كلمة عن الهجرة النبوية الشريفة
استكمالًا للدعوة السماويّة العظيمة، وعَونًا من الله -سبحانه وتعالى-، وقضاءً محتومًا من الحكيم الخبير، كان لا بدَّ لرسالة سيدنا محمد -صلَّى الله عليه وسلَّم- من خطواتٍ عظيمة، يستلهمُها النَّبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- وحيًا منزَّلًا من عند الله، وأوامرَ معصومةً عنِ الخطأ والنسيانِ، فهو الذي قال عنه الله تعالى في محكم التنزيل: "وما ينطق عن الهوى إنْ هو إلّا وحيٌّ يُوحى" [١]، ولعلَّ أهمّ خطوة اتخذها الرسول الكريم في مسيرة رسالتِهِ، هي الهجرة بالمسلمين من مكة المكرمة إلى يثرب التي سُميت بالمدينة المنورة بعدما دخلها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- مهاجرًا مع أصحابِهِ، وهذا الموضوع التعبيري هو عبارة عن كلمة عن الهجرة النبوية الشريفة وأهم ما دلَّتْ عليه.
تعدُّ الهجرة النبويّة بدايةَ تاريخٍ جديدٍ في حياةِ الدعوةِ الإسلاميّة، ونقطة عبورٍ آمنٍ من أيَّـام الدَّعوة الضَّعيفة؛ أيام العذاب والاضطهاد في شعاب مكة، من مشركيها، خاصّة بعد وفاة أبي طالب، إلى أيام بناء الدولة الإسلامية القوية، ذات السيادة والسيطرة، فكانت هجرةً عقائديَّةً، خرجَ بها المسلمونَ -وعلى رأسِهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم- من مكة بدينِهم وأفكارِهم، متحرِّرينَ من كلِّ أشكالِ التمييز العنصري، فلا فرقَ بين عبدٍ وسيّدٍ، وبينَ أبيضَ وأسودَ، بلْ كانوا على قلبِ رجلٍ واحدٍ، ودينٍ واحدٍ، وحُلُمٍ واحدٍ، تاركينَ وراءَهم بيوتهم، وأموالهم، طمعًا بما عند الله من فضل عظيم، وقد أصبحت الهجرة -منذ ذلك الوقت- تقويمًا إسلاميًّا لكلِّ الأحداث التي مرَّت على حياة الدعوة الإسلامية، وتأريخًا رسميًّا للمسلمين، سُمِّي بالتأريخ الهجري، ولم يزل قائمًا منذ أن هاجرَ رسول الله مع أصحابِهِ.
ومن الجدير بالذكر، أنَّ ما مرَّ على هجرة المسلمين من أحداث أثناء هجرتِهِم، لم يكنْ يسيرًا وسهلًا على المسلمين المهاجرين، فقد خرجوا من مكةً متسللين خوفًا من سيوف قريش، التي كانت تلاحقهم لتُطفِئَ نورَهم، ولكنَّ الله مُتمُّ نورِهِ ولو كره المشركون، لذلكَ كانَ توفيق الله وحمايتهِ سندًا ومعينًا لهم في هجرتِهِم، ليدخلوا إلى يثرب وأهلِها الذينَ جسّدوا بمعاملتهم أسمى آيات الإنسانية، وأعلى مراتب الأخلاق، فتقاسموا مالَهم وبيوتهم ورزقهم مع المهاجرين، واستقبلوهم خيرَ استقبال، فقد كان الأنصار يخرجون كلَّ يومٍ إلى الحرّة ينتظرون رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فإذا اشتدَّ الحرُّ، عادوا إلى بيوتِهِم، ولمّا كانَ يوم 12 ربيع الأول، خرجوا إلى الحرّة حتّى حميت الشمسُ، فلمّا همُّوا بالعودة، إذ برجلٍ من اليهود يصعدُ مُرتفعًا منَ الأرض، فرأى النبيّ -عليه الصلاة والسلام- وأصحابَهُ، فقال: "يا بني قيلة! هذا صاحبكم قد جاء، هذا جدُّكم الذي تنتظرونه"، فقام الأنصار لاستقبال خير البشر، وسيّد الخلق، مرتجلينَ القصيدة التي تردَّدَ صدى كلماتِها في آذان الأجيال اللاحقة جيلاً بعد جيلٍ:
طَلَعَ البدرُ علينا
- من ثنيّاتِ الوداعْ
وجبَ الشكرُ علينا
- ما دعا لله داعْ
واستمرّت هجرةُ المسلمين إلى المدينة حتى فتحِ مكة، فكانَ آخر من هاجر من المسلمين إلى المدينة هو عم رسول الله العباس بن عبد المطلب، الذي هاجر في العام الثامن للهجرة.
لقدْ مثّلتِ الهجرةُ النبويّة، قدرةَ الإنسان المؤمن بعقيدتِهِ، ذلك الإيمان المطلق، خير تمثيل، وأظهرتْ مقدار العزيمة والصبر الذي تحلّى به المسلمون الأوائل في سبيل نشر هذا الدين، ولو كانَ على حساب بلادِهم ومالِهم وأهلهم، ولكنَّهم أيقنوا أنّه أمرُ الله، وأنّ نصرَهُ واجب، وأنَّ فداءَه تهون الأرواح والبيوت والأموال، فكانوا خير من نصرَ الدين وأعلى شأنَهُ وجاهد من أجلِهِ بتوفيق الله الحكيم العليم، ولا شكّ أنَّ ما ورد سابقًا من كلمة عن الهجرة النبوية لا يكاد يكون نقطة في بحرِ الحكم التي يمكن استنباطها من حادثة هجرة الرسول وأصحابِهِ من مكة إلى المدينة المنورة.
المراجع
- ↑ {النجم: الآية 3-4}