شعر الحكمة عند العرب

كتابة:
شعر الحكمة عند العرب

تعريف شعر الحكمة

كيف تجلّت الحكمة الإنسانية في شعر العرب؟

عُرفت الحكمة قديمًا بأنّها معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، وهو تعريف الحكمة في اللغة العربيّة، فالحِكَمُ هي الكلام الذي يقلّ لفظه ويجلُّ معناه[١]، وقد اشتُهر العربُ بحكمتهم إضافةً إلى بلاغتهم وفصاحتهم، فما كان منهم إلا أن سطّروا حكمتهم في أشعارهم حتى يُخلِّدها الزمان فلا تُنسى، وقد أكَّد النبي -صلّى الله عليه وسلّم- بعد بعثته حِرص المؤمن على نيل الحكمة بدوام البحث عنها، فقال: "الحكمة ضالّة المُؤمن"[٢]، فالضّالّة هو ما يفتقده الإنسان، وبما أنَّ الشيء الذي يفتقده يكون شديد الأهمية بالنّسبة إليه، فإنّ الحكمة كذلك بالنسبة للمؤمن، لا بُدّ أن يكون حريصًا على السعي في سبيلها، والنّهل من معينِها، ويصدّق هذا أيضًا ما روي عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: "إنّ من الشعرِ لحكمة"[٣]، ففسّر العلماء كلامه بأنّ بعض الشعر فيهِ من الكلامِ النافع والمفيد ما يمنعُ الإنسانَ من أن يكون سفيهًا لا قيمة لفكره.[٤]


من ذلك يتبيّن أنّ الشعر العربيّ يشتمل على الحكمة التي تزخر بالموعظة وخُلاصة التجارب الحياتية، كما يشتمل على بقية أغراض الشعر كالغزل والهجاء والمديح وغيرها، فهو "ديوان العرب" كما عبّر عنه أبو فراس الحمداني يُخلّد في ثناياه كل تاريخ ثقافتهم العريق.[٥]

نشأة شعر الحكمة

ما هي البذرة الأولى لنشأة شعر الحكمة عند العرب؟

إذا ما عُدنا إلى تاريخ شعر الحكمة سنجد أنَّ هذا الغرض الشعري قديم قِدَم الشّعر ذاته، لأنّ الحكمة حين تفيضُ على لسان الإنسان لا بدّ أن يُعبّر عنها بالنثر أو بالشعر، فيصعب تحديد نشأة شعر الحكمة على وجه الخصوص، فوجوده في الشعر العربي على مدى العصور المختلفة لا بدّ منه، لأن الحُكماء موجودون في كل زمان ومكان، فلا يصعب عليهم أن يضمّنوا تلك الحكمة في شعرهم كما يضمنوها في نثرهم وسائر تعبيراتهم اللغوية.[٦]


في هذا الميدان لا بدّ من التذكير بأنّ النَّظم كان أداةَ التّواصل للعرب فيما بينهم، وهذا التواصل هو أحد فوائد الشعر العربي المهمّة، وأداة لتداول المعلومات والأفكار، لشدة استخدامهم وحبّهم لنظم الأبيات الشعرية، فكان من الطبيعيّ أن يشتمل الشعر على الحكمة التي يحتاجها عامة الناس في كل زمان، فيتحصل بذلك وصول الفكر الذي يريد إيصاله حكيم ما إلى الجمع الذي يريد مخاطبته في مجتمعه.[٦]

شعر الحكمة في العصر الجاهلي

تكاد تكون الحكمة في الشعر الجاهلي مبعثرةً في القصائد الكثيرة، فقد تحتوي قصيدة من قصائد المديح مثلًا على بعض أبيات الحكمة، وقد تحتوي قصيدة الوصف أيضًا على هذا النوع من الشعر، ويرجع ذلك في هذا العصر إلى أنّ العقل العربيّ في هذه المرحلة لم يكن ذا نِتاج فكريّ خصب، وإنما كان تابعًا للفطرة البسيطة التي يحيا على أساسها الإنسان العربي في صورته الجاهلية، فكان شعر الحكمة في العصر الجاهلي متنوّع الانتماء لعدد كبير من القصائد والشعراء الذين امتزجتْ في شعرهم الحكمة بأغراض أخرى مهمتها التعبير عن الوجدان.[٧]

شعر الحكمة في العصر الإسلامي

يُمكن القول إنّ الإسلام حين دخل دينًا جديدًا على الجزيرة العربية، قام برفع مستوى العقليّة الفكريّة عند الإنسان العربيّ، فكانت تَعاليمه التي بدأت بكلمة "اِقرأ" بمثابة نهضة فكريّة شاملة تعمل على تعزيز القيم العربية وإقامة أركانها على أساس العلم، ولا سيّما أنّ رسالة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- تدعو إلى احترام العقل والحثّ على تأمُّل الكون للوصول إلى جوهر الرسالات السماوية "التوحيد"، فاختلفت زوايا الرؤى الفكرية لدى الشعراء ممّا جعل لشعر الحكمة اتّجاهًا دينيًّا يأخذ منحى الزهد في الدنيا والرغبة في الحياة الآخرة التي هي دار الخلود.[٨]

شعر الحكمة في العصر الأموي

لم تختلف الحكمة في العصر الأموي عن الحكمة التي تجلّت في عصر صدر الإسلام، إذ ما زال الصراعُ قائمًا بين من دخلوا في الإسلام وبين من لم يقبلوا به، وما زال شعر الحكمة في هذا العصر يحتوي في معناه الضمنيّ على ترغيب الإنسان في النظر المُعتَبِر إلى الحياة التي لا تدوم لأحد ولا تستقر على حال واحد.[٩]

شعر الحكمة في العصر العباسي

في العصر العباسي بدأ شعر الحكمة يتّجه نحو التجديد في المضمون، لا سيّما أنّ العصر العباسيّ هو عصر ازدهار الشعر في مُختلف النّواحي، فكان لا بُدّ أن يشمل هذا الازدهار طرق تعبير الشعراء عن الحكمة التي يريدون أن يثبتوها للناس، ومن جهةٍ أخرى فإنّ العصر العباسيّ هو عصر انفتاح العرب على مَن جاورهم من الشعوب، ممّا أدّى إلى تأثُّرهم بالثقافات المختلفة وأهمّها المنطق والفلسفة، فاتّخذ شعر الحكمة في هذا العصر منحى فلسفيًا واضحًا.[١٠]


لقراءة المزيد، ننصحك بالاطّلاع على هذا المقال: شعر الحكمة في العصر العباسيّ.

خصائص شعر الحكمة

ما هي المحاور التي تميّز بها شعر الحكمة عند العرب؟

يتميّز شعر الحكمة بأنّه يدور في فلكٍ واحدٍ رُغم محاولات التجديد التي اعترتْه خلال العصور المتعددة، ولكنّها كانت سِمةً مفيدةً في هذا المجال، إذا إنّ التقليد هنا أكسبَ المعاني نوعًا من الثبات، لا سيّما أنّ هذا النوع من الشعر كان توضيحًا لعِبرةٍ في أمرٍ ما من الأمور الإنسانية، أو تلخيصًا لتجربةٍ شخصيةٍ حميمةٍ عاشها أحدُ الشعراء، مثل وفاة ابن من أبنائه وتغيُّر نظرته للحياة إثر ذلك، أو وصايا الأمهات لبناتهنّ، وتتغيّر أنواع الحكمة التي ترد في شعر العرب حسب المناسبة التي تُنظم فيها القصيدة، ويُجسّد هذا الشعر بدوره الشكل الأسمى لدعمِ المُثُل العليا والحثّ على التمسُّك بها والعمل بمضمونها، وصولًا إلى أكثر ما يستطيعه الإنسان من التحلي بالأخلاق الفاضلة.[١١]


من هنا يُمكن القول إن معظم شعر الحكمة كان يدور في محاور محددة حول فهم الحياة والكون، حسب المرحلة العمرية للشاعر نفسه، وحسب التجارب الحياتية والشعورية التي تعرض لها في مواقف عديدة، وفيما يلي أهم النقاط التي دار حولها شعر الحكمة في معظم العصور:[١٢]


  • الحِكم الأخلاقيّة: وهي الحكم التي تدور حول موضوع حُسن الأخلاق والتعامل مع الناس بالإحسان، كالتسامح والكرم والصداقة والحث على الجد والاجتهاد والتعاون والاتحاد بين الناس، والحرص على حُسن الكلام وتقويم اللسان، والشجاعة وكرم النفس والصدق والوفاء والأمانة، وغيرها من الأخلاق الحميدة التي يجب أن يتحلّى بها الإنسان.
  • الحكم الدينيّة: وهي الحكم التي زرع الإسلام ضرورة التفكير بها، مثل حتمية الموت، وحرْص الإنسان على كلمة الحق وعمل الخير، ووجوب التفاؤل، والرضا بالقضاء والقدر، والصّبر على مصاعب الحياة للظفر بنعيم الآخرة.
  • الحكم الإنسانيّة: وهي الحكم التي تشمل ما يتحلّى به العقل الإنسانيّ من رجاحة العقل وحسن الرأي، والكرامة والتربية التي يُنشَّأ عليها الجيل القادم بمختلف المعايير.

شعراء شعر الحكمة

من هم الشعراء الذين اشتُهِروا بترديد الحكمة في أشعارهم؟

إذا ما تتبّع الدارس الشُّعراء الذين نظموا الحكمة فإنّ مئات الشعراء سيكون لهم نصيبٌ من الذِّكر، ولكن الشهرة لم تُكتَب لجميعهم في هذا المضمار، وإنّما كُتبت لبعضهم ممّن أكثر منها في شعره، أو اقتصر عليها فلم ينظم إلا حكمًا، كالإمام الشافعي وابن الوردي وغيرهما، وسيأتي هنا بيان لبعض الشعراء الذين اشتُهروا في هذا الميدان حسب العصر الذي عاش فيه كلٌّ منهم:[٧]

الشعراء الجاهليون

من الشعراء الجاهليين الذين برزوا في هذا اللون ما يأتي.

زهير بن أبي سلمى

هو زهير بن أبي سلمى ربيعة بن رياح بن قرّة بن الحارث، من بني مزينة، وُلد في سنة 530 م على الأرجح، واختُلف حول وفاته فرجّح البغدادي في خزانة الأدب أنّها كانت في عام 611 م، وممّا يُميّز هذا الشاعر الفذ أنّ الكثير من أهله كأبيه وخاله وولَديه واثنين من أبناء حفدته وزوج أمه جميعهم من الشعراء البارزين المشهورين، وقد أكثر هذا الشاعر من شعر الحكمة حتى اشتُهر به[١٣]، ومن أجمل أبيات الشعر الجاهلي قوله:[١٤]


ومن يغترب يحسب عدوًّا صديقَهُ

ومَن لا يُكرِّم نفسَهُ لا يُكرَّمِ

ومهما تكُنْ عند امرئٍ من خليقةٍ

وإن خالها تخفى على الناسِ تُعلَمِ

وكائنٍ ترى من صامتٍ لكَ مُعجِبٍ

زيادته أو نقصه في التكلُّمِ

طرفة بن العبد

هو طرفة بن العبد بن سفيان بن مالك بن ضبيعة، من شعراء المعلقات كما هو حال زهير بن أبي سلمى أيضًا، وهو مِن أبرز الشعراء الذين تغنّوا بألوان شعر الحكمة في العصر الجاهلي إذ فاضت على ألسنتهم، وقد ولد في البحرين في بيتٍ عريق الأصل، نشأ يتيم الوالدِ، ومعنى اسمه هو المال القديم الموروث، كان حادّ الذكاء، جريئًا لا يخشى أحدًا في شِعره[١٥]، ومن أبياته في الحكمة قولُه:[١٦]


أرى الموتَ يعتامُ الكرامَ ويصطفي

عقيلة مالِ الفاحشِ المتشدّدِ

أرى العيش كنزًا ناقصًا كلّ ليلةٍ

وما تنقصُ الأيامُ والدّهرُ ينفدِ

الشعراء المخضرمون

من الشعراء المخضرمين الذين برزوا في هذا اللون ما يأتي.

حسان بن ثابت

شاعر النبي -صلّى الله عليه وسلّم-، حسّان بن ثابت بن المنذر بن حرام، مِن قبيلة الخزرج الأزديّة، وقد أجمع العلماء على أنّه عاش مئةً وعشرين سنة، ستّون منها في الجاهلية، وستّون منها في الإسلام، وهذا ما جعل منه شاعرًا مخضرمًا، أي شاهدًا لكلا العصرين. وقد ذكر المؤرخون أنه وُلد قبل ولادة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، وتُوفّي سنة 50 للهجرة في خلافة معاوية بن أبي سفيان[١٧] ، ومن بعضِ أشعارهِ في الحكمة:[١٨]


أخِلّاءُ الرَّخاءِ هم كثيرٌ

ولكن في البلاءِ همُ قليلُ

فلا يغرُركَ خُلَّةُ مَن تؤاخي

فما لكَ عندَ نائبةٍ خليلُ

وكلُّ أخٍ بقولُ أنا وفيٌّ

ولكن ليس يفعلُ ما يقولُ

كعب بن زهير

هو الشاعر المخضرم الصحابي كعب بن زهير بن أبي سلمى المزني، يُنسب إلى إحدى القبائل المُضريّة، ولد في الجاهلية وأسلم حين انتشر الإسلام واكتملت قوّته، وقصة إسلامه مشهورة إذ كان قد عرّض بالنبي صلى الله عليه وسلم حين أرسل لأخيه شعرًا ينهاهُ فيه عن الإسلام، فأوعده النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى ضاقت به السبل فأتى كعب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- مُعتذرًا بقصيدته المشهورة "بانت سعاد" كما اشتهرت باسم البردة لأن النبيّ حين سمع بيتًا من أبياتها خلع بردته على كعب وأهداها إليه لما سرّه منه. [١٩] يقول كعب بن زهير في قصيدته "بانت سعاد" معبرًا عن الحكمة: [٢٠]

وقالَ كلُّ خليلٍ كنتُ آمُلُهُ

لا ألهيَنَّك، إني عنك مشغولُ

فقلتُ خلوا سبيلي لا أبا لكمُ

فكلُّ ما قدّرَ الرحمنَ مفعولُ

كلُّ ابنِ أنثى وإن طالتْ سلامتُهُ

يومًا على آلةٍ حدباءَ محمولُ

الشعراء الإسلاميون

من الشعراء الإسلاميّين الذين برزوا في هذا اللون ما يأتي

الإمام عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه

مِن بين الشعراء الإسلاميّين لا بُدّ من الإشارة إلى الصحابيّ الجليل علي بن أبي طالب -كرّم الله وجهه-، ابن عمّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- من بني هاشم، إذ زخر شعره بالحكمة، وكان أوّل الناس إسلامًا في صغر سِنّه، سمّتْه والدتهُ "حيدرة"[٢١]، ومن بليغ شعره في الأدب والحكمة:[٢٢]

وكلّ مودّةٍ لله تصفو

ولا يصفو مع الفِسقِ الإخاءُ

وكلُّ جراحةٍ فلها دواءٌ

وسوءُ الخلق ليس له دواءُ

وليس بدائمٍ أبدًا نعيمٌ

كذاكَ البؤسُ ليس لهُ بقاءُ

الحطيئة

من الشعراء الذين عاشوا في العصر الإسلامي ونطقوا بشعر الحكمة "الحطيئة"، وهو لقبٌ لُقّب به، أما اسمه فهو جرول بن أوس بن مالك بن جؤبة، من قبيلة مُضر، وكان يُسمى أيضًا "أبا مُليكة"، وُلد في أواخر القرن السادس للميلاد، واشتُهر ببراعته في جميع أغراض الشعر العربي من مديح وهجاء وفخر وغيرها،[٢٣] ومن أبياته في الحكمة قوله في قصيدة " إذا خافك القوم اللئام": [٢٤]

إذا خافك القومُ اللِّئامُ وجدتَهم

سِراعًا إلى ما تشتهي وتريدُ

وإن أمِنوا شرَّ امرِئٍ نصبوا لهُ

عداواتهم إمّا رأوهُ يحيدُ

فَداوِهم بالشرِّ حتى تُذِلَّهم

وأنت إذا ما رُمتَ ذاكَ حميدُ

وهم إن أصابوا منكَ في ذاكَ غفلةً

أتاكَ وعيدٌ منهمُ ووعيدُ

فلا تَخشَهُم واخشُن عليهم فإنهم

إذا أمنوا الصّيال منك أسودُ

الشعراء الأمويون

من الشعراء الأمويين الذين برزوا في هذا اللون ما يأتي.

الأخطل

هو غيَّاث بن غوث بن طارقة بن عمرو، كُنيته أبو مالك ولقبه الأخطل، وُلد في أواخر السنة الثامنة للهجرة على وجه التّقريب، وإن لم يكن مُكثِرًا من الغرض الذي تقدّم الحديث عنه، فليس من شعراء الحكمة المَعروفين بذلك، إلا أنّه أحد الشعراء المشهورين بإجادة الشعر[٢٥]، ومن ذلك قوله في مضمار التعقُّل وضرورة الاعتماد على الفعل عوضًا عن كثرةِ الكلام:[٢٦]

إنَّ الكلامَ لَفِي الفؤادِ وإنّما

جُعل اللسانُ على الفؤادِ دليلًا

المقنع الكندي

هو محمد بن ظفر بن عمير، من قبيلة كندة، ولد في بيتٍ جاهٍ وسيادةٍ، وكان أكثر ما يتميّز به وسامتُه الشديدة، تلك التي جعلته لا يمشي إلا مقنَّعًا، فما مشى دون قناعٍ إلا أصابته عينٌ فمرضَ واشتكى، فلُقِّب بهذا اللقب. هو شاعر سمحٌ كثير السخاء، ورغم قلة شعره إلا أنه كان فصيحًأ مجيدًا لفنون الشعر[٢٧]، ومن شعره الذي قاله في مقابلة الإساءة بالإحسان لكل بني قومه: [٢٨]

ولا أحملُ الحقدَ القديمَ عليهمُ

وليس كريمُ القومِ من يحملُ الحِقدا

فذلكَ دأبي في الحياةِ ودأبهم

سجيس الليالي، أو يُزيرونَني اللحدا

لهم جُلُّ مالي إن تتابعَ لي غِنىً

وإن قلَّ مالي لن أكلِّفَهم رفدا

الشعراء العباسيون

من الشعراء العباسيّين الذين برزوا في هذا اللون ما يأتي.

المتنبي

لا يُمكن أن يأتي ذِكر الشعراء العباسيّين دونَ المُرور على شعر حكمة للمتنبي، مالئ الدنيا وشاغل الناس، أبو الطيب أحمد بن الحسين الجعفيّ الكوفيّ، وُلدَ في الكوفة سنة 303 للهجرة، في مكان يُسمى "كندة"[٢٩]، ومن أبلغ ما قاله مستخدمًا سحر بيانِهِ الآسر:[٣٠]

إذا ترحَّلتَ عن قومٍ وقد قدِروا

ألا تُفارقهم فالرَّاحلونَ همُ

شرُّ البلادِ مكانٌ لا صديقَ به

وشرُّ ما يكسبُ الإنسانَ ما يصمُ

أبو تمام

الشاعر الذي حيّر الشعراء، المجدّد في طرائقه التي لم يأتِ أحدٌ بمثلها، حبيب بن أوس الطائي، نشأ في مصر وأخذ العلم والأدب عن علمائها، حتى نبغ فيها وذاع صيتهُ بين الشعراء ببلاغته ونبوغه، وشهد له كبار الشعراء كالبحتري وغيره، وله الكثير من القصائد التي تتجه نحو التجديد في الصورة الفنية التي بدأت في العصر العباسي تأخذ منحى مختلفًا يمكّنها من الازدهار، [٣١]ومن بعض أبيات أبي تمام في الحكمة قولهُ: [٣٢]

إذا جاريتَ في خُلُقٍ دنيئًا

فأنتَ ومن تُجاريهِ سواءُ

رأيتُ الحرَّ يجتنبُ المخازي

ويحميهِ عن الغدر الوفاءُ

لقد جرّبت هذا الدهر حتى

أفادتني التجارب والعناءُ

فلا والله ما في العيشِ خيرٌ

ولا في الدنيا إذا ذهبَ الحياءُ

إذا لم تخشَ عاقبةَ الليالي

ولم تستَحِ فاصنعْ ما تشاءُ


من كل ما سبق يتبيّن أنّ الحكمة محور يدور حوله أغلب الشعراء حين يتقدّم بهم العمر إلى مرحلة كافية للتّعبير عن خلاصة التجربة الإنسانيّة، كما أدّى تأثُّر الشُّعراء ببعضهم دورًا كبيرًا في تنوّع طرق الصنعة الفنية للأساليب الشعرية ضمن غرض الحكمة ذاته.[٧]


لقراءة المزيد، ننصحك بالاطّلاع على هذا المقال: شعراء الحكمة في العصر العباسي.

قصائد من شعر الحكمة

هل توجد قصائد برزت فيها الحكمة سمةً أساسيّة؟

فيما تقدّم من ذكر الشعراء لم يتّسع المقام لذكر شعراء العصر الأيوبيّ والعصر العثمانيّ والعصر المملوكيّ، والعصور الأخرى، ولا سيّما شاعر البردة الشهير الإمام البوصيريّ، ولا يخفى ما في هذه القصيدة من مدح للنبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، ولكنّها تكاد تكونُ في مجملها مجموعةً من الحكم التي توجه الموعظة للإنسان، كما يُمكنُ هنا أن يُذكر الشاعر ابن الوردي بلاميّته المعروفة وما فيها من حكمة بليغة جملةً وتفصيلًا.[٣٣]


  • يقول الإمام البوصيري في قصيدة البردة الشريفة:[٣٤]

والنفسُ كالطفلِ إن تُهملهُ شَبَّ على

حُبِّ الرضاعِ وإن تفطمهُ ينفَطِمِ

فاصرف هواها وحاذِر أن تولّيه

إن الهوى ما تولّى يُصمِ أو يصِمِ

وراعها وهي في المالِ سائمةٌ

وإن هي استحلتِ المرعي فلا تسمِ

كم حسَّنتْ لذّة للمرء قاتلةً

من حيث لم يدرِ أنَّ السمَّ في الدسمِ

واخشَ الدسائسَ من جوعٍ ومن شبعٍ

فربَّ مخمصةٍ شرٌّ من التُّخَمِ

وخالفِ النفسَ والشيطانَ واعصِهِما

وإن هما محّضاكَ النُّصحَ فاتَّهِمِ

ولا تُطع منهما خصمًا ولا حكمًا

فأنت تعرفُ كيدَ الخصمِ والحكَمِ
  • يقول ابن الوردي في قصيدةِ: نصيحة الإخوان ومرشدة الخلّان[٣٥]

اعتزل ذِكر الأغاني والغزل

وقل الفصل وجانب مَن هزل

ودعِ الذِّكر لأيام الصبا

فلأيام الصبا نجمٌ أفَلْ

إنَّ أحلى عيشةٍ قضَّيتُها

ذهَبَت لذّاتها والإثم حلّ

واهجرِ الخمرةِ إن كنتَ فتىً

كيفَ يسعى في جنونٍ من عقل

واتَّقِ الله فتقوى الله ما

جاورتْ قلبَ امرئٍ إلّا وصل

ليس من يقطعُ طرقًا بطلا

إنّ مَن يتّقِ الله البطل


  • يقول الإمام الشافعي في قصيدة الهمزية:[٣٦]

دعِ الأيامَ تفعل ما تشاءُ

وطِبْ نفسًا إذا حكمَ القضاءُ

ولا تجزع لحادثةِ الليالي

فما لحوادثِ الدنيا بقاءُ

وكُن رجلًا على الأهوالِ جَلدًا

وشيمتُك السماحةُ والوفاءُ

وإن كثُرَتْ عيوبكَ في البرايا

وسرَّكَ أن يكونَ لها غِطاءُ

تستّر بالسّخاءِ فكلُّ عيبٍ

يغطّيهِ كما قيل السّخاءُ

ولا تُرِ للأعادي قطُّ ذُلًّا

فإنَّ شماتةَ الأعدا بلاءُ

ولا ترجو السماحةَ من بخيلٍ

فما في النارِ للظّمآنِ ماءُ


  • يقول الإمام الشافعي أيضًا في قصيدة أخرى:[٣٦]

وأفضلُ النّاسِما بين الورى رجلٌ

تُقضى على يده للناسِ حاجاتُ

ولا تمنعنَّ يدَ المعروفِ عن أحدٍ

ما دُمتَ مُقتدِرًا فالسعدُ تاراتُ

واشكُر فضائلَ صُنعِ الله إذ جعلتْ

إليكَ لا لكَ عند الناسِ حاجاتُ

قد ماتَ قومٌ وما ماتتْ مكارمهم

وعاشَ قومٌ وهم في الناسِ أمواتُ


تلك الأبيات ما هي إلا ومضاتٌ من أبحُر هؤلاء الشعراء الأجلّاء، ولا زالَ في جُعبةِ الشعر العربي الكثير الكثير من الأبيات التي عظُمتْ معانيها وجلّتْ في منح الحكمة والموعظة للقارئ والسامع على حدٍّ سواء، فالحكمة إحدى الفضائل الرئيسة الأربعة، إذ تعني قوّة الروح ومرادفها العلم، فلن يسعها حصرٌ مهما حاول الشعراء.[٧]

المراجع

  1. مجمع اللغة العربية جمهورية مصر العربية، المعجم الوسيط [عربي/عربي]، صفحة 196. بتصرّف.
  2. محمد بن درويش بن محمد/البيروتي الشافعي، أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب، صفحة 130. بتصرّف.
  3. "الموسوعة الحديثية"، الدرر السنية، اطّلع عليه بتاريخ 2020-12-02T22:00:00.000Z. بتصرّف.
  4. عبد القادر زينو، موسوعة اللآلي من شعر الحكمة في العصر الجاهلي، صفحة 5. بتصرّف.
  5. أبو فراس الحمداني ، ديوان أبي فراس الحمداني، صفحة 23. بتصرّف.
  6. ^ أ ب ابن قتيبة دراسة أسلوبية بواسطة د عبدالله خضر حمد، الشعر الجاهلي في تفسير غريب القرآن، صفحة 215. بتصرّف.
  7. ^ أ ب ت ث عزيزية هجيرة، تجليات الحكمة في الشعر العربي - أبو تمام أنموذجاً، صفحة 2. بتصرّف.
  8. عزيزية هجيرة، تجليات الحكمة في الشعر العربي - أبو تمام أنموذجاً، صفحة 8. بتصرّف.
  9. عزيزية هجيرة، تجليات الحكمة في الشعر العربي - أبو تمام أنموذجاً، صفحة 12. بتصرّف.
  10. عزيزية هجيرة ، تجليات الحكمة في الشعر العربي - أبو تمام أنموذجاً، صفحة 12. بتصرّف.
  11. ابن قتيبة دراسة أسلوبية بواسطة د عبدالله خضر حمد، الشعر الجاهلي في تفسير غريب القرآن، صفحة 215 - 216. بتصرّف.
  12. سراج الدين محمد، الحكمة في الشعر العربي، صفحة 96. بتصرّف.
  13. زهير بن أبي سلمى، ديوان زهير بن أبي سلمى، صفحة 7. بتصرّف.
  14. يحي بن علي التبريزي أبو زكريا، شرح القصائد العشر، صفحة 126 - 128. بتصرّف.
  15. طرفة بن العبد، ديوان طرفة بن العبد، صفحة 3. بتصرّف.
  16. طرفة بن العبد، ديوان طرفة بن العبد، صفحة 26. بتصرّف.
  17. حسان بن ثابت الأنصاري، ديوان حسان بن ثابت، صفحة 8. بتصرّف.
  18. حسان بن ثابت الأنصاري، ديوان حسان بن ثابت، صفحة 199 - 200 . بتصرّف.
  19. كعب بن زهير، ديوان كعب بن زهير، صفحة 5 - 6. بتصرّف.
  20. فيض الرحمن الحقاني ،مولانا، الإرشاد إلى تحقيق بانت سعاد لكعب بن زهير رضي الله عنه، صفحة 30. بتصرّف.
  21. هاشم يحيى الملاح ،الأستاذ الدكتور، الإمام علي بن أبي طالب رجل المثل والمبادئ ويليه موقف اليهود، صفحة 7 -8. بتصرّف.
  22. علي بن أبي طالب ،الإمام، ديوان الإمام علي، صفحة 7. بتصرّف.
  23. جرول الحطيئة ، ديوان الحطيئة، صفحة 5 - 6 . بتصرّف.
  24. جرول الحطيئة ، ديوان الحطيئة، صفحة 70 - 71 . بتصرّف.
  25. الأخطل، ديوان الأخطل، صفحة 3. بتصرّف.
  26. أبي المعين ميمون بن محمد بن مكحول/النسفي، تبصرة الأدلة في أصول الدين على مدرسة الإمام أبي منصور الماتريدي، صفحة 239. بتصرّف.
  27. مجلة الفيصل، مجلة الفيصل: العدد 299، صفحة 85. بتصرّف.
  28. تركي الدخيل ، التسامح: زينة الدنيا والدين، صفحة 125. بتصرّف.
  29. أبو الطيب المتنبي ، شرح ديوان أبي الطيب المتنبي، صفحة 3. بتصرّف.
  30. أبو الطيب المتنبي، شرح ديوان أبي الطيب المتنبي، صفحة 84. بتصرّف.
  31. أبو تمام ، شرح ديوان أبي تمام، صفحة 6 - 7 . بتصرّف.
  32. محمد معز جعفورة، أبو تمام وتجربة البحث عن الذات، صفحة 293. بتصرّف.
  33. علي نجيب عطوي ،الدكتور، البوصيري شاعر المدائح النبوية وعلمها جزء 33 من سلسلة أعلام الأدباء، صفحة 6. بتصرّف.
  34. أبي العباس أحمد بن محمد/ابن عجيبة الحسني، العمدة في شرح البردة، صفحة 6. بتصرّف.
  35. بواسطة يونس عبد الله محمد الدخي العبادي، عقد المرجان على نصيحة الإخوان ومرشدة الخلان المشهورة بـ لامية ابن الوردي، صفحة 9. بتصرّف.
  36. ^ أ ب أيمن السيد علي الصياد ،الأستاذ الدكتور، ديوان الإمام الشافعي، صفحة 43. بتصرّف.
7126 مشاهدة
للأعلى للسفل
×