مقدمة الخطبة
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هادي له، الحمد لله الذي وعد عباده الصادقين الذي يجاهدون في سبيله بجنات النعيم، والحياة الأبدية في الآخرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد ان مُحمداً عبده ورسوله.
الوصية بتقوى الله
عباد الله، أوصيكم ونفسي المُقصرة بتقوى الله ولُزوم طاعته، وأُحذركم ونفسي من مُخالفته وعصيان أوامره، فتقوى الله وصيته لعباده، لقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ* يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَـكِنَّ عَذَابَ اللَّـهِ شَدِيدٌ).[١]
الخطبة الأولى
أيها الناس، يُطلق الشهيد في الاصطلاح على مَنْ مات من المُسلمين في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، وعند نُزول أول قطرةٍ من دمع يغفر الله له جميع ذُنوبه، وتكون روحه في حواصل طير خُضر، وينال الكرامة من الله -تعالى-، لقول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (ما أحَدٌ يَدْخُلُ الجَنَّةَ يُحِبُّ أنْ يَرْجِعَ إلى الدُّنْيا وله ما علَى الأرْضِ مِن شيءٍ إلَّا الشَّهِيدُ، يَتَمَنَّى أنْ يَرْجِعَ إلى الدُّنْيا، فيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِما يَرَى مِنَ الكَرامَةِ)،[٢] كما يُشفع في سبعين من أهل بيته.[٣]
عباد الله، اعلموا أن الشهداء خيرُ عباد الله وصفوته، وقد وعدهم بالفوز العظيم يوم القيامة، بقوله: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)،[٤] وقد يظُنُّ البعض أن الشهيد هو من يموت في قتال الأعداء، وساحات الجهاد.[٥]
ولقد بيّن النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- أن هُناك أنواعاً عديدةٍ من الشُهداء، كمن مات بالطاعون، والغريق، وورد ذلك بقوله: (ما تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ؟ قالوا: يا رَسولَ اللهِ، مَن قُتِلَ في سَبيلِ اللهِ فَهو شَهِيدٌ، قالَ: إنَّ شُهَداءَ أُمَّتي إذًا لَقَلِيلٌ، قالوا: فمَن هُمْ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: مَن قُتِلَ في سَبيلِ اللهِ فَهو شَهِيدٌ، ومَن ماتَ في سَبيلِ اللهِ فَهو شَهِيدٌ، ومَن ماتَ في الطَّاعُونِ فَهو شَهِيدٌ، ومَن ماتَ في البَطْنِ فَهو شَهِيدٌ، قالَ ابنُ مِقْسَمٍ: أشْهَدُ علَى أبِيكَ في هذا الحَديثِ أنَّه قالَ: والْغَرِيقُ شَهِيدٌ. وفي رواية : قالَ عُبَيْدُ اللهِ بنُ مِقْسَمٍ، أشْهَدُ علَى أخِيكَ أنَّه زادَ في هذا الحَديثِ ومَن غَرِقَ فَهو شَهِيدٌ).[٦][٥]
وورد في الأحاديث أيضاً؛ من يموت بالسل، والمرأة تموت جمعاء، ومن يهدم بيته عليه، والنفساء، ومن قُتل وهو يدافع عن ماله، أو عرضه، أو دمه، أو دينه، قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قُتِلَ دُونَ مالِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ أهلِهِ فهوَ شَهيدٌ)،[٧][٨] وسيدُ الشُهداء جميعهم هو حمزة بن عبد المُطلب -رضي الله عنه-، ثُمّ من استُشهد في يوم بدر، ثُمّ شُهداء الصحابة الكرام.[٥]
عباد الله، إنّ ما يتعلق بالشهيد من أحكام فإنها تختلف عن أي ميت آخر؛ فهو لا يُغسل كباقي الأموات، فقد أمّر النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- الصحابة الكرام في يوم أُحد ان لا يُغسلوا الشُهداء؛ ليأتي يوم القيامة بدمه ورائحته رائحة المسك، حتى وإن كان الشهيد على جنابة، كما أنه يُكفن في ثيابه ولا تُنزعُ عنه.[٥]
وأمّا من حيثُ أقسام الشُهداء فهم على ثلاثة أقسام، الأول: شهيد الدُنيا؛ وهو الذي يُقاتلُ رياءً، فهو يُعامل في الدُنيا كالشُهداء، ولكنه في الآخرة ليس له أجر الشهيد، وأمّا القسم الثاني: فهم شهداء الآخرة؛ وُهم أنواع الشُهداء ما عدا شهيد المعركة؛ فهو يُعاملون في الدُنيا كباقي الأموات من حيث التغسيل والتكفين، ولكنهم في الآخرة لهم أجر الشُهداء، وأمّا القسم الثالث؛ فهم شُهداء الدُنيا والاخرة، وهُم الذي يستشهدون في سبيل الله.[٩][٥]
أيها المسلمون، لقد بيّن الصحابة أن هُناك بعض الشُهداء من يكون في النار، كمن يأخذ من الغنائم قبل أن تُقسم، فقد أخذ بعض من جاهد مع النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- بعض الغنائم قبل أن تُقسم؛ فأخبر النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- أنها تُشعل عليه ناراً.[٥]
أو مَنْ يُقاتل رياءً وسُمعة، ولأجل كلام الناس ومدحهم، لقول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَومَ القِيامَةِ عليه رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: قاتَلْتُ فِيكَ حتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ قاتَلْتَ لأَنْ يُقالَ: جَرِيءٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ)،[١٠] وهذا يدعو المُسلم إلى الصدق والإخلاص في جهاده وعمله، وجاء في بعض الروايات أن من سأل الله -تعالى- الشهادة بصدق، نال منازل الشُهداء وإن مات على فراشه.[٥]
أيها الأخوة الفضلاء، إنّ مقامُ الشُهداء يوم القيامة من أعلى المقامات وأرفعها، وذكر الإمامُ النوويّ أن السبب في تسمية الشهيد بهذا الاسم؛ لأن ملائكة الرحمة تشهد لأرواحهم وتأخُذها، وقيل: لأنه يشهد عند خُروج روحه ما أعده الله -تعالى- له من الثواب والكرامة، وقيل: لأن الله وملائكته يشهدون له بالجنة، وقيل: لأنه يبقى حياً بعد استشهاده، فتبقى أرواحهم شاهدة، وقد قال الله -تعالى- في بيان حالهم: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّـهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ).[١١][١٢]
فالشهادةُ اختيارٌ واصطفاءٌ من الله -تعالى- لبعض عباده، وكُل ميتٍ يودُ لو أنه يعودُ للدُنيا إلا الشهيد؛ فإنه لا يتمنى العودة؛ لما يرى من الأجر الكبير الذي أعده الله -تعالى- له، بل يتمنى لو أنه يرجع إلى الدُنيا ليُقتل ويستشهد مرةً أُخرى.[١٢]
فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (للشَّهيدِ عِندَ اللَّهِ ستُّ خصالٍ: يُغفَرُ لَه في أوَّلِ دَفعةٍ ويَرى مقعدَه منَ الجنَّةِ ويُجارُ مِن عذابِ القبرِ ويأمنُ منَ الفَزعِ الأكبرِ ويُوضعُ علَى رأسِه تاجُ الوقارِ الياقوتةُ مِنها خيرٌ منَ الدُّنيا وما فِيها ويزوَّجُ اثنتَينِ وسبعينَ زَوجةً منَ الحورِ العينِ، ويُشفَّعُ في سبعينَ مِن أقاربِه)،[١٣] ومن أعظم الخِصال التي ينالُها الشهيد أنّ هلا يتألم عند موته، قال -صلى الله عليه وسلم-: (ما يجِدُ الشهيدُ من مَسِّ القتْلِ،إلَّا كَما يجدُ أحدُكمْ من مسِّ القرْصةِ)،[١٤] وفي يوم بدر قال النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- للصحابة الذين معه: (...قُومُوا إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ).[١٥][١٦]
الخطبة الثانية
عباد الله، يكفي الشهيد كرامةً؛ أن النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- تمنى أن يكون شهيداً، وأن يُقتل في سبيل الله مراتٍ عديدةٍ،[١٧] وللشهيد في الجنة مئة درجة، كما أخبر بذلك النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (إنَّ في الجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّها اللَّهُ لِلْمُجاهِدِينَ في سَبيلِ اللَّهِ، ما بيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كما بيْنَ السَّماءِ والأرْضِ)،[١٨] وله أجر الصائم القائم، كما أنهم لا يُصعقون عند النفخ في الصور.[١٧]
عباد الله، اعلموا أن الشهادة من أعظم الثمرات، وتأتي في المرتبة الثالثة بعد الأنبياء والصديقيين، لقوله -تعالى-: (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)،[١٩] وينالون بشهادتهم الأجر العظيم ويبقون أحياءً بعد استشهادهم،[٢٠] ورأى النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- داراً حسنة، فسأل عن أصحابها، فأخبروه أنها دار الشُهداء.[٢١]
الدعاء
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة:
- اللهم أحينا سُعداء، وأمتنا شُهداء، اللهم ارزقنا منازل الشُهداء.
- اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، واحشرنا مع الأنبياء والصالحين.
- اللهم تقبّل منّا أعمالنا، وأعنّا على أنفسنا، وثبّت أقدامنا، ولا تحرمنا أجر عبادك المجاهدين.
- اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قُلوبنا، وكره إلينا الكُفر، والفُسوق، والعصيان، واجعلنا من عبادك الراشدين المُخلصين.
- سُبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامُ على المُرسلين، والحمدُ لله رب العالمين.
عباد الله، إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكّرون، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
المراجع
- ↑ سورة الحج، آية:1-2
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم:2817، صحيح.
- ↑ طه أحمد (29-9-2015)، "الشهيد في الإسلام (خطبة)"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 15/8/2021. بتصرّف.
- ↑ سورة التوبة، آية:111
- ^ أ ب ت ث ج ح خ مهران نوري (1-3-2012)، "فضل الشهادة في سبيل الله (2)"، ملتقى الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 15/8/2021. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:1915، صحيح.
- ↑ رواه الترمذي، في سنن الترمذي، عن سعيد بن زيد، الصفحة أو الرقم:1421، صحيح.
- ↑ الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، مجلة البحوث الإسلامية، صفحة 323، جزء 41. بتصرّف.
- ↑ "أنواع الشهداء"، الموقع الرسمي للشيخ محمد صالح المنجد، اطّلع عليه بتاريخ 16/8/2021. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:1905، صحيح.
- ↑ سورة آل عمران، آية:169-171
- ^ أ ب أحمد المقدسي (1988)، فضل الجهاد والمجاهدين (الطبعة 1)، صفحة 76، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ رواه الألباني، في صحيح الترمذي، عن المقدام بن معدي كرب ، الصفحة أو الرقم:1663، صحيح.
- ↑ رواه الألباني، في صحيح الجامع، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:5813، حسن.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم:1901، صحيح.
- ↑ مهران نوري (1-3-2012)، "فضل الشهادة في سبيل الله (1)"، ملتقى الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 15/8/2021. بتصرّف.
- ^ أ ب أحمد أبو عيد (3-11-2015)، "الشهادة في سبيل الله تعالى (خطبة)"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 15/8/2021. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:2790، صحيح.
- ↑ سورة النساء، آية:69
- ↑ سعيد حوّى (1994)، الأساس في السنة وفقهها العبادات في الإسلام (الطبعة 1)، صفحة 3335-3337، جزء 7. بتصرّف.
- ↑ سلمان العودة، دروس للشيخ سلمان العودة، صفحة 26، جزء 62. بتصرّف.