شرح وتفسير سورة الناس

كتابة:
شرح وتفسير سورة الناس

شرح سورة الناس

الأمر بالاستعاذة

تُعدُّ سورة النّاس من السّور القصيرة في القرآنِ الكريم، وهي الأخيرة في ترتيبِ سورِ المصحفِ الشريف، إذ تَختِمُ الجزءَ الثلاثين، كما أنّها سورةٌ مكيةِ، وتسبقها في التّرتيبِ سورةُ الفلقِ،[١] قال -تعالى-: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ* مَلِكِ النَّاسِ* إِلَـهِ النَّاسِ* مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)،[٢] نُفسِرُ في هذا المبحث آياتها الثلاث الأولى فيما يأتي:

  • الآيةُ الأولى: قوله -تعالى- (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)؛[٣] وفيها شقّانِ نفسرُ كُلَّ واحدٍ منها فيما يأتي:
    • الشقُّ الأول قوله -تعالى- (قُلْ أَعُوذُ): يُوجّه الخطابُ في الآيةِ الأولى وكما في سائر آياتِ القرآنِ إلى المُخاطبُ الأول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم إلينا أمّة محمد -صلى الله عليه وسلم-، والاستعاذة هنا بمعنى الالتجاءُ والتّحصُّن بالله -عزَّ وجلَّ-.[٤]
    • الشقُّ الثاني: قوله -تعالى- (بِرَبِّ النَّاسِ): تأمرُ الآيةَ الكريمةَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالالتجاءِ إلى ربِّ الأكوانِ، البرُّ القادرُ على تحقيقِ المستحيلاتِ، الربُّ الذي يُدبّرُ الأمور، وهو مالك الناس، ومُوجدهم من العدم، والذي يرعى النّاس بعينه الّتي لا تنام، ويُربِّيهم لِيُخرجَ أجملَ ما فيهم.[٥]
  • الآيةُ الثانية: قوله -تعالى- (مَلِكِ النَّاسِ)؛[٦] جاءتِ الآيةُ الثانية لبيانِ مُلكيةِ الله -عزَّ وجلَّ- لمخلوقاتهِ جميعاً ومنهم البشر، فهو خَلقهم وبيده شتّى أمورهم وتصرفاتهم، ومُلكهُ لهم ملكٌ مُطلقٌ، لا يتوقف عليه سببٌ أو شرط، فسعادةُ البشر وتعاستهم ورزقهم كلّه بيدهِ -سبحانه وتعالى-، يُعِزُّ من يشاء ويُذِلُّ من يشاء، يُغني من يشاء ويُفقِرُ من يشاء.[٧]
  • الآية الثالثة: قوله -تعالى- (إِلَـهِ النَّاسِ)؛[٨] جاءتِ الآيةُ الثالثة مُكمِّلةً لِما قبلها من الآياتِ، فبَعدَ الاستعانة بالربِّ القادر والمُنعِمُ الوحيد على البشرية، مالكُ التّصرفِ في أمورهم، جاءَ قوله (إله النّاس) لبيانِ أنّه -عزَّ وجلَّ- من يَستحقّ مُطلقَ العبادةِ، والطاعةِ وخضوعَ القلبِ والجوارِح.[٥]


ممن يجب أن نستعيذ بالله

نستكمل تفسيرَ آياتِ سورة النّاس فيما يأتي:

  • الآيةُ الرابعة: قوله -تعالى-: (مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ)؛[٩] ترتبطُ هذه الآيةُ بالآيةِ الأولى؛ آيةُ الاستعاذة، والوسواس هو اسمُ مصدرٍ للوسوسة، والوسوسةُ هي أصواتٌ خفيّة تَحُثُ الإنسانَ على الشرِ والعِصيانِ، وقد لازمت الوسوسةُ الشيطانَ لكثرةِ صدورها منه، حتّى أنّه ليُشارُ إليه بالوَسواسِ لأنَّها فعلهُ.[١٠]
أمّا قوله: الخنّاسُ، فهي صفةٌ للوسواسِ، وتعنيِ الاختفاءَ أو التأخر، والمقصودُ بها هنا وصفُ حال الشّيطانِ بالضّعفِ إذ يختفي إذا ذكرَ الإنسانُ ربّه -عزَّ وجلَّ-،[١١] ويكونُ المعنى الإجماليُ للآياتِ حتى الآن هو: طَلَبُ العونِ من الله -عزَّ وجلَّ- القادرِ العظيمِ القويُّ، لِيُنجينا من وساوسِ الشيطانِ ودعواه لنا إلى الشّرِّ والباطل الذي من شأنه أن يجُرَّ المسلمَ إلى سوءِ المصير والعاقبة.[١٢]
  • الآية الخامسة والسادسة: قوله -تعالى-: (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)؛[١٣] تبيّنُ الآيتانِ الخامسةُ والسادسة أنّ وسوسةَ السوءِ قد تصدرُ من فئتينِ اثنتينِ؛ هُما شياطينُ الجن والإنس، ونستأنسُ لذلكَ بالآية الكريمة الأخرى: (وَكَذلِكَ جَعَلنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطينَ الإِنسِ وَالجِنِّ)،[١٤] فكِلا القِسمينِ يوسوسُ للإنسان تارةً، ويخنسُ تارةً إذا ذكرَ الإنسانُ ربَّه، وإنّ مَحَل هذه الوسوسة هي صدور الناس، إذ يشعرُ بها الإنسانُ في قلبه.[١٢]


أصناف الموسوسين

جاءَ في تفسيرِ الآيةِ الأخيرة من سورة النّاسِ: (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)،[١٣] أنّ المُوسوِسين قسمينِ اثنينِ، ونُبيّنُ الفرق بينهما فيما يأتي:

  • القسمُ الأول: الجنُّ: وهم مخلوقاتٌ تُوصَفُ بأنّها مُستترة، أي لا يمكنُ رؤيتها بالعين المُجردة، ولا نعلمُ عنها الكثيرَ ولكن نعلمُ أثرها، إذ يبثّونَ خواطرَ الشّرِ والسوء في نفسِ الإنسان لتضليله،[١٢] والجنُّ هُم أصلُ الوسوسةِ، وقد أخبرنا الله -عزَّ وجلَّ- عنهم في سورة الأعراف، إذ قال -تعالى-: (يا بَني آدَمَ لا يَفتِنَنَّكُمُ الشَّيطانُ كَما أَخرَجَ أَبَوَيكُم مِنَ الجَنَّةِ يَنزِعُ عَنهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوآتِهِما إِنَّهُ يَراكُم هُوَ وَقَبيلُهُ مِن حَيثُ لا تَرَونَهُم).[١٥][١٦]
  • القسم الثاني: الإنس: وهم البشرُ الذين يبثونَ أفكارَ الشّرِ والضّلال في قلوب الناس في محاولةٍ منهم لإقناعهم بها، وإخراجها مَخرجَ النّصيحةِ، وبئسَ النّصيحةِ هي، إذ يُضعِفونَ بوَسوَستهم قلبَ الإنسانِ حتّى يتمكَّنَ منه شيطانُ الجنِّ.[١٧]


فضل قراءة سورة الناس

تعدّدت الأحاديث الدّالّة على فضل قراءة سورةِ النّاس، نذكرُ منها ما يأتي:

  • أولاً: أوردَ لإمامُ البُخاري في صحيحهِ حديثاً ترويه أمُّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: (كانَ إذا أوَى إلى فِراشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَع كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فِيهِما، فَقَرَأَ فِيهِما: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، ثُمَّ يَمْسَحُ بهِما ما اسْتَطاعَ مِن جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بهِما علَى رَأْسِهِ ووَجْهِهِ وما أقْبَلَ مِن جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذلكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ)،[١٨] لتكونَ سورةُ النّاس بذلك جزءاً لا يتجزأ من حياة المسلم اليومية.[١٩]
  • ثانياً: أوردَ الإمامُ مسلم في صحيحه حديثاً يرويه الصحابيُ عقبة بن عامر -رضي الله عنه- في عِظَمِ شأنِ سورةِ النّاس، إذ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتِ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ، {قُلْ أَعُوذُ برَبِّ الفَلَقِ}، {وَقُلْ أَعُوذُ برَبِّ النَّاسِ}).[٢٠][٢١]
  • ثالثاً: أوردَ الإمامُ التّرمذي في سننه حديثاً يرويه الصحابيُ أبو سعيدٍ الخُدري -رضي الله عنه- في أهميةِ سورةِ النّاسِ، إذ قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان فلما نزلتا أخذ بهما وترك ما سواهما).[٢٢][٢١]
  • رابعاً: أوردَ الإمامُ البُخاريُ في صحيحه حديثاً ترويه أمُّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- في فضلِ قراءةِ سورةِ النّاس عندَ المرضِ، مفادُهُ: (أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ إذا اشْتَكَى يَقْرَأُ علَى نَفْسِهِ بالمُعَوِّذاتِ ويَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وجَعُهُ كُنْتُ أقْرَأُ عليه وأَمْسَحُ بيَدِهِ رَجاءَ بَرَكَتِها).[٢٣][٢١]


المراجع

  1. أحمد المراغي (1946م)، تفسير المراغي (الطبعة الأولى)، مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده، صفحة 269، جزء 30. بتصرّف.
  2. سورة الناس، آية: 1-6.
  3. سورة الناس، آية: 1.
  4. محمد الأمين الهرري (2001م)، حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن (الطبعة الأولى)، بيروت: دار طوق النجاة، صفحة 471، جزء 32. بتصرّف.
  5. ^ أ ب محمد طنطاوي (1998م)، التفسير الوسيط (الطبعة الأولى)، مصر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، صفحة 548، جزء 15. بتصرّف.
  6. سورة الناس، آية: 2.
  7. محمد الأمين الهرري (2001م)، تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن (الطبعة الأولى)، بيروت: دار طوق النجاة، صفحة 548، جزء 15. بتصرّف.
  8. سورة الناس، آية: 3.
  9. سورة الناس، آية: 4.
  10. محمد الأمين الهرري (2001م)، تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن (الطبعة الأولى)، بيروت: دار طوق النجاة، صفحة 475، جزء 35. بتصرّف.
  11. محمد الأمين الهرري (2001م)، تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن (الطبعة الأولى)، بيروت: دار طوق النجاة، صفحة 476، جزء 35. بتصرّف.
  12. ^ أ ب ت أحمد المراغي (1946م)، تفسير المراغي (الطبعة الأولى)، مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده، صفحة 270-271، جزء 30. بتصرّف.
  13. ^ أ ب سورة الناس، آية: 5-6.
  14. سورة الأنعام، آية: 112.
  15. سورة الأعراف، آية: 27.
  16. محمد طنطاوي (1998م)، التفسير الوسيط (الطبعة الأولى)، مصر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، صفحة 550، جزء 15. بتصرّف.
  17. وهبة الزحيلي (1422ه)، التفسير الوسيط (الطبعة الأولى)، سوريا: دار الفكر، صفحة 2967، جزء 3. بتصرّف.
  18. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم: 5017، صحيح.
  19. محمد طنطاوي (1998م)، التفسير الوسيط (الطبعة الأولى)، مصر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، صفحة 550-551، جزء 15. بتصرّف.
  20. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عقبة بن عامر، الصفحة أو الرقم: 814، صحيح.
  21. ^ أ ب ت صديق خان (1992م)، فتح البيان في مقاصد القرآن، بيروت: المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر، صفحة 454-455، جزء 15. بتصرّف.
  22. رواه الألباني، في صحيح الترمذي، عن أبي سعيد الخدري، الصفحة أو الرقم: 2058، صحيح.
  23. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عائشة أمّ المؤمنين، الصفحة أو الرقم: 5016، صحيح.
4971 مشاهدة
للأعلى للسفل
×