مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي خلق السَّماوات والأرض، وجعل الظُّلمات والنُّور، وفضَّل العلم على الجهل، فهو القائل: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)،[١] وأشهد أنَّ لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، يمنُّ بالفضل ويمنع بالعدل، وهو أعلم حيث يجعل رسالته وهو أعلم بالمهتدين، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، رسول الله إلى الأوَّلين من هذه الأمَّة والآخرين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين وسلِّم تسليماً.[٢]
الوصية بتقوى الله
عباد الله، أوصيكم ونفسي المُقصِّرة بتقوى الله ولُزوم طاعته، وأُحذِّركم ونفسي من مُخالفته وعصيان أوامره، فالتَّقوى خيرُ زادٍ يأخذه المُسلم معه ليوم المعاد، فقد قال ربُّكم -سُبحانه-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ* يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَـكِنَّ عَذَابَ اللَّـهِ شَدِيدٌ).[٣]
الخطبة الأولى
عباد الله، إنّ العلم نورٌ وهُدىً، والجهل ضلالٌ وشقاءٌ، فالعلم ميراث الأنبياء، والعُلماء ورثتهم، فالأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً وإنَّما ورَّثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظٍ وافرٍ من ميراثهم، بل إنَّ العلم يرفع صاحبه في الدُّنيا والاخرة، لقوله -تعالى-: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ).[٤][٢]
ومن تَعلّم العلم كان له لسانَ صدقٍ في الآخرين؛ لأنَّ العلم يبقى أثره بعد موت صاحبه، قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له)،[٥] ولا زلنا إلى الآن نتذكَّر ما مضى من أهل العلم والعُلماء، فقد قال الله -تعالى- عن العُلماء وعلو منزلتهم: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا)،[٢][٦] فالعالم يمشي بين النَّاس بنور العلم.
أيُّها الناس، تعلَّموا العلم لتنالوا فضله وبركته، وتجنوا ثِماره، ولا تتعلَّموه لتجادلوا به غيركم، أو تماروا به، فمن طلبه ليماري به السُّفهاء أو يجاري به العلماء فقد عرَّض نفسه للعقوبة، ولا تطلبوا العلم لأجل المال؛ لأنَّ العلم أشرف من أن يكون وسيلةً إليه، والمال يفنى والعلم يبقى، ولا بُدَّ لنا أن نُشمِّر عن ساعد الجدِّ في طلبه.[٢]
وأنتم أيُّها الشَّباب، أنتم أمل الأُمَّة، ومعقد آمالها، ومصدر عزِّها ونهضتها وقوَّتها، ولأهميَّة مرحلة الشَّباب فقد اهتمَّ الإسلام بها، وأولاها عنايةً فائقةً، فالواجب عليكم أن تستغلوا عُطلكم وأوقات فراغكم في تنمية مواهبكم وقُدراتكم، فقد قال رسول الله -عليه الصلاةُ والسَّلام-: (نِعْمَتانِ مَغْبُونٌ فِيهِما كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ).[٧][٨]
وورد عن عُمر بن عبد العزيز قوله: "إنَّ الَّليل والنَّهار يعملان فيك فاعمل فيهما"، فمرحلة الشَّباب من أكثر المراحل فراغاً وقوَّةً، وما أجمل أن يستغلَّها الإنسان بطلبه للعلم الشَّرعيِّ خاصةً، والعُلوم بشكلٍ عام؛ ليُنير للنَّاس طريقهم، ويُزيل عنهم الجهل، فقد ذمَّ الله -تعالى- الجهل وأهله وجعلهم بمنزلة العُميان الذين لا يُبصرون، لقوله: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى).[٩]
وممَّا ورد في الشِّعر العربيِّ في ذمِّ الجهل: [٨]
ما أقبح الجهل يبدي عيب صاحبه ،،، للناظرين وعن عينيه يخفيهِ
كذلك الثوم لا يشممه آكله ،،، والناس تشتم نتن الريح من فيهِ
فالجهل من الأمراض التي ذمَّها الله -تعالى- في كتابه بشكلٍ صريحٍ، لقوله -سُبحانه-: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ* إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).[١٠][٨]
أيها الناس، قد جعل الله -تعالى- علاج الجهل بالعلم، وسؤال العُلماء، ويكفي طالب العلم فخراً حديث النبيِّ -عليه الصلاةُ والسلام- في علوِّ مكانته ومنزلته: (من سلك طريقًا يطلبُ فيه علمًا ، سلك اللهُ به طريقًا من طرقِ الجنةِ ، وإنَّ الملائكةَ لتضعُ أجنحتَها رضًا لطالبِ العِلمِ ، وإنَّ العالِمَ ليستغفرُ له من في السماواتِ ومن في الأرضِ ، والحيتانُ في جوفِ الماءِ ، وإنَّ فضلَ العالمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكبِ ، وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثُوا دينارًا ولا درهمًا ، ورَّثُوا العِلمَ فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافرٍ).[١١][٨]
أيها الناس، إنَّ العلم من علامات إرادة الله -تعالى- الخير للعبد، فبالعلم يعبدُ الإنسان ربَّه على بصيرةٍ ونورٍ، ويستقيم على دينه، ويدعو غيره إلى الإسلام، وقُدوتنا في ذلك الصَّحابة الكرام؛ فقد كانوا يحرصون على طلب العلم؛ فقد ورد عن عبد الله بن الحارث -رضي الله عنه- أنَّه أوَّل من سمع حديث النَّهيِ عن التَّبول في استقبال القبلة، وأوَّل من حدَّث به.[١٢]
وها هو عمرو بن سلمة -رضي الله عنه- وهو من صغار الصَّحابة؛ كان يحرص على أن يستفتي العُلماء ويسألهم، حتى وصل إلى درجةٍ عاليةٍ من العلم وفاق من في عُمره بالعلم والمعرفة، الأمر الذي أهَّلَهُ لأن يكون إمامهم، بل وصل الأمر في بعض الصَّحابة الكرام أن يتكبَّدوا عناء السَّفر لطلب العلم والحديث؛ فقد ورد عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أنَّه سافر شهراً كاملاً عندما سمع أنَّ رجلاً بالشَّام سمع حديثاً من النبيِّ -عليه الصلاةُ والسلام- لم يَسمعهُ أحدٌ غيرُه.[١٢]
عباد الله، وممَّا يدُلُّ على أهميَّة العلم ورفع قيمة العُلماء؛ أنَّ الآية الأُولى نُزولاً في القُرآن تحثُّ على القراءة، قال تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)،[١٣] ومن مظاهر اهتمام المُسلمين بالعلم على مدار التَّاريخ أنّ هارون الرَّشيد قَبِلَ الجزية من غير المُسلمين كُتُباً، وكان العُلماء يرتحلون في طلبه والاستزادة منه، ويحرص العُلماء على تبليغ ما أعطاهم الله -تعالى- من العلم، مخافة الوقوع في الوعيد الوارد في قوله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)،[١٤][١٢]
الخطبة الثانية
عباد الله، لقد جعل الإسلام طلب العلم فريضةً على كُلِّ مُسلمٍ ومُسلمةٍ، حتى إن كان طلب العلم فيه مشقةٌ فهي ليست مانعةً من طلبه،[١٥] ويشمل العلم الذي لا بُدَّ للمُسلم منه في إقامة عباداته، كالوضوء، والصَّلاة، والزَّكاة إن كان ذا مالٍ،[١٦] كما يحرص الآباء والأمهات والمُربين على حثِّ أبنائهم على العلم، وتيسير طريقه لهم، فهو من حقِّ رعايتهم، ويسعون إلى غرس حُبِّ العلم فيهم بالحكمة والموعظة الحسنة والكلام الطيِّب،[١٧] فبالعلم يصل المُسلم إلى تقوى الله، وبه يستقيمُ دينه؛ لأنَّ به يُعرف الحلال والحرام، والانشغال به من أفضل العبادات والقُربات، وموجبٌ لرضا رب الأرض والسَّماوات، ومن أعرض عنه كان من الخاسرين في الدُنيا والآخرة.[١٨]
عباد الله، اعلموا أنَّ الإسلام أعلى من شأن العلم والعُلماء، وطلب العلم لا يقتصر على العلوم الشرعية، بل يشمل جميع العلوم النافعة للمسلم، قال الله -تعالى-: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)،[١٩][٢٠] وفضَّل الله -تعالى- العالم على غيره، فالعلم ميراث الأنبياء، ويحرُس صاحبه، ويدخل معه في قبره، ويبدأ المُسلم بطلب العلم مُنذُ نُعومة اظفاره إلى مماته، وقيل: للإمام أحمد وقد ظهر الشَّيب فيه: إلى متى وأنت مع المحبرة، فقال أحمد كلمته المشهورة: "مع المحبرة إلى المقبرة"؛ إي حتى الممات، وورد عن الإمام النووي أنَّه أنتج مئات المُجلدات فلقد أفنى عمره في طلب العلم، بل ممَّا يزيد من أهميَّة العلم وفضله؛ أمر الله -تعالى- نبيه بالدُّعاء بأن يزيده من العلم، قال -تعالى-: (وَقُل رَبِّ زِدني عِلمًا).[٢١][٢٠]
الدعاء
- اللهمَّ اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
- اللهمَّ اغفر ذنوب المذنبين من المسلمين، وتُب على التائبين، وزدنا علماً وفقهاً في الدِّين.
- اللهمَّ واغفر لنا أجمعين، اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا.
- اللهم إنَّا نسألك علماً نافعاً ورزقاً واسعاً.
- اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً ينفعنا.
- اللهمَّ يسِّر لنا دُروب العلم، واجعلنا ممَّن يحرصون على التَّعلُّم.
- اللهمَّ اجعلنا ممَّن يخافونك ويخشونك في السرِّ والعلن، وصلوا على نبيكم مُحمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله، إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكّرون، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
المراجع
- ↑ سورة الزمر، آية:9
- ^ أ ب ت ث محمد بن عثيمين (22-12-2008)، "الحث على طلب العلم"، ملتقى الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 12/8/2021. بتصرّف.
- ↑ سورة الحج، آية:1-2
- ↑ سورة المجادلة، آية:11
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:1631، صحيح.
- ↑ سورة الأنعام، آية:122
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبدالله بن عباس، الصفحة أو الرقم:6412، صحيح.
- ^ أ ب ت ث محمد السبر (16-7-2016)، "شبابنا وطلب العلم (خطبة)"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 13/8/2021. بتصرّف.
- ↑ سورة الرعد، آية:19
- ↑ سورة الأعراف، آية:138-139
- ↑ رواه الألباني، في صحيح أبي داود، عن أبي الدرداء، الصفحة أو الرقم:3641، صحيح.
- ^ أ ب ت محمد مرسي (2005)، التربية الإسلامية أصولها وتطورها في البلاد العربية، صفحة 20-21. بتصرّف.
- ↑ سورة العلق، آية:1
- ↑ سورة البقرة، آية:159
- ↑ عبد الحميد بن باديس (1968)، آثار ابن باديس (الطبعة 1)، صفحة 312، جزء 2. بتصرّف.
- ↑ عبد الحميد بن باديس (1983)، مجالس التذكير من حديث البشير النذير (الطبعة 1)، صفحة 194. بتصرّف.
- ↑ محمد العثيمين (1988)، الضياء اللامع من الخطب الجوامع (الطبعة 1)، صفحة 318-320، جزء 2. بتصرّف.
- ↑ عبد الرحمن السعدي (1991)، الفواكه الشهية في الخطب المنبرية والخطب المنبرية على المناسبات (الطبعة 1)، صفحة 177-179، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ سورة البقرة، آية:269
- ^ أ ب "الحث على طلب العلم (في الإجازة)"، الموقع الرسمي للشيخ محمد صالح المنجد، اطّلع عليه بتاريخ 13/8/2021. بتصرّف.
- ↑ سورة طه، آية:114