خواطر عن الأم المتوفاة

كتابة:
خواطر عن الأم المتوفاة

يوم وُلدتِ أشرقت الدنيا يا أمّي

أشرقت الدنيا بميلادك يا أمي وحدثتني جدتي كيف أن الحياة أصبح لها لونٌ آخر، وقد امتد نورك يا حبيبتي ليصل قلب أبي الذي شُغف حبًا بعينيكِ، ولم يلبث أن خطفكِ من بين ذراعي والديكِ، حتى انبثقتُ من زهرة حبكما وأنجبتُماني، لثمتُ ثديك يا أمي لأستقي حلو الحياة، ولثمتِ ثغري حتى بتُّ مفتونًا بحياتي معكِ وأنت فيها، ولا شيء يقوي عزيمتي إلا أنك معي في كياني وفي البيت حين أعود، حاملًا معي كراساتي وكتبي ودفاتري وواجبات يومٍ جديد.


كبرت يا أمي حاملًا معي آمالي بميلاد فجرٍ جديد، بميلادِ يومٍ سعيد بحياةٍ لا عقبات فيها ولا حتى دمعةٌ تحيد، يومًا بعد يومٍ، عامًا بعد عام وفي قلبي غصةٌ كلما كبرت تزيد، ما علمت شأنها ولا عرفتُ كنهها، ولا شيء مما فات أريد سوى أنْ تظلي بجانبي ويحفظكِ الله لي ولا شيء عنه بعيد، حبيبتي ونبض قلبي ومُقلتاي يوم ولدتِ أشرقت دنياي يا أمي ودنيا كل العبيد، فلا شيء أطلب من ربي سوى أن يبقيكِ ما حييت.


يوم تُوفيت انطفأت لذّة الحياة يا أمّي

ما أصعب الحياة بدونك يا أمي، إنني لا أقوى على مجابهتها ولا مواجهتها بقلب من حديد، فقلبي بات لينًا هشًا ضعيفًا لايقوى على الصمود في وجه الرياح العاتية، في ظلمة الليالي كلابٌ تعوي هنا وهناك، وظلام دامس يحيط المكان وفي قلبي غُصّةٌ لا أكاد أخفيها، دون بكاء، وهاقد انطفأت لذة الحياة في قلبي يا أمي، ولم أعد أبالي بمن جاء أو رحل فكلهم زائلون عابثون خائنون، وبعدك ما عاد يعنيني البقاء.


فليغادروا جميعهم دون سؤال، فقد غادرتني أمي حبيبتي وأنا لا طاقة عندي ولا احتمال ولا جلد عندي حتى للابتسام، كل ما أبتغيه في دنياي أن تمضي الأيام وتنتهي الأحلام ويغادر كل الناس إلى مثواهم الأخير بمن فيهم أنا، لألحق بركبك يا أمي، كنت أدعو الله دوما أن لا يصيبني مكروه؛ لأنني أخشى أن أرى الدمع يجري على خديكِ، ولكن الآن لا شيء يعنيني لا أحد يثنيني عن المسير في درب الألم إلى النهاية نهاية الحياة التي ما عادت حياةً ولا أقوى على مجابهتها وأنت بعيدة بُعد النجوم. 


قلبي ممتلئٌ بالحنين والأنين يا أمّي

يملؤني الحبين يا أمي لحضنك الدافئ كما يملؤني الأنين لأهدابك الغائبة عن عالمي وكل ما يخصني، هل تعلمين يا أمي أنني يقتلني الحنين إليك وإلى ذكرياتي معك، عالمي كئيبٌ يا أمي ولا شيئ معي إلا الذكريات الغائبة التي لا أقوى على تذكرها والعبث في عالمها الشريد، أخاف أن أذكرها فلا أقوى على المزيد من الحزن والألم والحنين فحبي وشوقي لك يزدادُ عامًا بعد عام يومًا بعد يوم.


حزني عليك يا أمي يتجدد كل يوم ويعيد في قلبي تلك الذكرى الأليمة يوم جاءنا الخبر الأكيد أنك ودعت الدنيا وما عادت أنفاسك تيقظني في الصباح، غير أنني ما كنت أصحو في الصباح إلّا على قرع نعليك خلف الباب، حتى تأتين إلى غرفتي تتحسسين وجهي وتخبريني بأن الصبح جاء وهذا يوم جديد، على الرغم من أنني أكون مستيقظًا وخيوط الشمس الذهبية تداعب وجهي مع نسمات الهواء العليل، ولكنني كنت أتظاهر بالنوم كي تتحسس يديكٍ الناعمتين وجهي وتوقظني كل يوم.


أمّاه.. ذكرياتك تُقرع في مدن أحزاني

آه يا لوعة الذكريات التي تقرع بوابة الذكريات في مدن أحزاني الفارغة التي لا تسكنها سوى الوحشةُ ولوعة الفراق لأروع ما في حياتي وهي أمي، التي لا شيء ينسيني ذكرياتي معها حتى لو فقدت عقلي وبت لا أفقه شيئًا، فلساني دون شعور مني يردد اسمها كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة، وذاكرتي تردد صوتها يناديني في كل الأماكن، وكلما شرعت في فعل شيء جديد، سمعت صوتها يدفعني أو يثنيني عن المسير.


ربّاه هذا هو البلاء، أن أرى كل شيء حولي، صوتها قلبها همساتها لمساتها عباراتها إلا هِيَ، لا ضمة لا قبلة لا لمسةً حقيقية، كل ما في عالمي أضغاثُ ذكريات ما برحت تغادر المكان، إلا وجعلت قلبي يدوّي من شدة الوله والشوق والعذاب، أمي يحار العقل كيف يُحاكيكِ، ويحار القلب كيف يُرضيكِ، وأنت بعيدة عن عالمي ولا شيء معي إلا ذكراكِ الغالية ودمعاتك الحانية التي كنتي تذرفينها حولي كلما أصابني المرض أو أبحرت في عالم الألم.


يداي تشتاق حنان لمساتكِ يا أمي

إنني حائر يا أمي ماذا أفعل ليديّ اللتين تشتاقان كل يوم للمسك وعناقك وتحسس خصلات شعرك السميك، وكل تفاصيل أيامي معك يا أمي، كلما استيقظت صباحًا مددت يدي نحو السماء علَّني ألقاء وأرى يديك ممدودتان نحوي لتأخذانني نحو عالمك الشريد وحبك البعيد وقلبك العنيد، فكم رجوتك يا أمي بأن لا تظلي تحت الشمس وتحت المطر وفي ظلمة الليالي الحالكات؛ فمرة تخيطين لي ثوبًا جميلًا ومرةً تنثرين الملابس المغسولة والأمطار تجلد ظهرك، من كل دفئ إلا قطعةً من قماش، ومرة تجوبين الأراضي بحثًا عن الكلأ والخبز والطحين.


كأنك تجذبينني نحو والدي الحبيب، ذلك الخباز في نهاية الحي القديم، تعجنين الطحين وخواتمك الذهبية تبرق كجمال الكون فتخلعينها حتى تتمي عملك الذي ما فارقته منذ آلاف السنين، يا حبًّا لا يهدأ، يا قلبًا لا يزال ينبض في داخلي، آه وألف آه يا من كنتِ مهجة الروح وفرحة الحياة، إنني لا أريد ذكرى، وإنما أريد الأيام الخوالي أن تعودي وأنت معها دون فراق، عودي وأيقظي الفرح في أهدابنا، وتعالي نصلي وندعو الله أن يزيل الهم عن بلاد المسلمين، اللهم آمين يا رب العالمين.

4978 مشاهدة
للأعلى للسفل
×