متى يبدأ الربيع العربي في الحقوق الصحية!

كتابة:
متى يبدأ الربيع العربي في الحقوق الصحية!

أن أكثر من يدفع ثمن غياب الحقوق الصحية هم أكثر الفئات استضعافا في المجتمع, كالأطفال والنساء والمسنين والطبقات الدنيا وذوي الاحتياجات الخاصة.

لا شك أن الحقوق السياسية والاجتماعية والثقافية التي يجب أن تضمنها الدول لمواطنيها عبر الدساتير أو النصوص القانونية المؤسسة، هي الأعمدة المركزية التي من المفترض أن يرتكز عليها أي كيان يسعى لأن يكون دولة متطورة، تحترم مواطنيها وتخدمهم وتوفر لهم الحياة الكريمة وليس بالعكس. فالكثير من الدول في منطقتنا وخاصة بلدان الربيع العربي تعكف حاليا على صياغة نصوصها القانونية الملزمة والمؤسسة لتنظيم الحياة هناك بعد التغييرات التي حصلت فيها.

وقد يحتدم النقاش غالبا حول الحقوق السياسية، وحرية التعبير والصحافة وكذالك تقسيم الثروات ولكن هذه النقاشات تبقى في قطر الدائرة القريبة والمحيطة بمركز صنع القرار، فيتم تناسي المواضيع والقضايا التي تشغل سكان الأطراف والنواحي البعيدة عن العاصمة والأحياء الراقية فيها.

ومن أهم هذه المواضيع التي تعكس مدى قدرة الدولة على إجراء التغيير وبالتالي النهوض ومواكبة العصر هي الحقوق الصحية أو حق الإنسان بالصحة، وكذلك بتلقي العلاج الصحي اللائق الذي يضمن التشخيص السليم بواسطة أخصائي مهني مؤهل والتجهيزات الحديثة ذات الجودة العالية من الصيانة، وأماكن الاستشفاء اللائقة والنظيفة وبالأساس المجهزة بكل ما يحتاجه الفرد وذلك كحق إنساني طبيعي وليس بصيغة هبة من الحاكم كما كان يحدث سابقا. يضاف لكل هذا، الحق في الحصول على وسائل العلاج المناسبة والمتمثلة بالأدوية والعلاجات الدورية المختلفة بحيث تكون قريبة جغرافيا وبمنالية وجودة عالية.

  • الصحة: حق كوني

إن الحق في الصحة مثبت ومنصوص عليه في مواثيق وإعلانات دولية عديدة، حيث جاء في "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" من عام 1948: "لكل شخص الحق في مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته، ويتضمن ذلك التغذية، الملبس، المسكن والعناية الطبية، وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة، وله الحق في تأمين معيشته في حالات البطالة، المرض، العجز، الترمل والشيخوخة وغير ذلك من فقدان وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن إرادته". كما وجد الالتزام بهذا الحق تعبيرًا جديًا له أيضًا في "العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية" من سنة 1966: "تقر الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية، الذي يمكن بلوغه".

وفي التعليقات العامة التي اعتمدتها "لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية"، التي أنشئت من قبل الأمم المتحدة لمتابعة تطبيق هذا العهد - أقرّت ملاحظة عينية في هذه المادة (ملاحظة عامة رقم 14)، حيث اكتسب مفهوم الحق في الصحة من خلالها معنى أوسع من مجرد تقديم علاج طبي للمريض.

وقد أحسنت هذه الملاحظة في تفصيل التدابير اللازمة من أجل تأمين الممارسة الكاملة لهذا الحق: التوافر، المقبولية، الجودة وسهولة المنال بمفهوم غياب التمييز وسهولة المنال من الناحية المادية والاقتصادية لكل إنسان.

وبما يتعلق بشرط المساواة وعدم التمييز، كانت اللجنة واضحة وجاء نصها كما يلي:

"وفيما يتعلق بالحق في الصحة، يجب التركيز على المساواة في امكانية الوصول الى الرعاية الصحية والخدمات الصحية. وتلتزم الدول التزامًا خاصًا بتوفير ما يلزم من التأمين الصحي ومرافق الرعاية الصحية للأفراد الذين يفتقرون إلى الموارد الكافية، وبمنع أي تمييز يستند إلى الأسباب المحظورة دوليًا في توفير الرعاية الصحية والخدمات الصحية، خاصة فيما يتعلق بالالتزامات الرئيسية في إطار الحق في الصحة".

  • الدولة كراعي وكمنتهك للحقوق الصحية

يتحدث الكثيرون في الصحافة والإعلام عن مشاكل الصحة، عن ضعف الإنفاق الحكومى في بلادنا عامة على الصحة، وإهدار مخصصات الصحة الضعيفة أصلا فى متاهات من الفساد الذي لا يتوقف، وعن الظلم الفظيع الواقع على الأطباء وباقى مقدمي الخدمة الصحية، بدءا من الأجور التى تقل أحيانا عن خط الفقر، وحتى الاضطرار للعمل دون وجود أية نظم حقيقية لمكافحة العدوى، حيث يتعذر أحيانا وجود أبسط مستلزمات الفحص (كالقفازات مثلا) فى الكثير من المستوصفات، وتنقطع المياه فى بعض الأحيان، ويصعب الحصول على المعقمات فى الكثير من الأحيان، والنتيجة الطبيعية لكل هذا هو تحول المستشفيات من أماكن للعلاج إلى أماكن لنقل العدوى للمرضى ولأعضاء الفريق الطبي.

لاشك أن حق المواطن في الحصول على الرعاية الصحية في وطنه هي أحد دعائم المجتمع الرئيسية، ومظهر لحضارته، وأساس هام لاستقراره ورضاه، ولقد امتد مفهوم الرعاية الصحية ليشمل بالإضافة إلي تقديم الخدمات التشخيصية والعلاجية والتأهيلية، مفهوم الحفاظ علي الصحة العامة ضمن إطار التنمية البشرية للمجتمع والحفاظ على حقوق الإنسان. إن الرعاية الصحية تعتمد على أسس محددة أهمها، توفرها للمواطن بالقرب من مكان معيشته وعمله، توفرها بجودة معينة، وقدرة المواطن على الحصول عليها و قدرته على تحمل تكاليفها بالنسبة لدخله.

  • الصحة للفقراء أيضا

إن حق المواطنين في الحصول علي الرعاية الصحية المناسبة يجب أن يعتمد علي احتياجاتهم، وليس علي قدرتهم علي تسديد تكاليف هذه الرعاية، وحيث أن الرعاية الصحية ليست منتج كغيره ولا خدمة كغيرها في المجتمع، فهي بطبيعتها قد تكون غير متوقعة، وقد تكون باهظة التكلفة. لذلك فإن التحديات التي تواجهها الدولة، أي دولة وكذلك المؤسسات والجهات المعنية بالصحة تتمثل في تأمين نفس المستوى من الرعاية الصحية لكافة الطبقات، أغنياء وطبقات متوسطة وفقراء من خلال قوانين التأمين الصحي وعدم خصخصة الصحة، وانخراط الدولة كذلك بكل ثقلها وامكانياتها لكي تكفل تساوي فرص الرعاية الصحية للجميع، بحيث لا تقتصر الرعاية الجيدة واللائقة على الأغنياء، بينما يصبح متوسطو الحال والفقراء فريسة حتمية للظروف الصحية الكارثية وعيادات ومستشفيات نشر العدوى والمهانة.

  • كوارث صحية تتقاذفها الدول

لا تشمل قضايا حقوق الإنسان الصحية علاقة الدولة بمواطنيها والنصوص التي تنظم هذه العلاقة وحسب، بل أيضا الواقع على الأرض وخاصة في الحالات التي يتعدى انتهاك الحقوق الصحية منظومة الدولة الواحدة وقوانينها بل يخترق حدودها، ونعني هنا مثلا قضايا المهاجرين غير الشرعيين في أنحاء العالم، حيث تنعدم الحقوق الصحية لدى هؤلاء في حين لا يجرؤ المهاجرون الذين لا يحملون وثائق الوصول إلى الرعاية الصحية خوفا من أن يبلغ عنهم مقدمو الخدمة الصحية إلى سلطات الهجرة، من الأمور الخطيرة أيضا هي الظروف الصحية التي يمكن أن يحجز فيها المهاجرون الذين لا يملكون وثائق حيث من الممكن أن تكون أرضا خصبة لإنتشار الأمراض.

ومن النماذج الصارخة الأخرى للتزاوج بين انتهاك حقوق الإنسان وانتهاك حريته وبالتالي حقوقه الصحية، تأتي قضية الإتجار بالبشر وخاصة النساء اللواتي يقعن فريسة لعصابات صناعة الجنس، حيث يتم انتهاكهن من خلال العنف والاستغلال الجسدي إضافة إلى تعريضهن بشكل مباشر وشبه حتمي للأمراض المنقولة جنسيا، ومن أهمها الإيدز، إضافة إلى الحمل غير المرغوب فيه والإجهاض في ظروف صحية مزرية وغير آمنة.

للأسف فإن قضايا انتهاك الحق بالصحة كثيرة ومعقدة وهي ترتبط بسياسات الدول وأولوياتها، كما ترتبط في الكثير من الأحيان بالعلاقات بين الدول والثقافات وكذلك التوترات الإقليمية، ولكن للأسف الشديد أيضا فإن أكثر من يدفع ثمن غياب الحقوق الصحية هم أكثر الفئات استضعافا في المجتمع، كالأطفال والنساء والمسنين والطبقات الدنيا وذوي الاحتياجات.

4203 مشاهدة
للأعلى للسفل
×