سيرة هارون الرشيد

كتابة:
سيرة هارون الرشيد

الدولة العباسية

العباسيّون هم السلالة الثانية من الخلفاء في التاريخ الإسلاميّ، ومقرّهم في بغداد في العراق، ويعود أصل العباسيين إلى العباس بن عبد المطلب عم النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فيكونون بذلك من آل البيت النبويّ، وقد وصلوا للخلافة واستطاعوا القضاء على الدولة الأمويّة بمساعدة أنصارهم من العلويين، وكان أبو العباس السفاح هو الذي قضى على كل ما يرجع للأمويين عام 749هجرية، ومعه أخوه أبو جعفر المنصور عام 754هجرية، باتخاذهم التدابير الصارمة لتقوية شأن سلطة العباسيين، وبناء عاصمتهم بغداد عام 762هجرية، وقد بلغت الدولة العباسية أوج ازدهارها العلمي والعسكري في عهد الخليفة هارون الرشيد في عام 786هجرية، وسيتحدّث هذا المقال عن سيرة هارون الرشيد.[١]

سيرة هارون الرشيد

في ذكر سيرة هارون الرشيد يجدرُ التعريف بنسبه، فهو أبو جعفر هارون بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور، ولد عام 149 هجرية في مدينة الريّ، وترتيبه الخامس في خلفاء الدولة العباسيَّة، استلم الخلافة في الليلة التي توفي فيها أخوه موسى الهادي وذلك عام 170 هجرية، وكان في الثانية والعشرين من عمره، وأمٌّه هي الخيزران بنت عطاء، كان لهارون الرشيد شهرةٌ واسعة تجاوزت المشرق لتصل إلى الغرب وتناولها العالم الغربي بالدراسة والتحليل، وقد حاول بعض ملوك أوروبا التقرب منه واكتساب مودته، فقد كان الرشيد سياسيًا بارعًا، فيه من حزم المنصور وعنفه مع مرونةٍ واضحةٍ وسخاءٍ في المال لاصطفاء الناس، وقد كان شديد الاهتمام بأمور الرعيَّة، مرهف الإحساس، حادّ المزاج، سريع التأثر، وكان تقيًا ورعًا حتى قيل أنَّه كان يحجُّ عامًا ويغزو عامًا، وكان إذا حجَّ، حجَّ معه مئةٌ من الفقهاء وأبنائهم.[٢]

على عكس ما صوّرته به المصادر العربيَّة التي مزجت التاريخ بالخيال والقصص مثل كتاب "ألف ليلة وليلة" الذي جعل الرشيد يبدو خليفةً لا يعرف سوى اللهو والمجون وشرب الخمور، إذ كان هارون الرشيد عكس ذلك تمامًا، وكان من المعظِّمين لشعائر الله، وفي زمن خلافته اتسعت رقعة الدولة الإسلاميَّة وانتشر الإسلام وعمَّ الأمن والأمان، وعاش الناس في خير وفير، وقد توفّي هارون الرشيد عام 193هجرية في مدينة طوس والتي تُسمى مشهد في الوقت الحاضر.[٢]

أعمال هارون الرشيد

لا يُمكن التحدث عن سيرة هارون الرشيد دون التعريج على ما قام به من أعمال في خلافته، فقد كانت خلافته رشيدةً وانجازاته كثيرة، سواءً على الصعيد الداخلي في شؤون الدولة وأمور الرعيَّة أم على الصعيد الخارجي في الحروب والفتوحات، ومن أعماله في الشأن الداخلي للدولة ما يأتي:[٣]

  • أصدر هارون الرشيد عن استلامه الخلافة عفوًا عامًا يشمل كلَّ من هربَ أو اختبأ مُستثنيًا بعضَ الزنادقة.
  • استعمل الرشيد الرقّة كعاصمة رديفة للعاصمة بغداد.
  • أقام الرشيد ما يُسمّى ببيت الحكمة في العاصمة بغداد، وكان يعجّ بالكتب والمؤلفات من مختلف بقاع العالم، وفيه غرفٌ كثيرة بينها أروقة طويلة، خُصص بعض الغرف للكتب والبعض الآخر للمحاضرات، ومن الغرف ما كان خاصًا بالناسخين والمترجمين والمجلدين.
  • تمت في عهد الرشيد أو عملية ترجمة إلى العربيّة لأشهر الكتب العلمية وهو كتاب " الأصول في الهندسة والعدد" لإقليدس.
  • تطوّرت في عهد الرشيد علومٌ كثيرة منها الفيزياء الفلكيَّة والتقنيَّة، وتطوّرت الاختراعات ومنها الساعة المائيّة.
  • أُقيم أول مصنع للورق في بغداد في عهد الرشيد، وبدأت السلع الورقيَّة تُباع في سوق الوراقين، وصارت صناعة الورق مفخرة للعباسيين فقد كان لورق بغداد قيمة كبيرة.
  • شجّع الرشيد التبادل التجاري بين ولايات الدولة، وعمل على حِراسة الطرق التجارية بين الأمصار، وبنى مدينة الواقفة بالقرب من مدينة الرقة على ضفة الفرات لتصبح مقرًا لحكمه في الصيف.
  • من أهمّ الأعمال في عصر الرشيد إقامة أكبر مستشفى في ذلك العصر، وسُمّيَ "مستشفى الرشيد" في بغداد، احتوت على أمهرِ الأطباء في ذلك العصر، وكانت تحت إدارة يوحنا بن ماساويه وجبريل بن بختيشوع.

الأوضاع الداخلية في عهد هارون الرشيد

في سياقِ الحديث عن سيرة هارون الرشيد لا بدّ من التفصيل في الأوضاع الداخليّة للبلاد في عهده، والتي كانت حافلةً بالأحداث المهمة، والتي تعامل معها الرشيد بحكمته وحزمه، ليحافظ على استقرار البلاد في حكمه من أي مشاكلٍ قد تهزُّ الأمن والأمان، وقد حدثت في عهدة اضطرابات من عدد من الأطراف في الدولة وهي كالآتي.[٤]

حركة الخوارج

الخوارج هم طائفة ظهرت في فترة القتال بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، واستمرت معارضتهم لخلفاء بني أميَّة ثم بني العباس، وقد ازداد نشاط الخوارج في منطقة الجزيرة العربيَّة في عهد هارون الرشيد، والذين أخذوا على الخلفاء مأخذ الاستبداد في السلطة والخروج عما توجبه الأوامر الشرعيَّة في كتاب الله وسنة نبيه وذلك بحسب اعتقادهم، وكانوا بقيادة الوليد بن طريف التغلبيّ المقيم في الجزيرة، فأرسل إليه جيشًا بقيادة مزيد بن زائدة الشيباني الذي انتصر على الوليد وأخمد ثورته وأنهى أزمة الخوارج.

العلاقة مع العلويين

حاول الرشيد استقطاب العلويين عن طريق الرفق بهم، وبذل الأمان لهم، ولكنَّهم برغم تلك المحاولات لم يعدلوا عن تفكيرهم بأحقيتهم بالخلافة، وقد نجا اثنين من زعماء العلويين من معركة فخ التي جرت عام 785هجريّة، في عهد الهادي وهما إدريس بن عبد الله بن الحسن وأخوه يحيى، فقد أقام الأول دولة مستقلة في المغرب وهي دولة الأدارسة، وتمكنَّ يحيى من إقامة دولة في بلاد الديلم في المشرق وأعلن خروجه عام 792 هجريةّ، وقرر الرشيد القضاء على الأخوين، ونجح في التخلص منهما، لكنَّه لم يتمكّن من القضاء على دولة الأدارسة.

الاضطرابات في شمال إفريقيا

تمكَّن قائد هارون الرشيد هرثمة بن أعين من القضاء على الاضطرابات التي كانت بسبب خروج الخوارج وقادة الجند والبربر، إلا أنَّ تجدد الانتفاضات على الحكم المركزي، دفعت الرشيد إلى تولية إبراهيم بن الأغلب واليًا على إفريقية في عام 184هجرية، والذي نجح في التغلب على الصعوبات التي اعترضت حكمه، ثم مهّد لقيام دولة الأغالبة التي ما لبثت أن استقلت عن الإدارة المركزية واتخذت من القيروان حاضرةً لها.

الاضطرابات في المشرق

نتيجةً لسوءِ تصرف ولاة هارون الرشيد في المشرق قامت الانتفاضات الشعبية، وأهمّها خروج رافع بن الليث بن نصر بن سيار في سمر قند على الحكومة المركزية في بغداد وذلك كان لدوافع شخصيّة، وتبعه سكان خرسان وبلا ما وراء النهر أيّ سمرقند، وذلك بسبب كرههم للعباسيين وسياستهم، ولذلك اضطر هارون الرشيد أن يخرج بنفسه إلى خراسان لوضع حدٍّ للاضطرابات، ولكنَّه توفي وهو في الطريق.

نكبة البرامكة

يعودُ أصل البرامكة إلى برمك وهو رجلٌ فارسيّ مجوسي من مدينةِ بلخ، ولقب برامكة هو لقبٌ أُطلقَ على سادن معبد النوبهار في هذه المدينة، وقد برز من هذه الأسرة في أوائل عهد الدولة العباسيَّة خالد بن برمك، وقد قلده أبو العباس ديوان الخراج والجند، كما تولى وزارة التنفيذ بعد مصرع أبي سلمة الخلال، وعمل مستشارًا للمنصور، أنجب خالد ولدًا وهو يحيى الذي ارتبط تاريخه بسيرة هارون الرشيد، وقد أدّى دورًا بارزًا في تأمين ولاية العهد له في مواجهة الضغوطات الكبيرة التي مارسها عليه الهادي بهدف تنحيته عن ولاية العهد، وتولية ابنه جعفر بدلًا منه، وحفظ الرشيد فضل يحيى عليه، فأولاه الكتابة والنيابة عنه، كما أنَّه أولاه الوزارة، ومنحه سلطاتٍ مطلقة، فكانت الدواوين كلُّها بيده.

وقد استطاع يحيى من خلال ابنَيْه الفضل وجعفر من إدارة الدولة محققًا بذلك نظرية المشاركة الكاملة في حكم الدولة، وأحاط البرامكة بالرشيد يتحكمون به، وكان معظم الرجال البارزين في الدولة من أتباعهم لدرجة أنَّ الرشيد وجد صعوبة كبيرة في العثور على رجال لم تكن لهم صلة بالبرامكة، ليتولّوا بعضَ شؤون الدولة، ويبدو أنَّ البرامكة كانت لهم سياسة كامنة لإحياء الإرث الفارسي المندثر، وبلغ أوج هذه الأسرة في حياة الخيزران والدة الرشيد، فلما توفيت عام 173 هجريّة بدأت ثقة الخليفة بأفرادها تهتزّ حتى نكَّلَ بهم، فقد تبين له ميلهم للطالبين أبناء عمومة العباسيين، وتأكدت للرشيد أيضًا الميول العنصرية للبرامكة، ومن جهة أخرى فقد استبدّ البرامكة بمالية الدولة حتى قيل أنَّ هارون الرشيد يحتاج إلى اليسير من المال ولا يقدر عليه، في وقت كان به البرامكة يسرفون في النفقات، فقيدوا الخليفة بتحكمهم المالي، وكبلوه حتى في تصرفه السياسيّ، وكانت نهايتهم بعد الوشاية عليهم من خصومهم الذين أثروا على الرشيد، فَقتل هارون الرشيد جعفر البرمكي عام 187هجريّة، وسُجن أبوه يحيى وأبناؤه، وصادر أموالهم وممتلكاتهم.

العلاقات الخارجية في عهد هارون الرشيد

تمّت الإشارة في سيرة هارون الرشيد أنَّه كان محطَّ اهتمام الغرب والعرب، وقد طلب الكثير من ملوك العالم في ذلك الزمان التقرب إليه والحصول على مودته، وتمت في عهده الكثير من الفتوحات الإسلاميَّة واتسعت رقعة الدولة العباسيَّة لدرجة أنَّه كان يُخاطب الغيوم في السماء فيقول: "يا أيّتُها الغمامة أمطري حيث شئتِ، فإنّ خَراجَكِ لي"، ويمكن التفصيل في علاقاته الخارجية على النحو الآتي.[٣]

العلاقة مع البيزنطيين

عمد الرشيد إلى تحصين الحدود وتقوية الجيش، ونجح في إجبار الإمبراطورة إيرين على القبول بشروط الصلح التي فرضها عليها، وفي عام 187 هجريّة خُلعت إيرين عن العرش البيزنطي وتولّاه نقفور الأول، وقد نقضَ الصّلح مع المسلمين، وطالب الرشيد بإعادة ما دفعته إيرين من الجزية، وجاء الرد الإسلاميّ سريعًا حاسمًا، وهُزم نقفور عسكريًا، فالتزم بدفع الجزية، والامتناع عن ترميم الحصون التي هدمها المسلمون، على أن تستمرّ الهدنة مدة ثلاث سنوات، ثم بعد ذلك يُلاحظ بأنَّ الرشيد تفرَّغ لحل المشكلات التي استجدت في خراسان ولم تتهيأ له الظروف المناسبة لمتابعة نشاطه الجهاديّ على الجبهة البيزنطيّة.

العلاقة مع الفرنجة

انفردت المصادر اللاتينيّة بذكر الصلة التي ربطت هارون الرشيد بشارلمان ملك الفرنجة، لكنَّها تبدو مضطربة وغامضة ممّا يقلل ثقة المؤرّخين بها، واستنادًا إلى هذه المصادر فقد بدأت العلاقات بين الرشيد وشارلمان عام 181 هجريّة وتبادلا الوفود والهدايا، وقد كانت هدايا شارلمان من المنتجات النفيسة كالأقمشة الفاخرة، أمَّا هدايا الرشيد فكانت العطور والأقمشة، كما أنَّه أرسل لشارلمان ساعةً مائيّة ولوحة شطرنج وفيلًا، ولكنّها لم تُسفر عن قيام تحالف سياسيّ، والراجح وجودُ نوع من العلاقات التجارية بين الطرفين.

المراجع

  1. "عباسيون"، www.marefa.org، اطّلع عليه بتاريخ 05-07-2019. بتصرّف.
  2. ^ أ ب "خلافة هارون الرشيد"، www.islamstory.com، اطّلع عليه بتاريخ 05-07-2019. بتصرّف.
  3. ^ أ ب "هارون الرشيد "، www.wikiwand.com، اطّلع عليه بتاريخ 05-07-2019.
  4. "هارون الرشيد"، www.marefa.org، اطّلع عليه بتاريخ 05-07-2019. بتصرّف.
4594 مشاهدة
للأعلى للسفل
×