مقدمة الخطبة
الحمد لله الواحد القهار، مُدبّر الأمور مصرف الأحوال، رب المشارق والمغارب العزيز الغفار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده، ورسوله، وصفيه، وخليله، وأمينه على وحيه ومبلّغ الناس شرعه، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.[١]
الوصية بتقوى الله
عباد الله، أُوصِيكَم وَنفسِي بِتقوَى اللَّه سبحانه، فإِنّهُ (مَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)،[٢] وقد قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)،[٣] جعلنا الله وإياكم من المتّقين.[٤]
الخطبة الأولى
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الخلق والمرسلين سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
أنعم الله تعالى على المسلمين باختصاص بعض الأمكنة والأزمنة بفضل وعناية؛ ليزيد من يراعي حرمتها فضلًا وإحسانًا، ومن هذه الأزمنة الفاضلة شهر الله المحرّم، فهو إحدى الأشهر الحُرُم التي نهى الله -تعالى- فيها الإنسان أن يظلم نفسه؛ إذ إنّها أبلغ وآكد في الإثم من غيرها، فالله -تعالى- يقول: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ}،[٥] وقد قال ابن عباس -رضي الله عنه- في هذه الآية: "اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهنَّ حرامًا، وعظَّم حرماتِهنَّ، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم".[٦]
أيّها النّاس، فلتعلموا أن أهل الجاهلية كانوا يسمّون شهر محرم شهرَ الله الأصم؛ لشدة تحريمه، وفضائل هذا الشهر عديدة، فيُستحب فيه الإكثار من صيام النَّافلة؛ فقد قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: (أَفْضَلُ الصِّيامِ، بَعْدَ رَمَضانَ، شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمُ)،[٧] وقال ابن رجب -رحمه الله: سمّى النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- هذا الشهر بشهر الله المحرم، واختصه بإضافته إلى الله، وهذا يدلّ على شرفه وفضله العظيم، ولما كان ذلك ناسب أن يَختص هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إلى الله والمختص به؛ وهو الصوم.[٦]
وقال ابن رجب أيضًا رحمه الله: "من صام من ذي الحجة، وصام من المحرم، خَتَم السنة بالطاعة، وافتتحها بالطاعة، فيُرجى أن تكتب له سنته كلها طاعة، فإنَّ من كان أول عمله طاعة، وآخره طاعة، فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين"، وفي هذا الشهر العظيم يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من الشهر، فله فضل عظيم، حيث قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (وَصِيَامُ يَومِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ علَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبْلَهُ).[٨][٦]
عباد الله، لقد صام رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- هذا اليوم تعظيمًا وتشريفًا له، فهو يومٌ معظم منذ زمن بعيد، فأتباع نبي الله موسى -عليه السلام- كانوا يتّخذون يوم عاشوراء عيدًا لهم، فكانوا يصومون فيه ويعظّمونه؛ وذلك لأنه اليوم الذي نجّى الله به موسى -عليه السلام- من فرعون وقومه، فقد قال ابن عباس -رضي الله عنه-: (قَدِمَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- المَدِينَةَ فَرَأَى اليَهُودَ تَصُومُ يَومَ عاشُوراءَ، فَقالَ: ما هذا؟ قالوا: هذا يَوْمٌ صَالِحٌ، هذا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إسْرَائِيلَ مِن عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قالَ: فأنَا أحَقُّ بمُوسَى مِنكُمْ، فَصَامَهُ، وأَمَرَ بصِيَامِهِ).[٩][٦]
فهو اليوم الذي نجّى الله به نبيّه موسى -عليه السلام- لمّا أوحى إليه -تعالى- أن يخرج بقومه ليلًا من مصر، فتبعه فرعون وجنوده وساروا في أثره، فلمّا وصلوا عند الماء أمر الله موسى أن يضرب فيها، فانفلق البحر اثني عشر طريقًا، فعبر موسى -عليه السلام- ومن معه الماء، وما أن خرج قوم موسى إلا وقوم فرعون يحاولون الدخول في البحر، فأطبق الله البحر على فرعون ومن معه وكانوا من الهالكين المُغرقين، فبقي بني إسرائيل يصومون هذا اليوم من كل سنة لأن الله -تعالى- نجّى به موسى عليه السلام.[١٠]
وقد كان النصارى أيضًا يعظّمون هذا اليوم، حتى إن قريشاً بالرغم مم اكانوا عليه من الوثنية وعبادة الأصنام، إلا أنهم كانوا يصومون يوم عاشوراء ويُعظّمونه، تقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهليَّة، وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يصومه في الجاهلية"، فالمسلمين أحقّ من غيرهم بصيام هذا اليومونيل الأجر والثواب، اتّباعًا لهدي رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-.[٦]
عباد الله، إن صيام هذا اليوم من المستحبات التي ينبغي على المسلم المسارعة لفعلها، وهو ليس واجب باتّفاق أهل العلم، فهو في شهر محرم الذي يعد صيامه نافلة وسنّة، وهو اليوم الذي كان رسول الله يتحرى صيامه، فهو يكفر السنة التي تسبقه، وكان أصحاب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- من أشد الناس حرصًا على صيام هذا اليوم، وكانوا يعلّمون صبيانهم وأطفالهم أهمية الصيام في هذا اليوم.[٦]
أيّها المسلمون، أكّد رسولنا -صلّى الله عليه وسلّم- على فضل الصيام في شهر محرم، وقد بيّن في أحاديث عديدة فضل الصيام في عاشوراء، واستحباب صيام اليوم التاسع من محرم أيضاً، فقد قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (لَئِنْ بَقِيتُ إلى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ)،[١١] وروى ابن عباس فقال: (حِينَ صَامَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- يَومَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بصِيَامِهِ قالوا: يا رَسولَ اللهِ، إنَّه يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-: فَإِذَا كانَ العَامُ المُقْبِلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا اليومَ التَّاسِعَ قالَ: فَلَمْ يَأْتِ العَامُ المُقْبِلُ، حتَّى تُوُفِّيَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-).[١٢][١٣]
الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتَّقين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، معشر المسلمين، يقول الله -تعالى-: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ)،[٥] إنّ نعم الله -تعالى- تُقابل بالطاعة والشكر والعبادة، فموسى -عليه السلام- قابل نعمة الله عليه وهي النجاة من فرعون وإهلاكه بالصيام شكرًا له -تعالى-.[١٤]
ولا شك أن المسلم متميّز بعقيدته، وإيمانه، ومبادئه، فلمّا رأى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أن اليهود يصومون عاشوراء، صامه وأمر بصيامِه، فالمسلمون أولى بالعمل الصالح، وأما الحكمة من صيام اليوم التاسع فقد ذكره النووي -رحمه الله-، حيث قال: "قال بعض العلماء ولعل السبب في صوم التاسع مع العاشر ألا يتشبه باليهود في إفراد العاشر، وفي الحديث إشارة إلى هذا، وقيل للاحتياط في العبادة والأول أولى، والله أعلم".[١٤]
أيها المسلمون: يقول -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)،[١٥]اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين واجمعنا معهم بعفوك ومنّك وكرمك يا أرحم الراحمين.[١٤] أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
الدعاء
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، واستر لنا عيوبنا، وتجاوز عن زلاتنا، اللهم فرج كرباتنا، وارفع عنا الذلة والمهانة، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم وفّقنا لعمل الصالحات والصيام والطاعات، وأنزل علينا البركات، واغفر لنا الخطايا والسّيئات. اللهم إنا نسألك نصراً للإسلام والمسلمين، اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، اللهم رحمتك نرجو فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وأصلح لنا شأننا كله، لا إله إلا أنت، اللهم إنا نسألك الجنة ونعيمها، ونعوذ بك من النار وجحيمها، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله.
المراجع
- ↑ "محرم وعاشوراء دروس وعبر"، صيد الفوائد ، اطّلع عليه بتاريخ 25/6/2021. بتصرّف.
- ↑ سورة الطلاق، آية:2-3
- ↑ سورة آل عمران، آية:102
- ↑ أبو الحسين الكلابي، أحاديث أبو الحسين الكلابي، صفحة 24. بتصرّف.
- ^ أ ب سورة التوبة، آية:36
- ^ أ ب ت ث ج ح "عاشوراء وشهر الله المحرم"، الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 25/6/2021. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:1163، حديث صحيح.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبو قتادة الحارث بن ربعي، الصفحة أو الرقم:1162، حديث صحيح.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح بخاري، عن ابن عباس، الصفحة أو الرقم:2004، حديث صحيح.
- ↑ ابن عثيمين، الضياء اللامع من الخطب الجوامع، صفحة 309. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عباس، الصفحة أو الرقم:1134، حديث صحيح.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عباس، الصفحة أو الرقم: 1134، حديث صحيح.
- ↑ مجموعة من المؤلفين، خطب المسجد النبوي، صفحة 1. بتصرّف.
- ^ أ ب ت "خطبة شهر الله المحرم ويوم عاشوراء"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 25/6/2021. بتصرّف.
- ↑ سورة الأحزاب، آية:56