الأنصار
لقد كان لله -تعالى- أقوامٌ يجعلهم جنده الذين ينصرون دينه، فيقومون به وينصرونه بقوّة الله تعالى، ومن تلك الأقوام كان الأنصار الذين ناصروا نبيّ الله محمّد صلّى الله عليه وسلّم، والأنصار هم سكّان المدينة المنوّرة الأصليين الذي هاجر إليهم النبي -عليه الصلاة والسّلام- حين خرج من مكة المكرّمة، قال فيهم الله -عزّ وجلّ- في القرآن الكريم في سورة الحشر: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}،[١] وليس بعد هذا المديح كلام يقال، ومنهم ثابت بن قيس، وسيتحدّث هذا المقال عن سيرة حياة ثابت بن قيس.[٢]
سيرة حياة ثابت بن قيس
إنّ الحديث عن سيرة حياة ثابت بن قيس يعني الحديث عن سيرة صحابيّ كان من أكثر الأنصار محبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان من أشدّهم ورعًا وتقوى، هو ثابت بن قيس بن شمّاس الأنصاريّ الخزرجيّ، يُكنّى بأبي عبد الرّحمن، وكان متزوّجًا من ابنة عبد الله بن أُبي بن سلول، وأخوه لأمّه الصّحابيّ الشّهيد عبد الله بن رواحة، كان صوته جَهُوْريًّا، وكان خطيب الأنصار وخطيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ ففي يوم وفَدَ قوم من بني تميم ومعهم خطيبهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فافتخر خطيبهم بأمور لهم، فأمر الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- ثابتًا ليجيب خطيبهم ففعل، وقد شهد غزوة أحد وسائر الغزوات بعدها، واستُشهِد في أيّام حروب الردّة في معركة اليمامة ضدّ جنود مسيلمة، وكان ذلك في خلافة الصّدّيق أبي بكر رضي الله عنه.[٣]
وممّا يُذكر له في حياته أنّه لمّا نزلت الآية التي يقول فيها -تعالى- في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}،[٤] لزم ثابت -رضي الله عنه- بيته واحتبس عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- خشية أن يكون من أهل النار؛ فيروي أنس بن مالك -رضي الله عنه- فيما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه أنّه قال: لَمَّا نَزَلَتْ هذِه الآيَةُ: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبيِّ} [الحجرات: 2] إلى آخِرِ الآيَةِ، جَلَسَ ثابِتُ بنُ قَيْسٍ في بَيْتِهِ، وقالَ: أنا مِن أهْلِ النَّارِ، واحْتَبَسَ عَنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَسَأَلَ النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- سَعْدَ بنَ مُعاذٍ، فقالَ: "يا أبا عَمْرٍو، ما شَأْنُ ثابِتٍ؟ اشْتَكَى"؟ قالَ سَعْدٌ: إنَّه لَجارِي، وما عَلِمْتُ له بشَكْوَى، قالَ: فأتاهُ سَعْدٌ، فَذَكَرَ له قَوْلَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ ثابِتٌ: أُنْزِلَتْ هذِه الآيَةُ، ولقَدْ عَلِمْتُمْ أنِّي مِن أرْفَعِكُمْ صَوْتًا علَى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فأنا مِن أهْلِ النَّارِ، فَذَكَرَ ذلكَ سَعْدٌ للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: "بَلْ هو مِن أهْلِ الجَنَّةِ"،[٥] وبذلك كان من الذين بشّرهم رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بالجنّة في حياتهم، وكذلك يتّضح في الحديث حسن أخلاق ثابت -رضي الله عنه- عندما امتنع عن الذهاب إلى مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خوف أن يجهر بصوته ويرفعه فوق صوت النبي -عليه الصلاة والسلام- كون طبقة صوته كانت مرتفعة، حتي لا يستحقّ النار التي وعد الله -تعالى- الذين يرفعون أصواتهم فوق صوت النبي، فبشّره النبي -عليه الصلاة والسلام- بالجنة.[٣]
وكذلك ممّا يذكر في سيرة حياة ثابت بن قيس أنّ أحد اليهود واسمه الزبير القرظيّ من بني قريظة قد كان له دين في رقبة ثابت بن قيس، فأراد ثابت -رضي الله عنه- أن يردّ له دينه عندما وقعت بني قريظة بيد المسلمين، فكان الزبير من الذين وقعوا في الأسر، فراجع ثابت رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- في أمره، فأعطاه النبي -عليه الصلاة والسلام- الزبير، فعفا عنه ثابت، ثمّ طلب الزبير أولاده وامرأته، فراجع ثابت بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- فأعطاه إيّاهم، ثمّ طلب ماله فكذلك راجع فيه ثابت النبي -عليه الصلاة والسلام- فوهبه إيّاه فأعطاه للزبير، وهنا سأله الزبير عن بعض أشراف اليهود وساداتهم، فقال: "مَا فَعَلَ الّذِي كَأَنّ وَجْهَهُ مِرْآةٌ صِينِيّةٌ يَتَرَاءَى فِيهَا عَذَارَى الْحَيّ، كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ؟ قَالَ: قُتِلَ، قَالَ فَمَا فَعَلَ سَيّدُ الْحَاضِرِ وَالْبَادِي حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ؟ قَالَ: قُتِلَ، قَالَ فَمَا فَعَلَ مُقَدّمَتُنَا إذَا شَدَدْنَا، وَحَامِيَتُنَا إذَا فَرَرْنَا عَزّالُ بْنُ سَمَوْءَلَ؟ قَالَ: قُتِلَ، قَالَ: فَمَا فَعَلَ الْمُجْلِسَانِ؟ -يَعْنِي بَنِي كَعْبِ بْنِ قُرَيْظَةَ، وَبَنِيّ عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ- قَالَ: قُتِلُوا؟ قَالَ: فَأَنّي أَسْأَلُك يَا ثَابِتُ بِيَدِي عِنْدَك إلّا أَلْحَقْتنِي بِالْقَوْمِ، فَوَاَللّهِ مَا فِي الْعَيْشِ بَعْدَ هَؤُلَاءِ مِنْ خَيْرٍ، فَمَا أَنَا بِصَابِرِ لِلّهِ فَتْلَةَ دَلْوٍ نَاضِحٍ -أي بقدر إفْرَاغَ الدَلْوٍ- حَتّى أَلْقَى الْأَحِبّةَ، فَقَدّمَهُ ثَابِتٌ إلى الزبير بن العوام فَضَرِبَ عُنُقُهُ، فَلَمّا بَلَغَ أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ قَوْلَهُ أَلْقَى الْأَحِبّةَ، قَالَ: يَلْقَاهُمْ وَاَللّهِ فِي نَارِ جَهَنّمَ خَالِدًا فِيهَا مُخَلّدًا"، وهذا أبرز ما يمكن أن يقال عن سيرة حياة ثابت بن قيس، وستقف الفقرة القادمة مع وصيّة ثابت بن قيس التي وصّى بها وهو ميت.[٣]
وصية ثابت بن قيس
بعد الوقوف مع بعض الجوانب من سيرة حياة ثابت بن قيس بقي أن يُذكر ما حدث بعد استشهاد ثابت بن قيس رضي الله عنه، إذ إنّه يوم اليمامة التقى جيش المسلمين مع جيش المرتدّين بزعامة مسيلمة الكذّاب، فعندها لقي المسلمين من جيش المرتدّين شدّة وقد استطاعوا صدّ المسلمين كثيرًا، وقتلوا من المسلمين كثيرًا، فكان بين جند المسلمين وقتها ثابت بن قيس رضي الله عنه، فلمّا رأى المسلمين يتراجعون قال: ما هكذا كنّا نقاتل في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فحفر لنفسه حفرة هو وسالم مولى أبي حذيفة، فدخل كلّ منهم في حفرته، وقاتلا إلى أن استُشهِدا، وكان ثابت في تلك المعركة يرتدي درعًا نفيسة، فمرّ عليه رجل من المسلمين وهو ميت فأخذها، وبعد ذلك وبينما رجل من المسلمين نائم إذ أتاه ثابت -رضي الله عنه- في المنام وقال له: "إنّي لمّا قُتلتُ بالأمس مرّ بي رجلٌ من المسلمين فانتزع مني درعًا نفيسةً، ومنزله في أقصى العسكر، وعند منزله فرسٌ يستنّ في طوله، وقد أكفأ على الدرع برمةً، وجعل فوق البرمة رحلًا، وائْتِ خالد بن الوليد فليبعث إلي درعي فليأخذها، فإذا قدمتَ على خليفة رسول الله فأعلمه أنّ عليَّ من الدّين كذا، ولي من المال كذا، وفلانٌ من رقيقي عتيقٌ، وإيّاك أن تقولَ هذا حلمٌ فتضيّعه"، فأتى الرجل خالدًا -رضي الله عنه- فذهبا يطلبان الدّرع فوجداها كما ذكرها، ثمّ قدم الرّجل على أبي بكر -رضي الله عنه- وحدّثه بما رأى، فأنفذَ أبو بكر وصيّة ثابت -رضي الله عنه- ولم يُعرف من نفذت وصيّته بعد وفاته سوى ثابت رضي الله عنه.[٦]
وختامًا فقد كان ثابت بن قيس في حياته وبعد مماته من أصحاب الأثر والذين تركوا بصمة في هذا الدين، إن بخشيته الله تعالى، وإن باحترامه وحبّه الشديد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولذلك كان من الرجال الذين أثنى عليهم رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في غير واحد من الأحاديث النبويّة الشّريفة، فيروي أبو هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "نِعْمَ الرّجلُ أبو بكرٍ، نِعْمَ الرّجلُ عمرُ، نِعْمَ الرّجلُ أبو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ، نِعْمَ الرّجلُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، نِعْمَ الرّجلُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بنِ شَمَّاسٍ، نِعْمَ الرّجلُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، نِعْمَ الرّجلُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بنِ الجَمُوحِ"،[٧] وبذلك ينتهي هذا المقال الذي تحدّث عن سيرة حياة ثابت بن قيس رضي الله عنه.[٣]
المراجع
- ↑ سورة الحشر، آية: 9.
- ↑ "من هم المهاجرون والأنصار؟"، www.islamqa.info، اطّلع عليه بتاريخ 29-01-2020. بتصرّف.
- ^ أ ب ت ث "ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه"، www.saaid.net، اطّلع عليه بتاريخ 29-01-2020. بتصرّف.
- ↑ سورة الحجرات، آية: 2.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم: 119، حديثٌ صحيحٌ.
- ↑ "ثابت بن قيس بن شماس"، www.islamstory.com، اطّلع عليه بتاريخ 29-01-2020. بتصرّف.
- ↑ رواه الترمذي، في سنن الترمذي، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 3795، حديثٌ حسَنٌ.