فلسفة التاريخ عند ابن خلدون

كتابة:
فلسفة التاريخ عند ابن خلدون

ابن خلدون

هو عبد الرّحمن بن محمد بن محمد، ابن خلدون أبو زيد، ولي الدين الحضرمي الإشبيلي 1332 - 1406م مؤرخ عربي أندلسي الأصل، ولد في تونس وعاش في شمال إفريقيا، بعد تخرجه، وكان قد ارتحل في حياته إلى بسكرة وغرناطة وبجاية وتلمسان، والحجاز وبلاد الشام، ومصر وفيها تولّى قضاء المالكية لربع قرن بتكريم من حاكم مصر الظاهر برقوق، وتُوُفِّيَ فيها عام 1406 عن عمر بلغ ستة وسبعين عامًا ودُفِنَ قرب باب النصر بشمال القاهرة، ويعتبر ابن خلدون مؤسسًا لعلم الاجتماع الحديث، وأبًا لعلم الاقتصاد والتاريخ الحديث، ومن هنا ستتناول المقالة فلسفة التاريخ عند ابن خلدون.[١]

فلسفة التاريخ عند ابن خلدون

تعتبر الفلسفة عند ابن خلدون، واحدة من العلوم التي انتشرت وراجت مع انتشار العمران، بل كثرت وازدهرت في المدن والمناطق الحضرية، وقد جعل ابن خلدون أساس دخول هذا العلم والعمل به، الإلمام بالعلوم الشرعية، لتكون حامية للعقل فلا يضل ولا يتوه في متاهات الأفكار المجردة، فالشّرع كفيل بأن يرجع العقل إلى البسيط بدلا من المعقد وإلى التجريب بدلا من التجريد.[١]

جاءت فلسفة التاريخ عند ابن خلدون انطلاقًا من أساسه الفلسفيّ، فقد تجاوز في تأريخه التأريخ التقليدي بجمع الوقائع العسكرية، والتحولات السياسية التي اعتبرها ظواهر التاريخ، بل قدّمه بصورة جديدة التفت فيها إلى الجوانب الفكرية والاعتقادية، والتحولات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية باعتبارها تحمل دلالات عدّة باطن التاريخ، راصدًا من خلالها جميع العوامل المحركة للحدث التاريخي والمساهمة في صنعه، وكل ذلك من خلال ما وضعه من رؤية نظرية لتفسير التاريخ مستندة إلى عوامل عدة، سمّاها حينا العصبية الدينية أو القبلية، وحينا آخرالبيئة أي الأثر الجغرافي، مضيفًا إلى ذلك العوامل البيولوجية والاقتصادية.

وقد كان لأفكاره في التاريخ تأثيرٌ مباشر وقويّ في يقظة الحضارة الأوروبية، وشمولية نظرتها للتاريخ وتكاملها وامتدادها الزماني والمكاني، فأصبح الأرض التي يجب على الفلسفة الوقوف عليها للنظر إلى جميع مجالات المعرفة.[٢]

لقد قامت فلسفة التاريخ عند ابن خلدون على تقصي الحقائق، والتدقيق في قَبول الأخبار وتمحيصها، ثم تفسيرها تفسيرًا حضاريًّا، بما يتفق ومرتكزاته في تحليل الأخبار ونقد الحدث، من خلال عدّة عوامل هي:[٣]

السنن الكونية والاجتماعية

والمقصود منها سنن الله في الطبيعة وفي العمران البشري، فالأولى تبحث في القوانين الإلهية في الكون من نشأتها إلى تطورها ونظامها وما بينها من علاقات تربطها بعضها ببعض، ومراقبة حركتها وصحتها ووجودها وثباتها. والثانية تبحث عن سننَ الله في المجتمع من خصائص وتنوع، وحركة وتطور.

العصبية

إذ تمثّل في فلسفة التاريخ عند ابن خلدون الرابط الاجتماعي الذي يربط بين أبناء القبيلة أو أي مجموعة أخرى، ويجعلهم متجانسين متعاونين في الشدة والرخاء. وتنشط هذه العصبيةَ بين القبائل وفي البداوة، إذ أنها السبب المباشر في التنازع فيما بينها، وقد زالت هذه العصبية في فترة ما بسبب الدعوة الدينية، التي دعت إلى نبذ العصبية بكافة أشكالها. وتضعف هذه العصبية عند انغماس أصحابها في الترف الحضاري، وتعدّ في فلسفة التاريخ عند ابن خلدون شرطًا أساسيًّا لتأسيس الدول والممالك، وهي ذات طبيعة تلازمية مع النبوة، ومع الدولة.

الدين

ركزت فلسفة التاريخ عند ابن خلدون على أثر ظهور الإسلام في التكوين الاجتماعي والروحي للعرب، وعلى دورهم الحضاري، فقد كان ذا أثر فاعل في ترويض النفس العربية، ودفعها نحو البناء الحضاري، وكثيرًا ما كان ذا أثر فاعل في تجاوز أثر البيئة والطبيعة والتربية.

منهجية ابن خلدون في تفسير التاريخ

لقد قامت فلسفة التاريخ عند ابن خلدون على منهجية محددة، ووفق شروط محددة لتفسير التاريخ، على كل مؤرخ وباحث في التاريخ الالتزام بها، إذ لا يقوم علم تفسير التاريخ إلا بها، وهذه الشروط فهي كما يأتي.[٤]

العليّة

فلسفة التاريخ عند ابن خلدون وتفسير التاريخ لا يقوم دون تعليل باطني لما خلف الوقائع الظاهرة، وشامل محيط بالواقعة ورابط لها بإطارها العام، وقابل للتكرار في أطر حضارية، ولا تتحقق العبر واستخلاص القوانين والسنن إلا به، فهو يجعل العليّة الفارق الأساسي بين المنهج التاريخي التقليدي، والمنهج الحضاري في تفسير التاريخ، ويرفض التعليل الجزئي الخاطف، فليس هو المطلوب لمفسر التاريخ.،وعليه، فالمطلوب من فيلسوف التاريخ في فلسفة التاريخ عند ابن خلدون هو اختزال العلل الجزئية للوقائع الفردية إلى علّة واحدة أو علتين، يفسر في ضوئهما التاريخ، ويعيد تشكيل الوقائع التاريخية ليقدم منها صور عقلية.

الكليّة

النظرة الجزئية المحدودة أو النظرة للتاريخ المحلي فقط، لايمكن أن تشكل أساسًا لتفسير التاريخ، وهذا يعني ألّا ينتظر من مفسر التاريخ استقراء جميع الأمثلة للوقائع التاريخية في جميع الحضارات؛ لصعوبة تطبيق هذا العمل، ويكفي مفسر التاريخ أن يقدم نماذج وأمثلة من حضارات مختلفة، تكون نتائجها المستخلصة صالحة للتكرار والتعميم، وعليه، فالمطلوب من فيلسوف التاريخ في فلسفة التاريخ عند ابن خلدون، إذا واجه الجزئيات أن يبحث في الوحدة العضوية بينها، وأن يربط بين الوقائع، عبر مادة الفيلسوف الأولى، وهي التاريخ العالمي الذي يصبح مادة الفيلسوف.

الفكر

وهو جانب أساسي لفيلسوف التاريخ ومفسر حسب فلسفة التاريخ عند ابن خلدون؛ فعمليات جمع جزئيات الماضي، والربط بينها لتحقيق وحدة عضوية، واستحضارها للحاضر، يتطلّب من مفسر التاريخ عمليات فكرية معقدة، حتى يتمكن من استخلاص الأسباب التي تحرّكه نحو للإيجاب أو السلب، وتمكّنه أيضًا من نفي الحقيقة المطلقة، والقول بنسبية الحقيقة، ليتمكن من التعبير عن الحقيقة من زاويته.

الديناميكية

وفيها يقدّم المفسر التاريخي أو فيلسوف التاريخ صورة حيّة ومتحركة للوقائع التاريخية، ليوصل للقارئ طبيعة العوامل الحيّة التي كانت تقف خلف تلك الواقائع، ويتم ذلك من خلال رصد العوامل النفسية، والفكرية، والبيلوجية، والاقتصادية، والعقدية، والاقتصادية، وإعطاء كل عامل حجمه في مرحلته التاريخية.

التاريخ والعلوم الشرعية عند ابن خلدون

من ملامح فلسفة التاريخ عند ابن خلدون أن هناك قوانينَ في الحركة التاريخية يمكن اكتشافها، والاستفادة منها في معرفة مراحل قيام الدول والحضارات، وأسباب أفولها وزوالها النهائي، وهذا ما يجعل من التاريخ علم بارتباطه بالثبات والاطراد والقبول للتكرار، وينفي عنه أن يكون فنّا خاضعًا للذاتية، وهذا ما يجعل الحديث أيضًا عن فلسفة التاريخ عند ابن خلدون أمر متصل اتصالا وثيقًا بعلمية التاريخ، عندما وضع قوانين للحركة التاريخية، مثل: التشابه والتباين، والسبب والمسبب، والاستحالة والإمكان، والعصبية وصلتها بوجود الدولة وبنائها، سقوطًا وصعودًا، والجغرافية والبيئة، وصلتهما بتكييف الحضارة، وقد كان أثناء وضعه لقوانين الحركة التاريخية، قد أدرك ثلاث قواعد إسلامية، هي:[٢]

  • رغم أن القوانين التاريخية خاضعة بما لا شك فيه للسببية، إلا أنها لا تتناقص مع فعل الله وإرادته، وقدرته في التاريخ، فالحوادث التاريخية وأسبابها الماديّة حرّكة بإرادة الله، وتعليماته الصارمة، لتحقيق مشيئته، وما المعجزات إلا كشف عن يد الله الخفية القادرة، التي تبطل الوسائل، وتغير التعليمات، في حالات استثنائية ولظروف طارئة، وهذا يعني أنه رغم قوله بالاضراد في قوانين التاريخ، إلا أنه رفض الاطراد الحتمي، ودور الإنسان يكمن في قدرته على الفهم والاستنباط، وليس في فعل الله، وأنّ ما منحه الله مو حرية للإنسان، هو في النهاية محكوم لقوانين حضارية وأخلاقية قد لا تدرك آثارها إلا بعد زمن طويل، ويعجز معها الإنسان عن الربط بين الأسباب والنتائج.
  • من المبالغة إشاعة وجود فروق كثيرة بين مستوى الثبات والاضطراد في العلوم الطبيعية، وبين قوانين الحركة التاريخية، فالفروق بينهما هي فروق نسبة لا فروق نوع، فالعلوم العلمية بقوانينها العلمية الثابتة، تتعرض لتغيرات ولتحولات نسبية وتناقضات، لا تقل عن النسبية والتحول في العلوم الإنسانية.
  • العجز عن اكتشاف الكثير من القوانين التاريخية في علم التاريخ، ذلك أنّ الظواهر الاجتماعية أعقد من الظواهر الطبيعية.

التاريخ وبناء الدولة عند ابن خلدون

من أبرز الأسئلة التي ناقشتها فلسفة التاريخ عند ابن خلدون: كيف تقوم الدولة، كيف تنهار وتزول زوالًا نهائيًّا، باعتبار أن للدولة -كما رأى- أعمارًا طبيعية كالإنسان، فهي كائن حي، ينمو ويتطور حتى يهرم ويزول. والدولة عند ابن خلدون تمر في أطوار أربعة، هي:[٥]

  • الاستيلاء على الحكم والفوز به غلبة وقهرًا وانتزاعًا.
  • الاستبداد بالعباد، والانفراد بالسلطة، والتنكر للعصبة والجماعة.
  • الفراغ والرفاهية واللهو في قطف ثمرات الملك، وفيه تسود الراحة والطمأنينة.
  • الهرم والانهيار والزوال، الناتج عن الإسراف والتبذير.

تدور فلسفة التاريخ عند ابن خلدون في الدولة والحضارة حول قانون العصبية وبالأخص العصبية القبلية والدينية، الذي يدفع القبائل إلى المناصرة والمطالبة بالملك، ويدخل معها الحلف والولاء كنوع من أنواع التكتل والتحالف القبلي، الذي يؤدي إلى الغلبة على غايتها؛ فالقبائل أو الجماعات تعمل على إسقاط نظام ما، وعندما تشتد العصبية توصل أصحابها إلى الحكم ويشتد عودها، فتستبد وتظلم وتلهوا وتترف وتضعف الروابط القبلية والدينية بينها، حتى تصل إلى الانهيار، ويمثل ابن خلدون على ذلك، بما شاهده في دول المغرب، والممالك التي قامت بها، مع تعميمه النظرية على أماكن كثيرة،كما رأى أنّ العصبية إذما اقترنت بالدين لا يقف أمامها عائق، فالصبغة الدينية تذهب التنافس والتحاسد بين أهل القبيلة أو الجماعة العرقية، فتفرد الوجهة إلى الحق، وبالتالي فإن وجود القبيلة أو التي تحمل فكرة دينية وتتبناها يحقق منفعتين:[٥]

  • الدين يستجلب العصبية، لكنه يهذبها وينقيها من شوائبها وجوانبها السلبية التي تدع بها إلى التعصب، ويستثمر في جوانبها الإيجابية، الدافعه إلى التطوّر والنماء.
  • وجود العصبية القائمة بالمدافعة والجسم المادي المتمثل في الجماعة التي تدافع.

المراجع

  1. ^ أ ب "ابن_خلدون"، www.marefa.org، اطّلع عليه بتاريخ 03-07-2019. بتصرّف.
  2. ^ أ ب "ابن خلدون رائد التفسير العلمي للتاريخ"، library.islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 03-07-2019. بتصرّف.
  3. "فلسفة التاريخ عند ابن خلدون"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 03-07-2019. بتصرّف.
  4. "مصطلح فلسفة التاريخ"، www.uobabylon.edu.iq، اطّلع عليه بتاريخ 03-07-2019. بتصرّف.
  5. ^ أ ب " التاريخ وبناء الدولة عند ابن خلدون "، www.almerja.com، اطّلع عليه بتاريخ 03-07-2019. بتصرّف.
7248 مشاهدة
للأعلى للسفل
×