قيس بن الملوح
قيس بن الملوح (24هـ - 68هـ)، وهو من أبرزالشعراء في العصر الأموي، اشتُهر بمجنون ليلى أو مجنون بني عامر، عاش في بوادي الحجاز العربية بينمكة والمدينة المنورة، وقد اختلف في نسبه فقيل إنّه من بني عقيل بن كعب بن ربيعة، وقيل إنّه ينتمي إلى جعدة بن بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وكان قد لقب بالمجنون لذهاب عقله بسبب فقده لمحبوبته التي تعلقت روحه بها.[١]
كما اختلفت الروايات في نسب قيس بن الملوح فقد اختلفت أيضًا في تحديد ملامح قصته الأولى مع ابنة عمه ليلى التي أحبّها، فقد قيل إنّهما تعارفا في أول صباهما حيث كانا يذهبان لرعي الماشية عند جبل يُسمى جبل الثوبان وظلا معًا على هذا الحال حتى تفتحت عواطفهما ووقع كل منهما في حب الآخر.[٢]
قد كانت ليلى بصيرة بالشعر ومطلعة على أيام العرب في العصر الجاهلي ووقائعهم في عصر صدر الإسلام، وكان فتيان قبيلة بني عامر يقبلون عليها يتناشدون الشعر وكان من بين هؤلاء الفتية قيس بن الملوح، وكانت ليلى العامرية بدورها تُبادل قيسًا الإعجاب فما كان في القبيلة مِن فتى أحبّ إليها من قيس بن الملوح، وقد لاحظ الفتية ذلك فإذا أراد أحد منهم حاجة من ليلى توسل بها إلى قيس بن الملوح.[٣]
قد اشتد بقيس بن الملوح الهيام فأراد أهله أن يدركوه فيخفّفوا عنه وطأة هذا العشق فساروا إلى والد ليلى ليزوّجوه إياها، فما كان من أبيها إلا أن رفض وأصرّ على رفضه سيرًا على نهج العرب في عدم تزويج بناتهم لمن يتشبب بهن وتذاع أخباره معهن، فاهتم قيس وحزن لذلك حزنًا شديدًا، وقد تقدم لخطبة ليلى رجل من الطائف فسارع والدها إلى تزويجها منه، ولعلّه أرغمها على ذلك فتزوجته وسارت معه إلى الطائف، وللتخفيف من حال قيس بن الملوح سار به والده إلى مكة حاجًا راجيًا من الله أن يرفق بحاله.[٤]
لقد تفتحت قريحة قيس بن الملوح الشعرية على ليلى العامرية التي كانت له مصدر الوحي والإلهام الإبداعي، فنظم فيها أرق وأصدق قصائده، وعبر فيها عن أشواقه لها ولوعة الحب وآلام الفراق[٥]، ومن أبرز أبياته التي قالها في ليلى حين منعوه أهلها منها:[٦]
أَرى أَهلَ لَيلى أَورَثوني صَبابَةً
- وَمالي سِوى لَيلى الغَداةَ طَبيبُ
إِذا ما رَأَوني أَظهَروا لي مَوَدَّةً
- وَمِثلُ سُيوفِ الهِندِ حينَ أَغيبُ
فَإِن يَمنَعوا عَينَيَّ مِنها فَمَن لَهُم
- بِقَلبٍ لَهُ بَينَ الضُلوعِ وَجيبُ
لقد تمكن قيس بن الملوح من توظيف كلماته لتسير في اتجاه واحد وهو حب ليلى، فترى العتاب يطلّ في البيت الأول محملًا بملامح الشفقة وآلام العشق، بالإضافة إلى كل تلك التناقضات والتخبطات التي يعكسها الشعور مقابل الأفعال التي كانت تصدر من ذوي محبوبته، ولا تخلو قصيدة من قصائد الغزل العذري من الحديث عن العذال وسوء فعالهم[٧]، كما في قول قيس بن الملوح:[٨]
كَثيرٌ مِنَ العُذّالِ ما يَترِكونَني
- لَعَمرُكِ ما في العاذِلينَ كَئيبُ
يَقولونَ لَو خالَفتَ قَلبَكَ لَاِرعَوى
- فَقُلتُ وَهَل لِلعاشِقينَ قُلوبُ
تتراوح قصائد ابن الملوح في الغزل بين المقطوعات الشعرية والقصائد متوسطة الطول، كما تظهر اللغة الشعرية في قصائده رقيقة واضحة سهلة المرمى، كما أنه يحرص على انتقاء الألفاظ المشبعة بالعاطفة والتي تستثير الذكريات والمشاعر[٩]، كما في قوله:[١٠]
سَأَبكي عَلى ما فاتَ مِنّي صَبابَةً
- وَأَندُبُ أَيّامَ السُرورِ الذَواهِبِ
وَلَم أَرَها إِلّا ثَلاثًا عَلى مِنىً
- وَعَهدي بِها عَذراءُ ذاتُ ذَوائِبِ
تَبَدَّت لَنا كَالشَمسِ تَحتَ غَمامَةٍ
- بَدا حاجِبٌ مِنها وَضَنَّت بِحاجِبِ
لقراءة المزيد حول الشاعر، اخترنا لك هذا المقال: قصة قيس وليلى.
جميل بن معمر
جميل بن عبد الله بن معمرالعذري (ت 82 هـ) ولم تُحدّد مصادر الأدب تاريخًا واضحًا لولادته، وهو شاعر أموي اشتهر بغزليّاته التي نظمها في ابنة عمه التي غدت محبوبته بثينة بنت حبأ بن حنّ بن ربيعة، إذ بات اسمه يقرن اسمه إلى اسمها في مصادر الأدب والشعر، وكانا يقيمان في منطقة وادي القرى في الحجاز، وقيل إنهما قد كانا صغيرين حين التفت كل منهما إلى الآخر وغدا له عاشقًا.[١١]
تروي مصادر الأدب والشعر قصة اللقاء الأول لجميل بمحبوبته بثينة، فقد كان جميل يرعى الإبل وقد أقبل بها إلى وادي بغيض تطل عليه مساكن أهل بثينة، وكانت بثينة تسير بالجوار ولما وجدت إبل جميل قامت بنهرها وضربها عابثة، فتنبه لها جميل فسبها وقامت هي بدورها بسبه ورد الشتيمة له، فاستملح سبابها ووقعت بثينة في قلبه[١٢]، وقال فيها شعره:[١٣]
وَأَوَّلُ ما قادَ المَوَدَّةَ بَينَنا
- بِوادي بَغيضٍ يا بُثَينَ سِبابُ
وَقُلنا لَها قَولًا فَجاءَت بِمِثلِهِ
- لِكُلِّ كَلامٍ يا بُثَينَ جَوابُ
لمّا استحكم حب بثينة في قلب جميل أخذ يتغنى بها ويشبب بها في شعره حتى ذاع أمرهما واشتهر بين قبائل العرب، وهذا ما دفع والدها لرفضه حينما تقدم لها خاطبًا، فقد خشي أن يلحقه عارها وأن يقال عنه زوج ابنته لمن شبب بها، ولعله قد طمع بمحو قصة جميل مع بثينة فزوجها لأول خاطب لها رجل من بني عذرة يدعى نبيه بن الأسود، إلّا أنّ أمر زواجها لم يكن ليحول بينها وبين جميل، فقد زاد ذلك نار حبه استعارًا فكانا يلتقيان بعد زواجها، وتساعدها أخواتها في التحايل على زوجها لتلتقي به.[١١]
وقد أثار أمر لقائهما الضغينة والحقد في قلوب القوم مما جعلهم يهجونه في شعرهم، فيرد هو عليهم بمثل ما قالوا ويقذع فيهم هجاءه، كما قاموا بهدر دمه واشتكوه إلى الوالي الذي سعى في طلبه فدفعه للهروب إلى اليمن، ولعل بثينة قد أصيبت بضيق في نفسها لما جرى بين جميل وأهلها[١٤]، واستشعر ذلك فقال لها مبررًا هجاءه لأهلها:[١٥]
بِأَوشَكَ قَتلًا مِنكِ يَومَ رَمَيتِني
- نَوافِذَ لَم تَظهَر لَهُنَّ خُروقُ
تَفَرَّقَ أَهلانا بُثَينٌ فَمِنهُمُ
- فَريقٌ أَقاموا وَاِستَمَرَّ فَريقُ
فَلَو كُنتُ خَوّاراً لَقَد باحَ مُضمَري
- وَلَكِنَني صُلبُ القَناةِ عَريقُ
كان جميل بن معمر من أبرز شعراء العصر الأموي وقد حكم له نقاد زمانه فقالوا إنه أشعر أهل الإسلام والجاهلية، فقد كان جميل بن معمر راوية للشاعر هدبة بن خشرم الذي كان راوية للحطيئة الذي كان شاعرًا معروفًا في الجاهلية والإسلام، كما كان راوية للشاعر زهير ابن أبي سلمى وابنه، وبذلك فإن جميل كان قد تشرب شعر الفحول وصنعتهم وتأسس عليها وكان بذلك شاعرًا مجيدًا.[١٦]
كان لشعر جميل بن معمر أثر بارز في شعر من بعده، فقد تداول الشعراء شعره واقتبسوا منه داعمين به ما ينظمونه من شعر، وهذا إنّما يدلّ على استحسان الشعراء لشعر جميل كما يدلّ على المكانة التي حازها في نفوسهم، ومن أبرز هؤلاء الشعراء المتاثرين بشعر جميل: الفرزدق وكثير عزة[١٧]، فقد أشار الفرزدق إلى بيت كثير عزة الذي يقول فيه:[١٨]
أُريدُ لَأَنسى ذِكرَها فَكَأَنَّما
- تَمَثَّلُ لي لَيلى بِكُلِّ سَبيلِ
معرضًا بذلك لسرقته الشعرية من شعر جميل بن معمر في قوله:[١٩]
أُريدُ لِأَنسى ذِكرَها فَكَأَنَّما
- تُمَثَّلُ لي لَيلى عَلى كُلِّ مَرقَبِ
يبدو أن الفرزدق قد غفل عن سرقاته الشعرية من جميل والتي لفته كثير عزة إليها[٢٠]، فهو يقول:[١٦]
ترى النّاس ما سِرنا يسيرون خلفنا
- فَإِن نَحنُ أَومَأنا إِلى الناسِ وَقَّفوا
وهو قريب إلى حد كبير من قول جميل بن معمر:[٢١]
نَسيرُ أَمامَ الناسِ وَالناسُ خَلفَنا
- فَإِن نَحنُ أَومَأنا إِلى الناسِ وَقَّفوا
على الرغم من أن جميل بن معمر قد عرف بفنون الغزل والنسيب إلا أنه كان قد نظم فيأغراض الشعر المتعددة كالهجاء، فقد عرف بهجائه الشديد لا سيما فيما قيل في أهل بثينة، ونظم كذلك في المدح والفخروالنقائض وغيرها ممّا نظم فيه العرب، كما أنه سار في كثير من قصائده على نمط القصيدة التقليدية في وقوفه على الأطلال[٢٢]، كما في قوله:[٢٣]
أَلا أَيُّها الرَبعُ الَّذي غَيَّرَ البَلى
- عَفا وَخَلا مِن بَعدِ ما كانَ لا يَخلو
تَذأَبُ ريحُ المِسكِ فيهِ وَإِنَّما
- بِهِ المِسكُ إِن مَرَّت بِهِ ذَيلَها جُملُ
امتاز شعر جميل بن معمر بالعفوية الواضحة والبعد عن التكلف والصنعة، كما اتصفت ألفاظه بالعذوبة والرقة والبعد عن الوحشية والالفاظ الغريبة، كما كان يوظفالمحسنات البديعية دون إغراق وتكلف، وامتازت تراكيبه بالسهولة والبعد عن التعقيد فجاء شعره على نحو من البلاغة والفصاحة.[٢٤]
لقراءة المزيد حول شعر جميل بثينة، اخترنا لك هذا المقال: خصائص شعر جميل بن معمر.
كثير عزة
كثير عزة(660م - 723م ) وهو كثير أو كُثيّر بن عبد الرحمن بن الأسود من مليح من خزاعة، اختلف في اسمه فقيل إنّ أهله قد أسموه كُثيّر على التصغير تحببًا، وقال آخرون إنّ أهله أسموه "كثيرًا" على صيغة التكبير، إلا أنه لما شب وكبر ورآه الناس ضئيل الحجم قصيرًا صغروا اسمه على سبيل النبز والسخرية وأمه تدعى جمعة بنت الاشيم وهي من بني خزاعة أيضًا ويكنى بأبي صخر، عرف واشتهر في كتب الأدب باسمه المنسوب إلى محبوبته عزة.[٢٥]
التقى كثير بعزة على ساحل البحر الأحمر حينما كان يسوق غنم عمه هناك، فمرّ بمكان اجتمعت فيه نسوة فسألهن عن مورد للماء يسقي منه غنمه فأرشدنه إلى محلة وجعلن عزة تقوده إليه وهي وقتئذ فتاة صغيرة في أول صباها، فأعجب بها ووقع حبها في قلبه، وعندما راح يسقي غنمه عادت إليه عزة ثانية وبيدها دراهم كانت النسوة قد دفعنها بها إلى كثير لتشتري كبشًا، فرد إليها دراهمها حتى يأتي بالكبش إليهن، وعندما جاءهن بالكبش رفض من النسوة الدراهم حتى تخرج عزة بالدراهم إليه فخرجت إليه وهي كارهة واستوفته دراهمه.[٢٦]
إن حب كثير لعزة وشغفه بها كان قد دفعه للتغزل والتشبب بها، وهذا بدوره كان الحائل الاساسي الذي منعه من الزواج بها، فقد سارع أهلها لتزويجها بأول خاطب لها، إلا أن زواجها لم يكن ليكفه عن التغزل بها، فقد أمعن في غزله الذي تأججت ناره بين بين قوة اليأس والتحدي، وكان لزواجها أثر في توجهه نحو المطولات الغزلية الباكية[٢٧]، ومنها:[٢٨]
وَلَمّا وَقَفنا والقُلوبُ عَلى الغَضا
- وَلِلدَّمعِ سَحٌّ وَالفَرائِصُ تُرعَدُ
وَبَينَ التَراقي وَاللَهاةِ حَرارَةٌ
- مَكانَ الشَجا ما إِن تَبوحُ فَتُبرَدُ
أَقولُ لِماءِ العينِ أَمعِن لَعَلَّه
- بِما لا يُرى مِن غائِبِ الوَجدِ يَشهَدُ
لم يتمكن كثير عزة من نيل الثقافة والعلم تبعًا لحياته التي فرضت عليه الكثير من الكد والجد، إلا أنه كان قد منح الشاعرية ولكن شاعريته هذه لم تصقلها الدربة والثقافة بقدر ما صقلها الحس المرهف، حيث إنّ جل الثقافة التي كانت متاحة له تتمثل في لقائه للشعراء والنقاد وحفظه للشعر القديم وحسب، وقد كان كثيرعزة في أول مسيرته الشعرية يُحاكي الشعراء فيأخذ مطلعًا ويكمل على منواله، كما كان يستعير أبيات من الشعر فيمزجها في قصيدته، وهذا ما دفع الكثير من النقاد للتشكيك في شاعريته واتهامه بالاصطراف.[٢٩]
على الرغم من أن كثير عزة كان قد صنف من شعراء الغزل العذري إلا أنّ شعره قد تضمّت في كثير من المواضع بعض الملامح التي تجعله يميل نحو الغزل الحسي، فيبدو انصرافه عن الحسيات في المواضع الأخرى من شعره وكأنه مجرد امتثال لقيم المجتمع وتقاليده، فيبدو شعره وكأنه يشكل الطلائع الاولى للغزل الصريح في العصر الأموي[٣٠]، ومن أبرز قصائده التي تبرز فيها الحسيات قوله:[٣١]
كَأَنَّ الريحَ تَثني حينَ هَبَّت
- وَلَو ضَعُفَت بِهِنَّ فَروقَ ضالِ
كَسَونَ الرَيطَ ذا الهُدبِ اليَماني
- خُصورًا فَوقَ أَعجازٍ ثِقالِ
وَيَجعَلنَ الخَلاخِلَ حينَ تُلوى
- بِأَسؤقِهِنَّ في قَصَبٍ خِدالِ
كثيرًا ما كان كثيرعزة يلجأ إلى الطبيعة لرسم صور تمثيلية لمحبوبته عزة وبيئتها، ممّا أضفى على شعره نوعًا من العذوبة والرقة وخفّف من حدّة الصنعة والتكلف فيه، كما أضفت على التشبيه الذي كان يوظفه سحرًا وتمازجًا بين الإنسان والبيئة المحيطة[٣٢]، كما في قوله:[٣٣]
فَما رَوضَةٌ بِالحَزنِ طَيِّبَةَ الزَرع
- يَمُجُّ النَدى جَثجاثُها وَعَرارُها
بِمُنخَرِقٍ مِن بَطنِ وادٍ كَأَنَّما
- كَأَنَّما تَلاقَت بِهِ عَطّارَةٌ وَتِجارُها
أُفيدَ عَلَيها المِسكُ حَتّى كَأَنَّها
- لَطيمَةُ دارِيٍّ تَفَتَّقَ فارُها
لقراءة المزيد عن الشاعر، اخترنا لك هذا المقال: نبذة عن كثير عزة.
سعيد بن عبد الرحمن
سعيد بن عبد الرحمن بن حسانبن ثابت من بني النجارولد بمكة وبدء قول الشعر في خلافة سليمان بن عبد الملك ما بين العامين (96هـ -99 هـ) وهو من أبرز شعراء الغزل العذري الحضري في الحجاز، وكانت له علاقات واسعة مع الخلفاء والأمراء الأمويين، كالخليفة الوليد بن يزيد الذي توطدت علاقته به منذ أن كان أميرًا ووليًا لعهد عمه هشام بن عبد الملك.[٣٤]
كان الوليد بن يزيد قد سمع بسعيد بن عبد الرحمن وشغف قلبه بقصيدة له، ولعلّه قد عرفه حين التقاه أول مرة فسأله مُتحققًا: أأنت ابن عبد الرحمن فأجاب بنعم[٣٥]، وطلب إليه ان ينشده القصيدة المعنية التي يقول فيها:[٣٥]
أبائِنةٌ سُعدَى ولَمْ تُوفِ بالعَهدِ
- ولَمْ تَشْفِ قلبًا تيمتْهُ على عَمْدِ
نَعَم أفمودٍ أنتَ إن ْشَطّتِ النّوَى
- بِسُعْدى ومَا مِنْ فِرْقة الدّهْرِ مِنْ ردِّ
كَأنْ قدْ رَأيتُ البَينَ لا شَيْءَ دونهِ
- فَمِ الآنَ تُعلنُ ما تسرّ مِنَ الوَجْدِ
على الرغم من أنّ الشاعر سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت لم يكن ليدرج ضمن مصادر الادب والشعر من بين شعراء الغزل العذري، ولكن شعره في الغزل كان قد لبى مضامين وشروط شعر الغزل العذري، فهو يقتصر على ذكر محبوبة واحدة يتغنى بها وبحبه لها، ويعبر في شعره عن أشواقه ويذكر كيد العذال والحساد ومعاناته في سبيل الوصال، ويكتفي بالتعبير عن المشاعر بدلًا من ذكر الأوصاف الحسية[٣٦]، وذلك على نحو قوله:[٣٧]
لَعَلّكَ مِنْها بَعد أنْ تَشْحَطَ النّوَى
- مُلاقٍ كَما لاقَى ابنَ عَجْلانَ مِنْ هِنْدِ
َفويْلُ ابنِ سُلمَى خُلّةٌ غَيرَ انّها
- تَبلّغ مِنّي وهْيَ مَازِحَةٌ جدّي
وتَدنُو لنا في القَوْلِ وهْيَ بَعيدةٌ
- فَما إنْ بِسُلْمَى مِنْ دنوٍ ولا بُعدِ
ما كان من الوليد بن يزيد بعد أن سمع إنشاد سعيد بن عبد الرحمن إلا أن انحدرت الدموع على خديه تأثرًا، وأمر له بأن يقيم عنده في القصر وبعطاء جزيل يغنيه عن معونة أحد غيره فظل معه زمانًا يقيم عنده حتى شاء فاستأذن الوليد بن يزيد وانصرف إلى شأنه.[٣٧]
داود بن سلم
داود بن سلم (ت120هـ) مولى بني تيم بن مرة، وهو شاعر مقلّ مخضرم عاش في العصر الأموي والعصر العباسي، لقب بالآدم لشدة سواد بشرته، وكان إلى جانب قبح وجهه أشد الناس بخلًا، وقد روي عنه أن القوم كانوا قد طرقوا بابه بالعقيق فسألوه القرى فأبى عليهم ذلك قائلًا لا عشاء لكم عندي ولا قرى[٣٨]، فعيروه بما قاله من شعر يفخر به وقالو ألست القائل:[٣٨]
يا دارَ هِندٍ ألّا حُيّيت من دَارِ
- لمْ أقضِ مِنكِ لباناتي وأطْوارِ
عُوّدّتُ فيها إذا مَا الضّيفُ نَبّهني
- عُقْر العشاري على يسرٍ وإعسارِ
فما كان منه إلا أن يرد عليهم بقوله: لستم من أولئك الذي عنيت.[٣٨]
تذكر مصادر الأدب من بعض نوادره أنه لمّا نزل ببيت حرب بن يزيد بن معاوية قام غلمانه فاستقبلوه وحملوا عنه متاعه وأدخلوه المنزل[٣٨]، حتى إذا لقي حرب بن يزيد أنشده ما نظم فيه من الشعر مادحًا، وقام حرب بن يزيد بإكرامه وأغدق عليه، وقال له لا إذن لك علي متى جئتني، وقام داود ليرتحل فظل غلمان حرب جلوسًا فتعجب داود بن سلم لذلك وظن أن حربًا مغضب منه، فسأله حتى تبين أن الغلمان يعينون الضيف لجوارهم ودخول بيتهم ولكنهم لا يعينونه على الخروج منه.[٣٨]
على الرغم من جفاوة طبع الشاعر داود بن سلم فإنّه يعدّ من شعراء الغزل العذري الرقيق، فقد روت مصادر الادب أنه كان ممن ذاق مرارة الحب والهوى، حتى بات كل شيء يذكره بمحبوبته ولا يمر وقت إلا وتتراءى محبوبته أمام ناظريه تخيلًا وتذكرى، فلا تبرح ذكراها رأسه، فغدا سقيم الهوى لا يرجو منه شفاء[٣٩]، ويقول في ذلك:[٣٩]
وما درّ قرن الشمس إلا ذكرتها
- وأذكرها في وقتِ كلّ غُروبِ
وقد شفني شوقي وأبعدني الهوى
- وأعيا الذي بي طبّ كلّ طَبيبِ
وأعْجَبُ أنّي لا أموتُ صَبابةً
- وما كمدٌ من عاشقٍ بعجيبِ
لقد انكب داود بن سلم على نظم شعر الغزل العذري العفيف بعد انصرافه عن النظم في نفسه من المفاخر وشعر الاعتزاز، وكان غزله رقيقًا عفيفًا مصحوبًا بحالة من اليأس والحرمان والمعاناة والألم إلى الحد الذي دفعه لتمني الموت طلبًا للراحة وطمأنينة النفس بعد طول قلق ومعاناة سببه لهم الحب والهوى[٤٠]، لذلك فإنّه يتجنب العتاب وأشكاله ويشعر بأنه لا جدوى منه فيقول:[٤٠]
وكلُّ محبٍّ قدْ سلا غيرَ أنَّني
- غريبُ الهوَى يا ويحَ كلِّ غريبِ
وَكَمْ لامَ فِيها ِمنْ أخٍ ذِي نَصيحةٍ
- فَقُلْتُ لَهُ أقْصِرْ غَيْر مُصيبِ
أِتَأْمُر إنسانًا بِفرْقَةِ قَلْبِهِ
- أَتَصْلُحُ أجْسامٌ بِغيرِ قُلوبِ
المراجع
- ↑ قيس بن الملوح، ديوان قيس بن الملوح، صفحة 15. بتصرّف.
- ↑ قيس بن الملوح، ديوان قيس بن الملوح، صفحة 7. بتصرّف.
- ↑ قيس بن الملوح، ديوان قيس العقيلي العامري، صفحة 2. بتصرّف.
- ↑ قيس بن الملوح، ديوان القيس العقيلي العامري، صفحة 3. بتصرّف.
- ↑ حافظ محمد عباس الشمري، عبد علي عبيد الشمري، اتجاه الغزل العذري وسماته الفنية في العصر الأموي، صفحة 11. بتصرّف.
- ↑ "أرى أهل ليلى أورثوني صبابة"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 10/1/2021.
- ↑ كريم قاسم الربيعي، الغزل العذري حتى نهاية العصر الأمويأصوله وبواعثه وبنيته الفنية، صفحة 30. بتصرّف.
- ↑ "كثير من العذال ما يتركونني"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 10/1/2021.
- ↑ كريم قاسم الربيعي، الغزل العذري حتى نهاية العصر الأموي أصوله وبواعثه وبنيته الفنية، صفحة 126. بتصرّف.
- ↑ "سأبكي على ما فات مني صبابة"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 10/1/2021.
- ^ أ ب جميل بن معمر، ديوان جميل بثينة، صفحة 5. بتصرّف.
- ↑ جميل بن معمر، ديوان جميل بثينة، صفحة 6. بتصرّف.
- ↑ "وأول ما قاد المودة بيننا"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 11/1/2021.
- ↑ جميل بن معمر، ديوان جميل بثينة، صفحة 7. بتصرّف.
- ↑ "وما صائب من نابل قذفت به"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 11/1/2021.
- ^ أ ب عباس محمود العقاد، جميل بثينة، صفحة 45. بتصرّف.
- ↑ عباس محمود العقاد، جميل بثينة، صفحة 46. بتصرّف.
- ↑ "ألا حييا ليلى أجد رحيلي"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 11/1/2021.
- ↑ "فإن تك حلت فالشعاب كثيرة"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 11/1/2021.
- ↑ عباس محمود العقاد، جميل بثينة، صفحة 47.
- ↑ "ونحن منعنا يوم أول نساءنا"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 11/1/2021.
- ↑ عمر فروخ (1983)، دراسات في الأدب والعلم والفلسفة، لبنان:دار لبنان للطباعة والنشر، صفحة 43. بتصرّف.
- ↑ "ألا أيها الربع الذي غير البلى"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 11/1/2021.
- ↑ سارة عبابسة، بیئات الغزل في العصر الأموي دراسة موازنة بین القصیدة البدویة والقصیدة الحضریة، صفحة 103. بتصرّف.
- ↑ كثير عزة، ديوان كثير عزة، صفحة 11. بتصرّف.
- ↑ كثير عزة، ديوان كثير عزة، صفحة 13. بتصرّف.
- ↑ كثير عزة، ديوان كثير عزة، صفحة 21. بتصرّف.
- ↑ "أأطلال سلمى باللوى تتعهد"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 11/1/2021.
- ↑ كثير عزة، ديوان كثير عزة، صفحة 14. بتصرّف.
- ↑ "شعر كثير عزة قراءة في الانساق الثقافية المضمرة"، لارك، 2012، العدد 10، صفحة 102. بتصرّف.
- ↑ "عرفت الدار كالخلل البوالي"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 11/1/2021.
- ↑ مشاعر جبارة عبد الرحيم جبارة، الغزل العذري عند كثير عزة، صفحة 70. بتصرّف.
- ↑ " وإني لأسمو بالوصال إلى التي"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 13/1/2021.
- ↑ محمود محمد كحيل، شعراء الغزل في حواضر الحجاز في الثلث الأول من القرن الهجري، صفحة 251. بتصرّف.
- ^ أ ب الأصفهاني، الأغاني، صفحة 269. بتصرّف.
- ↑ محمود محمد كحيل، شعر الغزل في حواضر الحجاز في الثلث الأول من القرن الهجري، صفحة 177. بتصرّف.
- ^ أ ب الأصفهاني، الأغاني، صفحة 270.
- ^ أ ب ت ث ج ياقوت الحموي، معجم الأدباء، صفحة 1282. بتصرّف.
- ^ أ ب محمود محمد كحيل، شعر الغزل في حواضر الحجاز في الثلث الأول من القرن الهجري، صفحة 189. بتصرّف.
- ^ أ ب محمود محمد كحيل، شعر الغزل في حواضر الحجاز في الثلث الأول من القرن الهجري، صفحة 190. بتصرّف.