مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي فرض على عباده الصيام، وجعله مطهراً لنفوسهم من الذنوب والآثام، نحمده -تعالى- ونستغفره ونتوب إليه، ونشهد أنْ لا إله إلا الله، ونشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمَّة، فتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلاّ هالك، (إِنَّ اللَّـهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).[١]
الوصية بتقوى الله
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته، وأحذِّركم وإياها من مخالفة أمره وعصيانه، لقوله عزَّ من قائل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).[٢]
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)،[٣] فأركان الإسلام خمسة، ومنها صيام رمضان، شرعه الله -تعالى- رحمة بالعباد، وإحسانا منه، وجُنة للمؤمنين، فهو شهر تكثر فيه الفضيلة، ولهذا قال -تعالى- معقّبا: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).[٣][٤]
معشر المسلمين، إن صيام رمضان هو مفتاح شكر لله -تعالى-؛ يقول -تعالى- في آيات الصيام: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).[٥]
ذلك أن معظم الناس لا يستشعرون قيم النعم التي يعيشونها بسبب أُلفتهم لها، إلا أن الجوع الذي يشعرون به أثناء الصيام يجعلهم يستشعرون درجة النعمة الموجودة حتى في كسرة خبز، وبخاصة إن كانوا أثرياء.[٦]
فيخاطب الإنسان نفسه: إن هذه المطعومات والمشروبات ليست لي، بل تعود إلى الله -جلّ وعلا- وهي أصلاً من إنعامه وكرمه، وأنا الآن أؤدي أوامره، فيصبح الصوم مفتاح شكر بجهات شتى، وذلك الشكر الذي هو وظيفة الإنسان الحقيقية.[٦]إخواني المؤمنين، إن لصوم رمضان حِكَماً وفضائل كثيرة:[٧]
- الحكمة الأولى متعلقة بالحياة الاجتماعية
حيث إنّ الأغنياء يمدون أيديهم لمعاونة الفقراء، ويعيشون بعض مما يعيشه الفقراء من الجوع طوال العام في شهر كامل، فيتولّد لديهم إحساس بالرأفة عليهم.
- الحكمة الثانية هي تربية النفس
حيث تدرك النفس أنها عبدة مأمورة وليست حرة طليقة، وليست مالكة لذاتها، بل لها مالك حقيقي، فلا تستطيع أن تمدّ يدها حتى إلى الماء دون إذن ربها، فينكسر غرورها وتؤدي وظيفتها الأساسية؛ وهي عبادة الله -تعالى- وشكره.
- الحكمة الثالثة هي تهذيب النفس الأمارة بالسوء
إذ تدرك نفسه مدى ضعفها وعجزها وفقرها، وتدرك مدى حاجاتها مقارنة بحالها الضعيف العاجز، فتلتجئ إلى الله، وتطلب المغفرة من ربها الرحيم.
- الحكمة الرابعة متعلقة بالقرآن الكريم
إذ من المعلوم أنّ القرآن الكريم نزل في رمضان، فلا بد من التجرد عن الدنيا واستحضار وقت نزول القرآن وتلاوته كأنه يتنزّل مجدداً، فيُصبح العالم الإسلامي بمثابة مسجد عظيم، في كل ركن من أركانه ملايين الحفاظ والقراء يرتلون آيات ربهم، فيظهرون بصورتهم الرائعة هذه مصداق الآية الكريمة: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ).[٥]
- الحكمة الخامسة متعلقة بكسب الإنسان الثواب الجزيل
ففي رمضان يتضاعف ثواب الأعمال، وتتزايد الحسنات، حتى تبلع الآلالف في ليلة القدر، فيصبح شهر رمضان بمثابة معرض للتجارة الأخروية، يُمنح الإنسان فيه ربحاً عظيماً، وثمرات باقية وعمرا سرمديا، وكون ليلة القدر خير من ألف شهر فهي تمنح ثمرات ثمانين سنة في ليلة واحدة، وهذا من فضل الله وواسع رحمته بعباده.
وقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فضائل كثيرة لرمضان، منها:[٨]
- رمضان شهر العتق من النار، يقول -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ للهِ تعالى عند كلِّ فطرٍ عُتَقاءَ من النارِ، وذلك في كلِّ ليلةٍ).[٩]
- فيه ليلة القدر، يقول -صلى الله عليه وسلم-: (إن هذا الشهرَ قد حضركم، وفيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ، من حُرِمَها فقد حُرِمَ الخيرَ كُلَّهُ، ولا يُحْرَمُ خيرَها إلا كُلُّ محرومٍ).[١٠]
- رمضان من أعظم الأوقات التي يُغفر فيها الذنوب، يقول -صلى الله عليه وسلم-: (قال لي جبريلُ: رغِمَ أنفُ عبدٍ أدرك أبوَيه أو أحدَهما لم يُدخِلْه الجنةَ، قلتُ: آمين ثم قال: رَغِمَ أنفُ عبدٍ دخل عليه رمضانُ لم يُغفَرْ له، فقلتُ: آمين ثم قال: رَغِمَ أنفُ امريءٍ ذُكِرتُ عندَه فلم يُصَلِّ عليك، فقلتُ: آمين).[١١]
- تصفد فيه الشياطين، يقول -صلى الله عليه وسلم-: (إذا كان رمضان فتحت أبواب الرحمة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين).[١٢]
- من صام رمضان وقامه كان من الصديقين والشهداء، فقد جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ- فقالَ: يا رسولَ اللهِ (أرأيتَ إن شَهدتُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّكَ رَسولُ اللهِ وصلَّيتُ الصَّلواتِ الخمسِ وأدَّيْتُ الزَّكاةَ وصُمْتُ رمضانَ وقُمْتُه فمِمَّنْ أنا؟ قال: من الصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ).[١٣]
- صلاة التراويح وقيام رمضان هي مما اختص به رمضان، فهي مغفرة للذنوب، يقول -صلى الله عليه وسلم-: (مَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ)،[١٤] فلو كان على الإنسان ذنوب تمحى كلها بسبب صلاة القيام، أما إن لم يكن عليه ذنب فترتفع درجته.[١٥]
ومما لا شك فيه أن أفضل أوقات الاعتكاف هي العشر الأواخر من رمضان، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- واظب على الاعتكاف فيها، وكان يقضي ما يفوته منها، فعن أنس بن مالك قال: (كانَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- يعتَكفُ في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ فلم يعتَكف عامًا فلمَّا كانَ في العامِ المقبلِ اعتَكفَ عشرينَ)،[١٦] فحرص الرسول -صلى الله عليه وسلم- على هذه الأيام يدل على عظيم فضلها عند الله -تعالى-.[١٧]
ومن الأعمال التي لها عظيم الأجر في رمضان؛ الصدقة، ذلك أن إعطاء الفقراء وتفقد ذوي القربى رغبة فيما عند الله من الخير يعدّ من حسن الظن بالله، فما تعطيه بيدك يخلفه الله -جل وعلا- عليك.[١٨]
ومن الأعمال التي يتضاعف فيها الأجر في رمضان أداء العمرة، فالعمرة فيه تعدل حجة، قالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- لاِمْرَأَةٍ مِنَ الأنْصَار: (ما مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّي معنَا؟ قالَتْ: لَمْ يَكُنْ لَنَا إلَّا نَاضِحَانِ فَحَجَّ أَبُو وَلَدِهَا وَابنُهَا علَى نَاضِحٍ وَتَرَكَ لَنَا نَاضِحًا نَنْضِحُ عليه، قالَ: فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي، فإنَّ عُمْرَةً فيه تَعْدِلُ حَجَّةً)،[١٩] وهذا ليس خاصا بالمرأة وحدها بل هو عام لجميع المسلمين.[٢٠]
وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، وادعوه يستجب لكم، إنه هو البر الكريم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد عباد الله، إنّ صيام رمضان المبارك له فوائد جمة، وفضائله عظيمة، فلنحرص على اغتنامه، ولنحذر أن يفوتنا الشهر ولم يغفر لنا، ولنملأ أوقاتنا بالقرآن، ولا نفوّت ركعات القيام فإنها سبيلنا إلى الجنان، ولنبسط أيدينا، ونشبع فقراءنا، ولنحسن إلى أقربائنا، فإن أفضل الصدقة في رمضان.
وقد خلق الله -سبحانه وتعالى- الأرض مائدة مليئة بأنواع النعم التي لا حد لها، وأعدّها إعداداً متقناً لا مثيل له، فالله -سبحانه وتعالى- يظهر بكثرة هذه النعم وتنوعها كمال ربوبيته وسعتها وشمولها جميع الكائنات، لكن الإنسان بغفلته قد لا يرى هذا الإنعام الدال على رحمته -سبحانه- وكرمه المطلقين.[٢١]
أما في شهر رمضان المبارك يتنبّه الناس إلى هذه الحقيقة، ويزداد شوقهم إلى تلبية أوامر ربهم الكريم، مستشعرين حقيقة رحمته -تعالى- وكرمه، فيقابلون تلك الرحمة الواسعة بعبودية سامية عظيمة.[٢١]
الدعاء
- اللهم صل على سيدنا محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم.
- اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، وللمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
- اللهم أعنا على الصيام والقيام، وغض البصر وحفظ اللسان.
- اللهم بلغنا رمضان، وتقبل صيامنا وقيامنا.
- اللهم اجعلنا من عتقاء شهر رمضان.
- "اللّهمّ ربَّنا لك الحمد، أنت قيوم السموات والأرض، ولك الحمد أنت ربُّ السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحقّ، وقولك الحقّ، ووعدك الحقّ، ولقاؤك الحقّ، والجنة حقّ، والنار حقّ، والساعة حقّ".
- "اللهمَّ لك أسلمنا، وبك آمنا، وعليك توكلنا، وإليك خاصمنا، وبك حاكمنا، فاغفر لنا ما قدمنا وما أخَّرنا، وأسررنا وأعلنا، وما أنت أعلم به منِّا، لا إله إلا أنت".
عباد الله، إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكّرون، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
المراجع
- ↑ سورة الأحزاب، آية:56
- ↑ سورة الحجرات، آية:13
- ^ أ ب سورة البقرة، آية:183
- ↑ مجموعة من المؤلفين، خطب مختارة، صفحة 183. بتصرّف.
- ^ أ ب سورة البقرة، آية:185
- ^ أ ب سعيد النورسي، المكتوبات، صفحة 504-505. بتصرّف.
- ↑ سعيد النورسي، المكتوبات، صفحة 510. بتصرّف.
- ↑ سعيد بن وهب القحطاني، فضائل الصيام وقيام صلاة التراويح، صفحة 39-49. بتصرّف.
- ↑ رواه الألباني ، في صحيح الجامع ، عن جابر بن عبد الله وأبي أمامة، الصفحة أو الرقم:2170، حسن.
- ↑ رواه الألباني، في تخريج مشكاة المصابيح، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم:1905، إسناده حسن.
- ↑ رواه الألباني، في صحيح الأدب المفرد، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:502، حسن صحيح.
- ↑ رواه مسلم ، في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:1079، صحيح.
- ↑ رواه الألباني، في صحيح الترغيب، عن عمرو بن مرة الجهني، الصفحة أو الرقم:361، صحيح.
- ↑ رواه البخاري ، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:37، صحيح.
- ↑ محمد حسين يعقوب، أسرار المحبين في رمضان، صفحة 200. بتصرّف.
- ↑ رواه الألباني، في صحيح الترمذي، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم:803، صحيح.
- ↑ سعيد بن وهب القحطاني، الصيام في الإسلام في ضوء الكتاب والسنة، صفحة 463. بتصرّف.
- ↑ صالح المغامسي، دروس للشيخ صالح المغامسي، صفحة 5. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم ، في صحيح مسلم، عن عبدالله بن عباس، الصفحة أو الرقم:1256، صحيح.
- ↑ مجموعة من المؤلفين، الموسوعة الفقهية، صفحة 322. بتصرّف.
- ^ أ ب سعيد النورسي، المكتوبات، صفحة 503 -504. بتصرّف.