلم الإخلاص لله -تعالى- في طلب العلم، لا ليكون العلم للمجادلة والمراء، ولا ليماري به السفهاء، ويظهر الحذق به والمهارة أمام عوامّ الناس وخواصّهم، فمن فعل ذلك فقد عرض نفسه لغضب الله -تعالى- ولعقوبته.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ)،[٥] وإن العلم أشرف من أن يطلب به صاحبه الدنيا، أو أن يطلب به المال، فالعلم لا يطلب به إلا الجنة، لأن العلم يبقى، والجنة تبقى، أما الدنيا والمال فكلاهما فانيان، فلا يطلب بهما ما يبقى ويدوم.[٦]
قال الإمام النووي: "وينبغي أن لا يقصد به توصلا إلى غرض من أغراض الدنيا من مال أو رياسة أو وجاهة أو ارتفاع على أقرانه أو ثناء عند الناس أو صرف وجوه الناس إليه أو نحو ذلك".[٧]
عباد الله، إن الخلق الحسن من صفات الأنبياء، فقد امتدح الله تعالى به نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، فقال الله -تعالى-: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)،[٨] والعلماء هم ورثة الأنبياء، فينبغي أن يرثوا عنهم صفة حسن الخلق، وإن أجمل حلية يمكن أن يتحلى به العالم أو طالب العلم، هي حلية الخلق.
ولِحِرص رسول الله على ذلك كان يسأل الله أن يرزقه الخلق الحسن، فكان يقول: (وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ).[٩]
وقد جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سلوكه كل أوصاف الخلق الحسن، فكان الكريم والجواد، والسهل اللين، والعافي عن الناس، والمتبسم البشوش، وجعل هذه الأخلاق معايير للإيمان والإسلام، فبها يثقل الميزان، وبفقدانها يخف الميزان، وجعلها سببًا لدخول الجنة.
وجعل أدنى الناس مقربًة منه يوم القيامة أحسنهم خلقًا، فرفع من قيمة الخلق والأخلاق كثيرًا، واتصف بها، وعمل بكل ما أوصى به، قال عبد الله بن عمرو: (لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا).[١٠][١١]
معاشر المسلمين، لمّا كان العلم من أولويات الحياة، وجب تعلمه، ولكن قبل التعلم ينبغي على المتعلم أو على ذوي المتعلم الصغير أن يتعلم الخلق قبل العلم، لأن وجود العلم مع خلو صاحبه من الخلق مفسدة للعلم نفسه، فينبغي على كل من قرر طلب العلم، وشرع في التعلم أن يتوجه بقلبه وعقله إلى تعلم الأخلاق وممارستها.[١٢]
وإن لكل فنٍّ من الفنون آفات، وإن من آفات المتعلمين وطلبة العلم عدم التخلق ببعض الأخلاق الحميدة، ومن هذه الأخلاق غير الحميدة خلق التكبر، والإعراض عن أهل العلم لأي سبب من الأسباب التي تدعو إلى الكبر، وهذه من المزالق التي ينبغي أن يحذر منها طالب العلم، ويلزم ألا يتتبع مزالق العلماء، ولا يشهّر بها، وأن يغض الطرف عن بعض ما يصدر عنهم من الزلل الذي لا يخلو منه أحد.
وليعلم أن العالم مهما أوتي من العلم فإنّه يبقى ناقصًا؛ لأن الكمال لله -تعالى-، فلا يطلب منه الكمال، وليعلم طالب العلم أنّ لكل جواد كبوة، وأنّ لكل عالم هفوة، وأنّ العالم المخطئ إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ).[١٣][١٤]
معاشر المسلمين، على طالب العلم والعالم أن يتحلى بمكارم الأخلاق؛ وذلك من أجل أن يأخذ الناس منه إذا قصد إلى تعليمهم؛ لأنه إن لم يتصف بالخلق الحسن نبذه النّاس، وأعابوه، ولم يأخذوا عنه العلم، ولم يتبعوه، فالحرص كل الحرص على التّحلي بالخلق الحسن، وتصبير النفس على ذلك، وإرغامها على التّحلي بالخلق الحسن.
عباد الله، إن العلم هبة وعطية من الله -تعالى-، وأحوج الناس إلى توفيق الله -تعالى- هو طالب العلم؛ لأنه لا يريد من الله مغنمًا ولا درهمًا، ولكنه يريد ما عند الله -تعالى- من هبة العلم، ويبتغي الدار الآخرة، وما عند الله من النّعيم، وإن لم يكن طالب العلم حسن الخلق فربما منع الله عنه العلم، أو ربما لم يوفقه إلى المعلم أو الكتاب الحقّ، وربما وقع بين يدي معلم ضالّ يعلمه الضلالة لا الهداية والرشاد.[١٥]
وإنّ من حُسْن خلق العالم أنه لا يخالف ما يقول، فلا تكون أفعاله خلافًا لأقواله؛ كيلا تهتزّ ثقة الناس بالعلم والعلماء، فإن أمرَ بشيء التزم به، وإن أُمِرَ بشيء كان أسرع الناس إلى العمل به وتطبيقه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: (يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ مَا لَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ)،[١٦] ومعنى أقتابه؛ أي أمعاؤه.[١٧]
الخطبة الثانية
معاشر المسلمين، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ، فَأَنْكِحُوهُ، إلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ)،[١٨] وهذا الحديث فرّق بين الخُلق والدين، فقد يكون الرجل ديّنا، صواحب عبادة وعلم، وصاحب تقوى، ولكنه يفتقر إلى الخلق الحسن، فقد يتمتع الرجل، بدين وصلاح، ولكنه يفتقر إلى حسن المعاملة، وإلى الرفق، وإلى الحلم.[١٩]
وإن من حسن خُلق العالم والمتعلم أن يراعي أن يكون قدوةً لغيره من الناس، فإنّ النّاس تنظر إلى من اتّصفوا بالعلم نظرة تقديرٍ واحترام، ويرغبون في تقليد سلوكهم، فلا يكن صاحب العلم قدوة سوء لغيره، فإنّ النّاس سرعان ما تقتدي بالمعلم، وتوليه الاهتمام.
وإنّ النّاس لا سيما المتعلمين ليقتدون بأهل العلم في السلوك، وفي الأخلاق، والتعامل مع النّاس، أكثر من اقتدائهم بهم في العلم، ويأخذون عنهم السلوك أكثر من المعلومات،[٦] قال الله -تعالى-: (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ).[٢٠]
الدعاء
- اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، (سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).[٢١]
- اللهم يا معلم إبراهيم علمنا، ويا مفهم سليمان فهمنا.
- اللهم فرِّج همَّ المهمومين، ونفِّس كرب المكروبين، اللهم اشفِ مرضانا، ومرضى المسلمين، يا رب العالمين.
- اللهم اغفر لموتانا وموتى المسلمين، اللهم ضاعف حسناتهم وتجاوز عن سيئاتهم، يا أرحم الراحمين.
- اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين.
- اللهم انصر المجاهدين المؤمنين في كل مكان، اللهم كن لهم وليًّا ونصيرًا، ومُعينًا وظهيرًا.
عباد الله، إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكّرون، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
المراجع
- ↑ سورة الرحمن، آية:3-4
- ↑ د. محمد بن سعد الدبل (22/12/1433)، "فضل العلم (خطبة)"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 30/9/2021. بتصرّف.
- ↑ سورة الأنعام، آية:153
- ↑ سورة المجادلة، آية:11
- ↑ رواه الترمذي، في السنن، عن كعب بن مالك، الصفحة أو الرقم:2376 ، حسن صحيح.
- ^ أ ب محمد بن صالح بن عثيمين (24/12/1429)، "الحث على طلب العلم "، الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 30/9/2021. بتصرّف.
- ↑ النووي (1414)، التبيان في آداب حملة القرآن (الطبعة 3)، بيروت - لبنان:دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، صفحة 34. بتصرّف.
- ↑ سورة القلم، آية:4
- ↑ رواه مسلم، في الصحيح، عن علي بن أبي طالب، الصفحة أو الرقم:771، صحيح.
- ↑ رواه البخاري، في الصحيح، عن عبدالله بن عمرو، الصفحة أو الرقم:3559 ، صحيح.
- ↑ أ. عبدالعزيز بن أحمد الغامدي (22/4/1439)، "خطبة قصيرة عن الأخلاق الحسنة"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 30/9/2021. بتصرّف.
- ↑ الأستاذ راغب القباني (15/8/1437)، "لأخلاق والعلم الأخلاق والعلم "، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 30/9/2021. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في الصحيح، عن عمرو بن العاص، الصفحة أو الرقم:7352 ، صحيح.
- ↑ محمد نصر الدين محمد عويضة، فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب، صفحة 12، جزء 9. بتصرّف.
- ↑ أحمد بن يوسف بن محمد الأهدل، الأخلاق الزكية في آداب الطالب المرضية، صفحة 22. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم، في الصحيح، عن أسامة بن زيد، الصفحة أو الرقم:2989، صحيح.
- ↑ القاضي عياض (1419)، إكمال المعلم بفوائد مسلم (الطبعة 1)، مصر: دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، صفحة 538، جزء 8. بتصرّف.
- ↑ رواه المستدرك على الصحيحين، في الحاكم، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:2695، صحيح الإسناد.
- ↑ خالد بن سعود البليهد (26/6/1435)، "علاقة الدين بالخلق "، صيد الفوائد، اطّلع عليه بتاريخ 4/10/2021. بتصرّف.
- ↑ سورة آل عمران، آية:193
- ↑ سورة البقرة، آية:32