ما هي البراغماتية

كتابة:
ما هي البراغماتية

تعريف الفلسفة البراغماتية

ما هو أصل كلمة براغماتية؟

إنّ لفظَ كلمة براغماتية مشتقٌّ من أصول يونانيّة وتعني "عَمَل"، وتؤخذ منها كلمتا: مزاولة وعَمَلِي، ويعدّ تشارلز بيريس أول من أدخل هذا اللفظ في الفلسفة سنة 1878م، من خلال مقاله الذي حمل عنوان "كيف نجعل أفكارنا واضحة"، وقد أشار فيه إلى أنّ عقائدنا هي في الواقع قواعد للسلوك والأداء، وكلّ ما نحتاجه لإنشاء معنى لفكرة ما هو أن نحدّد أيَّ سلوكٍ هو الأصلح لإنتاج هذا المعنى، وكي تكونَ الفكرة واضحة، فكلّ ما يجب أخذه بعين الاعتبار هو ما يترتّب عليها من آثار ذات طابع عمليّ ومن الممكن تصوّرها.[١]


تاريخ ظهور الفلسفة البراغماتية

ما هو تاريخ البراغماتية؟

لم تَلقَ كلمة براغماتية رواجًا كبيرًا عندما وظّفها بيريس لأول مرة في مقاله الفلسفيّ، لكن بعد بعد مرور ما يقارب العشرين عامًا بدأت كلمة براغماتيّ تنتشر على صفحات المجلات،[٢] لكنّ فَهْمَ البراغماتية كمعنى قائل بأنّ الحقائق قائمة على النتائج ممّا يعني عدم ثباتها سيعود بنا إلى الفلسفة اليونانية وفكرة هيراقليطس بأنّه لا شيء ثابت والحقائق تتغيّر، والحقائق المطلقة ليست موجودة على أرض الواقع، فكل شيء في صيرورة، وقد انتشرت البراغماتية كمذهب فلسفيّ له أصوله في الولايات المتحدة الأمريكية ومنذ بدايات القرن العشرين، وتعدّ من أسس النظام الرأسمالي القائم على المنافَسة الفرديّة.[٣]

مبادئ الفلسفة البراغماتية

ماهي أبرز المبادئ التي تقوم عليها البراغماتية؟

إنّ الفلسفة البراغماتية تقوم على مجموعة من المبادئ التي تعدّ أساسًا لها:

حيازة الأفكار الصحيحة

يعتقد فلاسفة البراغماتية بأنّ حيازة الفكرة الصحيحة هي بمعنى آخر حيازة أدوات للعمل، والأداء لا تقدّر بثمن، وأنّ واجبنا للوصول إلى الحقيقة يجب أن يسوغ بموجب أسباب عمليّة ودواعي عمليّة بارعة وفائقة، كما أنّ الوصول إلى الحقيقة ليس هدفًا في ذاتِه، وهو أبعد ما يكون عن ذلك، ولا تزيد عن كونها وسيلة أو أداة أوّليّة لبلوغ ضروب مختلفة من السّعادة والرّضا والسرور.[٤]

النفعية

تنبغي الإشارة إلى علاقة النفعيّة بالبراغماتية، فالفكرة الصحيحة هي فكرة نافعة بالضرورة؛ وذلك لأن المقام أو المأوى الذي هو موضوعها أو هدفها نافع، ويترتب على ذلك أن القيمة العملية للأفكار الصحيحة تشتق بصفة أولية من الأهمية العملية لموضوعاتها.[٥]

الواقع أو التجربة هو المقياس لأي نظرية أو فكرة

تقوم النظرية البراغماتية في المنهج على أن المنهج التجريبي هو النّموذج الذي يجب أن تسير عليه في كلّ ممارسة ديموقراطية، فلا وجود لديموقراطية مثاليّة كشكل من أشمال الحكم فحتى الديموقراطية تجربة اجتماعية ونمط حياة.[٦]

مؤشرات الفكر البراغماتي

هل هناك مؤشرات للفكر البراغماتي؟

للفكر البراغماتيّ العديد من المؤشرات أبرزها:

  • نجاح العمل هو المعيار الوحيد للحقيقة: ففي كلّ خطوة يؤخذ بعين الاعتبار النتائج المستقبلية، ويدعو للتصرّف على أساس النظر إلى النتائج العملية والمثمرة التي قد تؤدي لها قراراتنا التي نتخذها في حياتنا، سواء كانت على الصعيد الشخصي أم المهني أم غيرها من الأصعدة.[٧]


  • القدرة على التكيف في مواجهة التصلب: ومن خلال التفكير العمليّ نصبح أكثر قدرة وقابليّة للتكيّف مع الأحداث الطارئة، بعيدًا عن الأحكام المسبقة التي من الممكن أن تسيء فَهمَنا للأحداث التي تقع حولنا.[٨]


  • الابتعاد عن الدوغمائية: إن الدّوغمائية تعني التمسّك بفكرة معيّنة على نحو متعصّب ومتصلّب والاعتقاد الجازم بصحّتها، من غير الانفتاح على باقي الأفكار المطروحة حولنا، فما يتميز به الشخص البراغماتيّ هو أنّه شخص منفتح الذهن وحرّ أمام الإمكانات المتاحة له،[٨] وأهم الأمو التي تلفت البراغماتية نظرنا التطلع إلى المستقبل: إليها هي عدم الرجوع إلى الماضي والتفكير المرهق فيه بل التطلّع إلى المستقبل، كما أنّها ترفض الأحكام المسبقة.[٨]


  • التجريبية في مواجهة المثالية: كلا التيّاريْن -التجريبيّ والمثاليّ- من أبرز التيارات التي ظهرت في الفلسفة الحديثة وذلك لتأسيس نظرية في المعرفة ونظرية في الوجود فكيف استطاعت البراغماتية الاستفادة من التجريبية والمنهج التجريبي ض المنهج العقلاني والمثالية؟ إنّ البراغماتية ترفض المفاهيم الكلية والأيديولوجيات التي تقوم عليها، والتي تعتبِر أنّ هناك محركًا أعلى ومفهومًا متعاليًا للحقائق وهو مطلق ومحدّد سلفًا.[٩]


رواد الفلسفة البراغماتية

من هم أشهر الفلاسفة البراغماتيون؟

للفلسفة البراغماتية رواد بارزون وهم:

تشارلز بيريس

تشارلز ساندرز بيريس وُلد في عام 1839م وتوفّي سنة 1914م، وكان بمثابة أول فيلسوف أمريكي يخرج على العالم بفكر جديد يبلور فيه الحياة العقلية كما تمثلت في القارة الجديدة، وهو الذي خلق الفلسفة البراغماتية خلقًا، ثمّ بلغ بها غاية كمالها، حتى جاء بعده التابعان الكبيران االلذان سارا على نهجه، وهما: وليم جيمس وجون ديوي ولم يسعهما إلّا أن يتحركا في الإطار الذي وضعه تشارلز بيرس بنفسه على الرغم بما قاما بتعديل وتحويل.[١٠]


يسرد بيريس عن نفسه أنّه عندما كان يدرس المدارس الفلسفية كلها وتتبع طرائق الفكر عند أصحابها وكان ينظر إليها من وجهة نظر فريدة من نوعها، وهي وجهه نظر الباحث العلمي في المعمل بعيدًا عن الرؤية الدينية المطلقة، فيبحث عن كلّ ما هو جديد والذي لم يعرفه أحد بعد ولم يقم بالبحث من وجهة نظر الفيلسوف اللاهوتي الذي يتناول مادته وكأنها معصومة من الخطأ، ومن هنا يتضح لنا موقف البراغماتية من الدين واللاهوت اللذيْن تعاملا بالمطلق مع المفاهيم، وهذا بعكس ما تَعامَل به البراغماتيون معَها.[١١]


وجّه بيريس نقدًا كبيرًا للفلسفات المثاليّة، خاصّة المثالية الألمانية في ألمانيا، ليصل إلى نتيجة بعد دراسة طويلة، وهي أنّ هذه المدارس الفلسفية ليست ذات قيمة تذكر من حيث المنهج على الرغم من غناها بالعديد من الإيحاءات الفلسفية، إلا أنّه توقّف عند الفلسفة الإنجليزية التي تتميز بالطابع والمنهج التجريبي، وعلى الرّغم من أنه يراها فقيرة وساذجة إلى حدّ ما، إلّا أن هذه الأخيرة، ويقصد الفلسفة التجريبية في إنجلترا، تظلّ أكثر رسوخًا من الفلسفة مثالية هيغل وعقلانية ديكارت إذا ما نظرنا إلى المنهج على أنه وسيلة مؤدّية إلى نتيجة جديدة.[١٢]


ويُوجز بيريس فلسفته أو موقفه الفلسفي، فيقول إنّ الفلسفة يمكن وصفها بأنها محاولة الفيزيائي أن يصوّر بصعوده الكون تصويرًا لا يتعدّى ما تسمح به مناهج البحث العلمي ويؤكّد بيريس الالتزامَ بمنهجية البحث العلميّ أو المنهجية التجريبيّة، ويستعين بكل ما سبقه الفلاسفة به، ويؤكّد أنه لم يَسِر على مسار الفلاسفة الميتافيزيقيّين الذين اتّبعوا منهج الاستنباط الذي يقوم على فروض تبدأ بمقدمة كبرى ثم مقدمة صغرى لنصل إلى نتيجة وهي قاطعه الصواب، لا تحتمل أيّة تعديلات وتصويبات في ضوء ما تكتشفه البحوث العلمية.[١٣]


يؤكّد بيريس أنّ طريقته في البحث هي طريقة العلم نفسها، وهي أن يقوم بتقديم صورة عن الكون على سبيل الافتراض الذي ينتظر الإثباتات، وعلى أساس ما قد يُكشف لنا من حقائق، ولذلك يعدّ بيريس من الفلاسفة المعاصرين الذين يتميّزون بقابليّة الصواب والخطأ، وذلك وفقًا لِمَا تقدمه المشاهدات من شواهد.[١٤]


ووفاقًا لمذهب بيريس بأنّ الفكرة هي خطّة للعمل وقيمتها في نجاح تلك الخُطّة، فهي كالخريطة التي قيمتها كلّها مرهونة، لا بجمال ألوانها وحُسن شكلها وإحكام رَسْمها، بل بكونها أداة صالحة في يد المسافر يعرف بها أين النهر وأين الجبل، إلّا أن ما أكثر الناس الذين يحسبون أنّ في رؤوسهم أفكارًا حتى إذا سألته ماذا تستطيع تلك الأفكار أن تؤدّي في دنيا العمل؟ لم يجد جوابًا لأنها ليست في الحقيقة أفكارًا بالمعنى الذي تحدده الفلسفة البراغماتية، فمذهب بيريس البراغماتيّ قاعدة منطقية لتحديد المعنى.[١٥]


ويجدر بنا في هذا الإطار التّفرقة بين مفهومَيْن مهمّين جدًا، هُما: مفهوم المعنى ومفهوم الصدق، فمتى يكون العبارة معنى عند بيريس تكون العبارة ذات معنى إذا ما كانت ألفاظها دلت على خبرة حسية يمكن الرجوع إليها في عالم التجربة، وليس لأيّة لفظة معنى سوى مجموعة الخبرات الحسية المتوقع حدوثها فمثلًا إذا قلت عن شيء أنه "صلب" كصفة، فما معنى الصلابة؟ معناها خبرات نخبرها حين نستخدم ذلك الشيء في حياتنا العملية ثم يخدش غيره ولا ينخدش ويكسر غيره ولا ينكسر بغيره وهلمّ جر، ونتيجةً لهذه الأفعال يكون معنى كلمة "صلب" في براغماتية بيريس هي براغماتية معنى في مقابل براغماتية وليم جيمس التي هي براغماتية صدق.[١٦]

وليم جيمس

ولد وليم جيمس عام 1842م وتوفي في عام 1910م وهو طبيب وله إنجازات في علم النفس، كان له اهتمامات في الجانب العلمي والجانب اللاهوتي، أما الجانب العلمي فقد كان يقربه من النزعة المادية، ومع ذلك فهذا لم يبعده عن مفاهيم ذات صلة باللاهوت والعاطفة الدينية وعلاقة الفلسفة بالدين.[١٧]


أما فيما يخص الفلسفة البراغماتية فقد أضاف وليم جيمس مفهومًا جديدًا، وهو مفهوم الحقيقة البراغماتية الذي قام بتطويره عن تشارلز بيريس، فبالنسبة لوليم جيمس هي مفهوم للحقيقة بالدرجة الأولى، وقد تابع وليم جيمس المبدأ الذي أعلنه بريس، وهو الذي أخذ بأننا لكي نصل إلى الوضوح في أفكارنا عن موضوع نحتاج فقط إلى النظر في الآثار أو النوع العملي التي يمكن لنا أن نتصورها متضمنة في الموضوع، ووظيفة الفلسفة هي أن تكتشف ما الفارق لنا إذا كانت هذه صيغة العالم أو غيرها صادقة، إن النتيجة العملية لهذا المفهوم هو أنّ النظريات تصبح أدوات، وهي ليست عبارة عن إجابات لأسئلة، ولذلك السبب سُمّيت البراغماتية في بعض الأحيان بالأداتيّة.[١٨]


إنّ الفكرةَ تكون صادقة بقدر ما نعتقد أنها مفيدة لحياتنا والحقيقة هي نوع من أنواع الخير وليست مقولة منفصلة، والصدق يطرأ لفكرة، فالأحداث هي التي تجعلها صادقة من الصواب أن نقول مع العقلانية أن فكرة صادقة يجب أن تتفق مع الواقع، لكنّها اتفاق ليس معناه نسخة، فالاتفاق مع الواقع -بأوسع معنى الاتفاق- يَعني فقط أن نتوجه إمّا مباشرةً إليه أو إلى ما يحيط به، أو أن نعمل عملًا بحيث نحتكّ به، كأن نمسك به أو نمسك بشيء متّصل به، وذلك أفضل في حال اختلفنا، ويضيف جيمس بأنّ الصادق هو فقط المناسب لطريقة تفكيرنا.[١٩]

جون ديوي

جون ديوي هو عالم وفيلسوف ولد عام 1859م كان له تأثير كبير في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال فلسفة التاريخ وكان أستاذًا للفلسفة في شيكاغو، ودَرّسَ التربية الجمالية البراغماتية وفلسفة الفن والنظرية السياسية يعرف بتوجهاته الليبرالية كنظرية سياسية.[٢٠]


إن الأهمية الكبرى والسّبب في شهرة ديوي هي مفهوم للحقيقة من وجهه نظر الفلسفة البراغماتية الأداتية، والإجابة عن سؤال: متى يكون الشيء صادقًا أو كاذبًا؟ يجيبنا ديوي بأنه ليست الكلمات هي التي تحدد لنا ما إذا كانت الجملة صادقة أو كاذبة، وتأكيدًا على المعنى نعود إلى فلسفة بريس البراغماتية القائمة على أساس المعنى من حيث الأداتيّة، وليس كما قامت فلسفة وليم جيمس على آثار الصدق والكذب، وحين تؤكد جملة فأنت تعبر عن اعتقاد يمكن أيضًا التعبير عنه من خلال لغات متعددة ومختلفة.[٢١]


يؤكّد ديوي أنّه لا يهدف إلى أن يقيم أحكامًا صدقُهُ صدقًا مطلقًا أن يَدين قائدها بأنها كاذبه كذبًا مطلقًا، حسب رأي جون ديوي أن عملية تسمى التحقيق هي شكل واحد من أشكال التكيف المتبادل بين الكائن العضو بيئته، ويؤكد وجندي على مفهوم التحقيق كجزء من العملية العامّة في محاولة لجعل العالم أكثر عضوية، والحقيقة عند ديوي تعرف في حدود مفهوم التحقيق، وليس العكس الاعتقاد هو ما يطلق عليه حكم الصدق أو الكذب.[٢٢]

ما هي الفلسفة البراغماتية المحدثة؟

يؤكّد االمفكّر المصري زكي نجيب محمود في كتاب "نافذة على فلسفة العصر" على الفلسفة البراغماتية المحدثة كتيّار فلسفي معاصر، فإذا كانت الماديّة الجدليّة والماديّة التاريخيّة تستقي من فلسفة التاريخ بمعنى أنّها تصوب النظر إلى الماضي والحاضر، لتنتهيَ بنا بنظرة إلى المستقبل فقد قامَ ماركس وأنجلز بصياغة نظرية التطور الاجتماعي، فيمكن القول إنّ البراغماتية هي فلسفة المستقبل بمعنى أنه يمكن أن نقوم بقياس الأمور بما يترتّب عليه من نتائج عملية يمكن الحكم عليها، والمعنى الحقيقي لأيّ فكرة هي النتائج التي ستؤدي لها، وبهذا يمكن اعتبار الولايات المتحدة الأمريكية، والتي قامت بتزعم المعسكر الرأسمالي الغربي هي الأنموذج للفلسفة البراغماتيّة التي انتشرت فيها في القرن العشرين، وامتدت حتى القرن الواحد والعشرين.[٢٣]


كما أنّ البراغماتية اتّصلت بشكل كبير بالمذهب الإجرائيّ، وذلك من خلال تطور التكنولوجيا والتطور العلمي الذي شهده القرن العشرين، والذي كان بمثابة ثورة معرفيّة علمية هائلة بينما ذهبت الإجرائية في فهم المعاني أو الأفكار.[٢٤]


وذلك يعني أن الفكرة معناها هو مجموعة من الإجراءات التي نقوم بها، ونقوم بتحقيقها، وبهذا يتصل فِكر البراغماتي بعمليات التغيير حتى أنّه من الممكن اعتبار هما وجهان لعملة واحدة، وبذلك تكون التجربة على الواقع المحسوس هي أساس التفكير العلمي البراغماتية على الرّغم اختلافاتها مع المادية الجدلية في اتجاه النظر، إلّا أنّهما يشتركان في رفض التأمّلات التي لا تلد للناس عمل يؤدونه ولا تنسى لهم تغييرا وبهذا يمكن اعتبار الفلسفة البراغماتية فلسفة العصر، والتي قد تم استخلاصها من ميول العصر ومتطلباته؛ وذلك لمواكبة التحديثات الناشئة، والفلسفة العلمية تحتم علينا أن نتبنى النظر العلمية القائمة على التجربة والتطبيق، وهي نتيجة لهذه الفلسفات، وعلى رأسها البراغماتية المحدثة.[٢٥]

ما هي نظريه الأخلاق البراغماتية؟

هل هناك نظرية أخلاق براغماتية؟

إذا كان الوصول إلى الحقيقة مستحيلًا، فحتمًا لا يوجد دليل على أنّ الحقائق ثابتة ولا تتغير، إنّما العكس هو الصحيح، بمعنى أن الحقائق تنمو وتتغير وفقا للوقائع التي تحدث حولها، ومن هذا المنطلق يرى البراغماتيون أن الأخلاق ليست مطلقة، بل هي نسبية وتتغير بتغير الزمان والمكان، ممّا يعني استحالة تأسيس القيم الثابتة أو المطلقة، وبالتالي نستنتج من هذا الأمر أنّ القيم تحددها المنفعة والمصلحة، وهذا أمر متغير، وليس ثابتًا مما يعني أن ما هو نافع اليوم قد يكون غير نافع غدًا.[٢٦]


الأمر الثاني، وهو أنّ معرفة الأشياء لا تتم من خلال التأمل المحض والمجرد وإنّما من خلال التجربة العملية، بناءً على هذا القول لا يمكن لنا أن نؤمن أو نعتقد بالأخلاق الفطرية، إنما القيم والأخلاق المكتسبة ويتم الاتصال من خلال الخبرة والتجربة، وبهذا يهاجم البراغماتيون نظرية الأخلاق العقلانية، بمعنى أنّ الأخلاق ليست متأصلة في الذات الإنسانية التي عرفت وتميزت العقل عن سائر الكائنات الأخرى.[٢٧]


تعدّ فلسفة الأخلاق فرعًا من فروع الفلسفة البراغماتية التي قام الفيلسوف جون ديوي بتطويرها، فإذا كانت العبرة لدى الفلاسفة البراغماتيين في مدى نجاح الفكرة في الحياة، وبهذا تكون الأخلاق وسيلة وليست غاية في ذاتها، بمعنى أنّها عبارة عن أداة لتحقيق المنفعة ولتحقيق أكبر قدر ممكن من السعادة والنجاح في الحياة العملية، بالتالي فإنّ الفعل الأخلاقي يكون بنتائجه، لا بمبادئه.[٢٨]

علاقة الفلسفة البراغماتية بالفلسفات الأخرى

هناك العديد من الاتجاهات الفلسفية التي تزامنت مع ظهور البراغماتية ولها صلة بها أهمها:

الفلسفة الماركسية

ظهرت الفلسفة الماركسية على يد كل من ماركس وأنجلز، كمعارضة للفلسفة الرأسمالية التي تبنت الفكر البراغماتي، فما هي الفلسفة الماركسية؟[٢٩] كان الإسهام الكبير للماركسية هو صياغة النظرية الاشتراكية العلمية وإدخالها في حركة الطبقة العمالية، وقد وضعها كلٌّ من ماركس وإنجلز على أساس فَهم علميّ لقوانين التطور المجتمع والصراع الطبقيّ؛ وهكذا تمكّنا من إيضاح كيف يمكن تحقيق الاشتراكية من خلال تسليح الطبقة العاملة بالرسالة الماركسيّة، وينبغي التأكيد على أنّ ماركس لم يصل إلى استخلاص هذه النتائج كمجرد بحث، وإن كان قد أجرى أبحاثًا عميقة في أربعينيات القرن التاسع عشر.[٣٠]


انغمس ماركس كجمهوري وديمقراطي وثوري في الحركة التي أدت عام 1848م إلى الثورة وقد توصل إلى استخلاص يسعى إلى فهم الحركة التي أسهم فيها؛ لكي يساعد في توجهيها إلى هدف وهو تحرير الشعب من القهر والخرافة والاستغلال، وصيغة هذه النتائج في بيان الحزب الشيوعي الذي كتبه ماكرس بالتعاون مع إنجلز عام 1848م، فقد رأى كلٌّ منهما أن الحركة الاجتماعية بأسرها الصراع بين الطبقات، وأن الطبقات المتنازعة، ليست إلا انعكاس للحركة الاقتصادية، فإذا كانت الثورة البرجوازية قد حصلت فلم تكون مَهمّتها سواء إزالة آثار الحكم الإقطاعي، وإقرار الديمقراطية وكانت تمهد الطريق لثورة أخرى وهي الثورة البروليتارية الاشتراكية.[٣٠]


ينبغي التأكيد على أنّ هذه الثورة لم تكتمل إلا في حال حصلت الطبقة العاملة وهي البروليتاريا على السلطة،[٣١] يقول أنجلز: إنّ كل التاريخ الماضي كان تاريخ صراعات طبقية، وأن هذه الطبقات المتحاربة هي دومًا نتاج الظروف التبادل والإنتاج باختصار نتائج الظروف الاقتصادية لعصرها، وبالتالي فإنّ التركيب الاقتصادي للمجتمع يشكل دائمًا الأساس الحقيقي الذي يفسر دائما في التحليل الأخير كل التركيب العلمي المؤسسات القانونية والسياسيّة، فضلًا عن المفاهيم الدينيّة والفلسفية وغيرها من المفاهيم في كلّ فترة تاريخية.[٣٢]


وكان للماركسية موقف خاصّ من الأيديولوجيا فهل الأيديولوجيا أداة للاستلاب أم أنها أداة للتحرير؟ وما الفرق بين البراغماتية والأيديولوجيا؟ إنّ الإجابة عن هذا السؤال كانت الشغل الرّئيس للماركسية منذ أن وجدت، ولكن هل من الممكن الإجابة عن هذا السؤال قبل أن نسأل سؤالًا آخلا وهو هل للماركسية نفسها أيديولوجي؟ أم أنها نقد كل الأيديولوجيات يؤكد ماركس أن الماركسية ليست أيديولوجيا، وأنها على العكس نفي لكل الأيديولوجيات السابقة فالأيديولوجيا هي الأفكارالزائفة، والأيديولجيات السابقة مثل النفعية التي وطدت العلاقة بين البراغماتية والأيديولوجيا فيما بعد، والتي نشأت في ظلّ الرأسمالية، وهذا المعنى الذي أعطاه ماركس وأنجلز للأيدولوجيا في مؤلّفات الشباب، ولا سيما في الأيديولوجيا الألمانية.[٣٣]


لكن ما هو مشترك بين كلٍّ من الفلسفة البراغماتية والفلسفة الماركسية هو أنّ كلاهما حارب الأفكار الميتافيزيقية والأفكار التأملية المجردة[٣٤]، فإذا كانت البراغماتية قامت بانتقاد الفلسفة المثالية فكذلك فعَلَ الماركسيّون ووجّهوا انتقادات كبيرة للفلسفات المثالية، وما فوق الطبيعة، حيث إنّهم يعتقدون أنّها في الأساس دينًا ولاهوت يقول لينين في الملاحظات الفلسفية عن المثالية هي الكهنوتية، وكل مثالية هي استمرار للمعالجة الدينية للمسائل.[٣٥]


وإن كانت بعض النظريات المثالية تخلع رداءها الديني، فلا يمكن الفصل بين المثالية وبين الخرافة والإيمان بما فوق الطبيعة بقوة غامضة وغير معروفة، ومن ناحية أخرى تبحث المادية عن التفسيرات بعبارات تنتمي إلى العالم المادي، وفي عوامل يمكن التحقق منها وفهمها والسيطرة عليها، وهكذا فإن جذور الفهم المثالي للأشياء هي جذور الدين بالنسبة إلى المتدينين، لا تجد المفاهيم الدينية المفاهيم الكائنات الروحية في ما فوق الطبيعة تبريرًا، والواقع أنّ في هذه المفاهيم شيئًا يضرب بجذوره عميقًا في الطبيعة الروحية الإنسانية، والواقع أنه من الصحيح أن هذه المفاهيم جذورها عميقة في التطور التاريخي الوعي الإنساني.[٣٦]


لقراءة المزيد عن الاتجاه الماركسيّ، ننصحك بقراءة هذا المقال: معلومات عن الفكر الماركسي.


الفلسفة الوجودية

إذا كانت الفلسفة البراغماتية تهتم بالفرد وتهتمّ بسعادته ومصلحته، وقامت بتقديم الفرد كفاعل حقيقي، فإن الفلسفة الوجودية أيضًا اهتمت بالفرد لكن الفرق بين البراغماتية الوجودية هو نزعة الحرية المتمركزة في الفلسفة الوجودية، يقول سارتر: إنّ الوجود سابق على الماهية بالنسبة إلى الإنسان، وليس الإنسان سوى أنه هو من يصنع نفسه بنفسه، وهذا أول مبدا من مبادئ الفلسفة الوجودية وهو ما يسمى بالذاتية، ولا يعني سارتر بهذه الكلمة إلا أن للإنسان كرامة أكبر ممّا لكل شيء سواه، وذلك أن الإنسان يوجد أساسًا ثم يكون وهو يكون شيئًا يمتد بذات نحو المستقبل، وهو يعني أنه يمتد بها إلى المستقبل، وهو مشروع يمتلك حياه ذاته بدلًا من أن يكون شيئا آخر.[٣٧]

ومن غير الممكن أن يكون للإنسان مشروع وجود دون أن يكون ما يريد، وأن يقوم بعملية الاختيار، فكل فرد وصي على نفسه ومسؤول عمّا هو عليه مسؤولية تامة، وعندما يقول سارتر أن على الإنسان أن يختار لنفسه، لا يعني أبدًًا تجرده من المجتمع، بل يعني سارتر بذلك أن يختار الإنسان لنفسه وللناس جميعًا، فيأخذ بعين الاعتبار تأثير قراراته واختياراته عليه وعلى الإنسانية جمعاء.[٣٧]


لقراءة المزيد عن الفلسفة الوجودية، ننصحك بقراءة هذا المقال: تعريف الفلسفة الوجودية.


موقف الإسلام من البراغماتية

ما هي نظرة الإسلام إلى الفلسفة البراغماتية؟

للعمل قيمة كبيرة في الفلسفة البراغماتية، وتسمى الفلسفة البراغماتية بالفلسفة العملية أو فلسفة العمل؛ لحرصها على أن يقوم الإنسان بأعماله الموكولة إليه ويسعى في سبيل تحقيقها؛ كي يكون سعيدًا، بدلًا من إضاعة الوقت في أمور أخرى، وكذلك كان للعمل أهمية كبيرة في الإسلام ومن أبرز الأمثلة على ذلك، أنّ القرآن الكريم رَفَع من قيمة العمل ومجّده، وتكررت كلمة "العمل" ومشتقاتها في القرآن الكريم كثيرًا، وكم تكررت كلمه السعي والكسب ككلمات تقترب من مفهوم العمل.[٣٨]


وإذا كانت الفلسفة البراغماتية قائمة على التجربة وعلى الخبرة فلا تقبل بالنتائج إلّا بعد التحقّق منها عن طريق التّجربة والخِبرة، واعتمدت البراغماتية اعتمادًا كليًا على المنهج التجريبيّ، لكن التجربة والمشاهدة ليستا وسيلتَيْ العلم القطعيّ من وجهة نظر الدين الإسلاميّ، والمنهج التجريبي عاجز عن تفسير الأمور الغيبية، مثل: الروح أو الموت أو ما بعد الموت، فلا يستطيع تفسيرها، ولا يمكن تطبيق المنهج التجريبي على العلوم الإنسانية سواء النفسيّة أم الروحيّة أم التاريخيّة.[٣٩]

مآخذ على الفلسفة البراغماتية

ما هي أهم الانتقادات التي تم توجيهها إلى الفلسفة البراغماتية؟


صعوبة تحديد النتائج

بناءً على مبدأ الفيلسوف البراغماتي بيريس والذي يقول بأن الحكم على الأفكار وكافة المعتقدات والأقوال والمعاني لا يكون إلا من خلال نتائجها، فإن هنالك صعوبة كبيرة في تحديد هذه الأمور، والبراغماتية في صميمها ليست سوى منهجية لاكتشاف الأخطاء والأفكار الخاطئة، وهذه الأفكار التي ليست لها آثار عملية، بما معناه أنها بحث سلبي عن الحقيقة، وليست بحثًا إيجابيًا.[٤٠]


طريقة تحديد النتائج ليست براغماتية

بالنّظر إلى فلسفة وليم جيمس التي تقوم على مبدأ أنّ كل ما هو نافع صحيح، وكل ما هو صحيح نافع فإنّ طريقة تحديد النتائج لا تتمّ بطريقة براغماتية، ويترتب على هذا الأمر أن الفلسفة تصبح مجرد جري وراء تحقيق النفع العمليّ، وأصبح البحث عن الحقيقة أمرًا ثانويًا قياسًا بالبحث عن النفع العملي، وعندها تقوم البراغماتية بالربط بين الحقّ والصحيح والحقيقة بالنفع.[٤١]


اعتبار الحقيقة وسيلة وليست غاية

إنّ النتيجة النهائية للبراغماتية هي أن تصبح الحقيقة وسيلة وليست غاية في ذاتها، ولا تكون الحقيقة ممكنة، في حين أنّ البحث عن الحقيقة هو غاية في ذاته، مما سيؤدي إلى تضييق الفكر البشري، وسيتم تقديم الأهواء والشهوات على القيم والأخلاق.[٤١]

المراجع

  1. وليم جيمس، البراجماتية، صفحة 65. بتصرّف.
  2. وليم جيمس، البراجماتية، صفحة 66. بتصرّف.
  3. رنا الشويعر وسهام العصيمي، الفلسفة البراغماتية، صفحة 6. بتصرّف.
  4. وليم جيمس، البراجماتية، صفحة 239.
  5. وليم جيمس، البراجماتية، صفحة 240. بتصرّف.
  6. خالد الدباس ، تطور الفكر السياسي لدى تيار الإسلام السياسي في العالم العربي:، صفحة 67. بتصرّف.
  7. خالد الدباس، تطور الفكر السياسي لدى تيار الإسلام السياسي في العالم العربي، صفحة 67. بتصرّف.
  8. ^ أ ب ت خالد الدباس، تطور الفكر السياسي لدى تيار الإسلام السياسي في العالم العربي، صفحة 67. بتصرّف.
  9. خالد الدباس، تطور الفكر السياسي لدى تيار الإسلام السياسي في العالم العربي، صفحة 67. بتصرّف.
  10. زكي نجيب محمود (2017)، نافذة على فلسفة العصر، صفحة 126. بتصرّف.
  11. زكي نجيب محمود (2017)، نافذة على فلسفة العصر، صفحة 128. بتصرّف.
  12. زكي نجيب محمود (2017)، نافذة على فلسفة العصر، صفحة 128. بتصرّف.
  13. زكي نجيب محمود (2017)، نافذة على فلسفة العصر، صفحة 129. بتصرّف.
  14. زكي نجيب محمود (2017)، نافذة على فلسفة العصر، صفحة 129. بتصرّف.
  15. زكي نجيب محمود (2017)، نافذة على فلسفة العصر، صفحة 132. بتصرّف.
  16. زكي نجيب محمود (2017)، نافذة على فلسفة العصر، صفحة 133. بتصرّف.
  17. برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربية الجزء الثالث، صفحة 464. بتصرّف.
  18. برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربية الجزء الثالث، صفحة 472. بتصرّف.
  19. برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربية الجزء الثالث، صفحة 472. بتصرّف.
  20. برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربية الجزء الثالث، صفحة 476. بتصرّف.
  21. برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربية الجزء الثالث، صفحة 479. بتصرّف.
  22. برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربية الجزء الثالث، صفحة 481. بتصرّف.
  23. زكي نجيب محمود (2017)، نافذة على فلسفة العصر، صفحة 181. بتصرّف.
  24. زكي نجيب محمود (2017)، نافذة على فلسفة العصر، صفحة 182. بتصرّف.
  25. زكي نجيب محمود (2017)، نافذة على فلسفة العصر، صفحة 183. بتصرّف.
  26. سوسن زياد، الأخلاق البراغماتية جون ديوي والآداتية، صفحة 23. بتصرّف.
  27. سوسن زياد، الأخلاق البراغماتية جون ديوي والآداتية، صفحة 23. بتصرّف.
  28. سوسون زياد، الأخلاق البراغماتية جون ديوي الأداتية، صفحة 24. بتصرّف.
  29. زكي نجيب محمود (2018)، نظرية المعرفة، صفحة 28. بتصرّف.
  30. ^ أ ب موريس كورنفوؤث، مدخل إلى المادية الجدلية، صفحة 201. بتصرّف.
  31. موريس كونفورث، مخل إلى المادية الجدلية، صفحة 202. بتصرّف.
  32. موريس كورنفورث، مدخل إلى المادية الجدلية، صفحة 202-203. بتصرّف.
  33. جورج طرابيشي، الماركسية والأيديولوجيا، بيروت لبنان:الطليعة، صفحة 9-10. بتصرّف.
  34. زكي نجيب محمود، نافذة على فلسفة العصر، 2017:وزارة الثقافة الأردنية ، صفحة 183. بتصرّف.
  35. موريس كورنفوررث، مدخل إلى المادية الجدلية، صفحة 34. بتصرّف.
  36. موريس كورنفورث، مدخل إلى المادية الجدلية، صفحة 34-35. بتصرّف.
  37. ^ أ ب سارتر (1964)، الوجودية مذهب إنساني، مصر:مطبعة الدار المصرية، صفحة 14-15-16.
  38. زكريا الرطروط، الفلسفة البراغماتية وموقف الإسلام منها، صفحة 193-194. بتصرّف.
  39. زكريا الرطروط، الفلسفة البراغماتية وموقف الإسلام منها، صفحة 202-202. بتصرّف.
  40. زكريا الرطروط، الفلسفة البراغماتية وموقف الإسلام منها، صفحة 170. بتصرّف.
  41. ^ أ ب زكريا الرطروط، الفلسفة البراغماتية وموقف الإسلام منها، صفحة 170-171. بتصرّف.
6235 مشاهدة
للأعلى للسفل
×