محتويات
مفهوم اللغة
اللغةُ مُكوَّنٌ ثقافيٌّ كبيرٌ لا حدَّ له؛ منبعُه إمّا اعتباطيُّ التكوين، يكتسبُ أساسَهُ البنائي من مجموعةٍ من المكوِّناتِ الاجتماعية، أو البيئية، أو الفرديّة، أو الدينيّة، إلى آخر تلك المكوِّناتِ التي تمنحُ اللغةَ كينونتَها وقيمتَها الوجوديّةَ؛ ولهذا، فإن هذه القيمةَ لا تتجلّى سوى إن اكتسبت ألفاظُ اللغةِ ومفرداتُها سياقًا كلاميًّا معيَّنًا: منطوقًا أو مكتوبًا؛ بحيثُ تتولَّدُ، جرَّاءَ ذلكَ، دلالةُ الألفاظِ المرتبطةُ بالمعنى بشكلٍ أصيلٍ؛ فلولا السياقُ لما كانتِ الدلالةُ؛ وتُعَدُّ الدلالات والمرجعية، في فلسفة اللغة، مجالاتٍ متصلةً بعضها ببعض. وتشمل المجالاتُ الأخرى ذات الصلة كلًّا من فقه اللغة، والتواصل، والسيميائية. وبالتالي تكون الدراسة الرسمية لعلم دلالات الألفاظ معقدة، وفي الغالب فإنه قد تتعارض الدلالات مع بناء الجملة. والذي يحددُ المرجعيّةَ الدلاليةَ للألفاظِ إنما يتمثّلُ في المتلقي وطبيعة تلقّيه، فهي عملية تداوليّة، في المقام الأول، وذات أبعاد تمدديّة لا تقف عند حدٍّ واحدٍ، بالضرورة.[١]
مفهوم علم الدلالة
مصطلحُ "الدلالة" مثلُ غيره من المصطلحات القارّة في المنظومة الثقافية، اختلفتْ فيه التعريفاتُ والمُعرِّفونَ؛ ففي اللغة: دلَّ على الشيءِ أي أبانَهُ وأظهرَهُ؛ والدلالة كلمةٌ مُثَنّاةُ الفاء، أي فاء الجذر (دَلَلَ: فَعَلَ)؛ فتُنطَقُ: دَلالة ودِلالة؛ وكلاهما لفظٌ صحيحٌ فصيحٌ؛ ومعناها في اللغة كذلك الإشارةُ والإبانةُ والحُجّة، ومنها يُقالُ: الدليلُ أي المرشد، والدالّة والدلالة والدالُّ؛ والدلالة مصدرٌ صريحٌ للفعلِ (دلَّ) [٢]. وبهذا فإن دلالات الكلماتِ في اللغةِ يمكنُ تقسيمُها أقسامًا متعددة:[٣]
- قسم يدلُّ على مدلولٍ عامٍّ أو شامل، مثل اللفظ: رجل.
- قسم يدلُّ على كيفيّة، مثل اللفظ: طويل.
- قسم يدلُّ على حدث، مثل اللفظ: جاء.
- قسم يدلُّ على ذات، مثل اللفظ: محمد.
والعلماءُ بذلكَ يوضِّحون أنّ قيمةَ الكلمةِ ليس بمفردها، إذ لا بدَّ من سياق كلامي: منطوقًا أو مسطورًا، حتى تظهر قيمة الكلمة الدلاليّة؛ فهم يجمعون "على أن الأساسَ الصوتيَّ وحدَه لا يصلحُ لتحديدِ معالمِ الكلماتِ؛ وأنه لا بدَّ أن يشترك معه معنى الكلمة أو وظيفتها اللغوية أو سياقها الكلامي ليتحدد معناها وتتأصلُ دلالتها".[٤]
أمّا في الاصطلاحِ؛ فرغم كثرةِ التعريفاتِ عند اللغويين والبلاغيين؛ تُعرَّفُ بأنها "العلم الذي يبحثُ في المعنى ووظائفه وأبعادِه ونظرياته؛ وكيفيّة استخدامها وفق بنىً معيّنة ونسقٍ يحتكمُ إلى مجموعةٍ من القواعد اللغوية والبلاغيّة، فهي، بحسب الجرجانيّ: "كَوْنُ الشيءِ بحالةٍ يلزمُ من العلم به بشيءٍ آخرَ، والأول هو الدالُّ والأخيرُ هو المدلولُ"[٥]؛ وتتفرعُ موضوعاتُ علم الدلالةِ تفريعاتٍ كثيرةً، أهمُّها:
- الدلالة المعجميّة.
- الدلالة الصّوتيّة.
- الدلالة السّياقيّة.
- الدلالة الاجتماعيّة.
- الدلالة الصّرفيّة.
- الدلالة النّحويّة.
وفي هذه الفروعِ كلِّها، التي تقومُ، في أساسها، على اللفظة المفردةِ؛ تختُّ بدلالتها المعجميّة المفردة، بلا أيةِ دلالةٍ أخرى، سوى إن امتدت إلى بنيتها السياقيّة، التي ترتبطُ بجوانبَ نحويّةٍ وصرفيّة، وهي جوانبُ داخليّة، وإما أن ترتبطَ بجوانبَ مقاميّة تداوليّة اجتماعية؛ وهي جوانبُ خارجيّة؛ أي خارج السياق اللغويِّ النصّي.
علم دلالة الألفاظ
من خلال المعنى اللغوي والاصطلاحيّ الذي تم التفصيلُ له؛ فإن علماء اللغةِ والبلاغةِ أدركوا أن الدلالةَ مثلها مثلُ أي فرعٍ في اللغة، يحتاج إلى علمٍ خاصٍّ به، لا ينفصلُ، بطبيعةِ الحالِ، عن علوم اللغةِ الأخرى؛ فمن خلال التفريعات التي ذُكِرَت، يتبيّن أن علم الدلالة يرتبطُ بالجانب المعجميّ؛ وهي اللفظةُ في سياقها الأول؛ أي المعنى الأول الذي يتبادرُ إلى الذهنِ؛ فكلمة "درسَ" مثلاً: تعني قراءةَ الشيء ومحاولة فهمه واستيعابه؛ وترتبطُ كذلك بعلم السياقِ، فلو جاءت كلمة "درسَ" نفسُها في سياقٍ آخرَ يُخرجها عن معناها المعجمي؛ مثل: درسَت الديارُ، بمعنى: تغيرت معالمُها؛ فالسياقُ غيّر معنى اللفظةِ المعجميّة. كذلك فإنها ترتبطُ بعلم الصرف واشتقاقاته، والنحو وفروعه؛ وفي كل فرع من ذلك، تكتسبُ اللفظةُ دلالةً جديدةً.[٦]
وهذا يشيرُ، بشكلٍ أو بآخرَ، إلى أن دلالة الألفاظِ لا تنتهي سوى بانتهاء السياق، وهذا من الاستحالة بمكان؛ لأن السياق اللغوي يتغيّر بتغيّر المقام والقائلِ: كتبه أو نطقَه. لكن هذا الأمرَ، وتعلَّقَ الدلالة بالجوانب اللفظية، يثيرُ تساؤلاً في ذهن المتلقّي: هل تقتصرُ الدلالاتُ على الألفاظِ حسْبُ؟ أم أن هناكَ دلالاتٍ ترتبطُ بجوانبَ غيرِ لفظيّة؟ في الحقيقةِ، فإن الدلالةَ لا ترتبطُ بالجانبِ اللفظيِّ حَسبُ؛ إذ إن هناك دلالةً لفظيةً ودلالةً غيرَ لفظيّة؛ أما الدلالة اللفظيّة، فهي المذكورةُ فيما تمَّ ثبتُه أعلاه؛ أما الدلالةُ غيرُ اللفظيّة والتي يكونُ الدالُّ فيها سوى اللفظِ، ومثالُ ذلك: إذا نظرَ فلانٌ إلى السماءِ ورأى دُخانًا، فإنَّ الدخانَ، وهو دالٌّ غيرُ لفظيّ، يدلّث على وجودِ نارٍ. ومن الضروريِّ الأخذُ بعين الاعتبارِ أن الدلالاتِ بقسميها: اللفظي وغير اللفظيّ تُقسَمُ ثلاثةَ أقسامٍ:[٧]
- الدلالة الوضعية: وهي الدلالةُ المتفقُ على وضعها وتم الاصطلاح عليها؛ فكلمة "سيّارة" عند العرب تدلُّ على آلة الركوب. هذا في الدلالة الوضعية اللفظية. أمّا في الدلالة الوضعية غير اللفظية فمثال ذلك: إشاراتُ المرور، فهي تُعدُّ من الدلالات التي اصطُلحَ على اتحاد دلالاتها.
- الدلالة الطبعيّة: وهي الدلالة التي تتعلق بطبع الإنسانِ وعاداتهِ؛ ففي الدلالة الطبعيّة اللفظيّة مثلا؛ كلمة "أخْ" بالتفخيم الصوتي للخاء، لفظةٌ تدلُّ على التوجّع والألم. أما في الدلالة الطبعيّة غير اللفظية مثلا: اصفرارُ الوجهِ، فهو دلالة غير لفظيّة على المرض واعتلال الجسم والخوف من شيءٍ ما.
- الدلالة العقليّة: وهي الدلالةُ التي يكونُ منشأَها العقلُ؛ فمثال الدلالة العقليّة اللفظيّة: نحنحةُ الشخصِ قبلَ الدخول؛ فهي دلالة صوتية لفظية تدلُّ على وجود إنسان خارج المكان المقصود. أما الدلالة العقلية غير اللفظية مثلا: دلالة الدخان المرئيِّ في السماء على نار مشتعلة.
وبهذا، فقد تنوّعت الدلالات وتفرَّعتْ بشكل تشابكيّ شموليٍّ لكل فروع اللغة، ومن الجديرِ بالدرسِ ذكرُ اهتمام العلماءِ بالدلالة المعجميّة، لما شكلته من أساسٍ للوظيفة الدلاليّة؛ فهي المؤسِّسةُ لفروع الدلالات كلها: السياقية، والنحوية، والصرفية، وغيرها من الفروع التي أخذها الدرسُ اللغوي والبلاغي، على وجه الخصوص، بعين الاعتبار. وقد درسه العلماء تحت باب التوليد الدلاليّ في نطاقه المعجميّ؛ وهو إبداعٌ لدلالاتٍ وتراكيبَ معجميّةٍ تظهرُ في كلِّ استخدامٍ سياقيٍّ لها بمعنى جديدٍ وقيمةٍ دلاليّة جديدة، وهي بذلك تجعلُ من المفردة المعجميّة الواحدة كلمةً ذاتَ إشعاعاتٍ كثيرةٍ؛ بسبب وجودِها في سياقاتٍ كثيرةٍ بالضرورةِ. وبهذا فإن مصطلح التوليد الدلالي المعجمي يرتبطُ ارتباطًا وثيقًا بعلم دلالة الألفاظِ، كون الألفاظ هي الأساسَ الذي ينبني عليها المعجمُ، بطبيعةِ الحال. ومصطلحُ التوليدِ المعجميّ بذلك يرتبطُ بمفهومٍ جوهريٍّ ذي أهميّة كبيرةٍ، وموجودٍ في علم اللسانيّاتِ الحديثة إلا وهو الإبداعيّة creativity، وهو يُطلَقُ للتعبير عن القدرة اللغوية وتوسيع نطاق الوحدات المعجميّة، وعدم حصرها في سياقٍ دلاليّ واحد[٨].
وكما قال الخطابيّ: "أمّا المعاني التي تحملها الألفاظُ، فالأمرُ في معاناتِها أشَدُّ؛ لأنّها نتائجُ العقول، وولائدُ الأفهامِ وبناتُ الأفكار"[٩]. وهذا ما يؤكِّدُ المعاناةَ في عمليّةِ الإبداعِ، ويدفعنا في الوقتِ عينه إلى أن القدماء أمثال: السيوطي، السكاكي، ابن الأنباري، أبي حاتم السجستاني وأبي علي الفارسي، يُجمعون على تقسيم وجوه العلاقة الدلاليّة بين اللفظ والمعنى في ثلاثة أقسام:[١٠]
- اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين.
- اختلاف اللفظين والمعنى واحد.
- اتفاق اللفظين واختلاف المعنيين.
ويرتبطُ درسُ علمِ دلالة الألفاظِ بدراسةِ الدور التأويليّ للتراكيبِ الدلاليّة بالضرورةِ؛ فدراسة المفرداتِ في سياقها المعجميّ المفرد سيؤدي إلى معنى مبتور الدلالة، بطبيعة الحال؛ لذا، ينبغي أن تكون الدراسةُ ضمنَ سياقٍ جُمْليٍّ يُكسبُ اللفظةَ المفردةَ قيمتَها التأويليّةَ؛ لاستيضاح معنى توليد دلالات الألفاظ، بشكلٍ أكثر سهولةً؛ إذ إنَّ نشوء العلاقاتِ الدلاليّة يرتبطُ باعتبار وحدتين متطابقتين صوتيًّا، ومختلفتين دلاليًّا، وهذا يؤدي، بالضرورة، إلى دراسة التعالقات الدلاليّة بين المفردات.[١١]
ولا بُدّ من طرحِ أمثلةٍ تطبيقيّة للألفاظِ ودلالاتها؛ كون القضيّة في هذا السياق لن يتم فهمها من خلال التنظيرِ حَسْبُ، فكلمةُ "كأس" مثلاً ترتبطُ دلاليًّا بكلمة "محتوى" أو كلمة "وعاء"؛ إذ، بذلك، تم التوسّع الدلاليّ للألفاظِ عن طريقِ خلقِ علاقاتٍ بين المفرداتِ، بعيدًا عن الجانب الصوتيّ، انطلاقًا إلى البحث عن الترابطات والأواصر الدلاليّة. وبهذا، فإن دراسةَ الألفاظِ والبحث في دلالاتها المتعددة يمكنُ أن يكونَ ضمنَ صورتَين:[١٢]
- أن تتضمن الوحدةُ مدخَلَيْنِ معجميّين منفصلَين متعالِقَينِ عن طريقِ قاعدةٍ علاقيّةٍ دلاليّةٍ.
- أن يكون للوَحدةِ مَدخَلٌ معجميٌّ يخضعُ لتغيير دلاليّ في بعض السياقاتِ. مع أن المطّلعَ على أبعادِ الصورتين يجدُ بينهما اتّحادًا يُصَعِّبُ الفصلَ بينهما؛ لكنّه يسهّلُ الربطَ، في الوقتِ نفسه، بين التوسّع في خلق العلاقاتِ الدلاليّة وبين علم البلاغةِ؛ أي استخدام تقنياتٍ بلاغيّة استعاريّة أو كنائيّة في خلق قيمةٍ دلاليّة متجددةٍ للوحداتِ اللفظيّة المعجميّة. وهذا، بالضرورة، يجعلُ الباحثَ داخلَ نطاقٍ تأويليٍّ متّسع ينتجُ دلالاتٍ كثيرة ولا نهائية؛ فمثلاً الكلمات: فم، رِجْل، عين، يمكن عن طريق التوسع الدلاليّ توظيفها داخل سياقاتٍ مختلفةٍ تنقلها من دلالةِ الأعضاءِ إلى دلالاتٍ أخرى، مثل: فم الزجاجةِ، رِجْل الطاولة، عين الإبرة.
وفي علم دلالة الألفاظِ كذلك، تتميزُ الدلالةُ في أنه يمكن جمعُ مجموعةٍ من المفرداتِ داخل حقلٍ دلاليٍّ واحدٍ، مثلا: باعَ، واشترى، وتاجَرَ، وبادلَ، وقايَضَ، وأخذَ، وورِثَ؛ ألفاظٌ يمكن إدخالها في حقل دلاليٍّ هو: نقلُ الملكيّة، على سبيل المثال. كما أنه لا يمكنُ بأيةِ حالٍ إغفالُ الجانبِ البلاغيّ المتمثّل بالتقنياتِ البلاغية: الاستعارة، والكناية، الومجاز، في دراسة دلالات الألفاظِ داخل سياقها المتعدد، ودراسة التشكلات والتحولات الدلالية المتمثلة باختلاف تلك السياقات؛ فعلى سبيل المثال: الألفاظ "عالجَ، هضمَ، نسَجَ"، يمكن عن طريق التعدد السياقي استيضاحُ التعدد الدلاليّ فيها، وأمثلة ذلك:[١٣]
- عالجَ زيدٌ الجرحَ.
- عالجَ زيدٌ الفكرةَ الخاطئة.
- هضمَ زيدٌ الطعامَ.
- هضَمَ زيدٌ النظريّةَ الجديدةَ.
- نَسَجَ زيدٌ الثوبَ.
- نسجَ زيدٌ الاتفاقَ.
فالقراءةُ للأفعال في المجموعة (أ) تختصُّ باعتبارها أفعالاً محسوسةً تنطبقُ على كياناتٍ محسوسةٍ، تُفهَمُ من دلالتها الأولى. بينما في المجموعة (ب) فإن الأفعالَ نفسَها ارتبطتْ بدلالاتٍ استعاريةٍ أخرى، استمدّت دلالتها من المعنى الأول للوحدة المعجمية، وعن طريق توظيف تقنية التنبؤ الدلاليّ المستخدم بوساطة الإبداعية التي تمت الإشارة إليها مسبقًا، تبيّنت الدلالات المستجدّة على الألفاظِ نفسها. وفي مثالٍ آخر لتوضيح التداخل العلائقيّ بين اللفظة المفردة والدلالة المتولّدة باستخدام الأسلوب البلاغي؛ فكلمة (نخلة) ترتبطُ بوحدات لفظية أخرى داخل حقل دلاليّ واحد، مثل: شيء، نبات، بلح، تمر، طويل، خُضرة، صحراء. لكن، حين تُستخدمُ التقنية البلاغيةُ في النتاج الإبداعي، فيُقال: محمودٌ نخلة، فقد دلّت لفظةُ (نخلة) على صفة الطول، الذي من خلاله حُذِفَت الوحدات المعجميّة الأخرى، وبقيت لفظةٌ معجميّة واحدة، داخل الحقل الدلالي ألا وهي: الطول. وبهذا، فإن علم دلالة الألفاظ واسعُ الآفاقِ، متشابكُ المداخلِ، لكنه يمنحُ السياقَ قيمتَه، من خلال بحثه الدؤوب عن الدلالات التي من خلالها يستطيع القارئ أن يستكشفَ اكتناهات النص ويستجليَ كوامنَه.[١٤]
الخصائص الدلالية للألفاظ
الألفاظُ بطبيعةِ الحال لها دلالاتٌ، وهذه الدلالاتُ تمتازُ بأن لها خصائصَ مختلفةً؛ وهي مميِّزاتٌ تجعلُ من رصد الآثارِ المترتبة على الدلالة انعكاساتٍ منهجيّةً محددة ومؤطرةً ضمن مجموعةٍ من السمات؛ وهذا ما يجعلُ المنهجَ واضحًا، ويرسمُ معالمَ القضيّة بشكل محدد؛ ومن ضمن هذه الخصائص::
- المقصديّة: وهي الغايات اللغويّة التي من خلالها توصلُ إلى الدلالة المبتغاة.[١٥]
- الترادف: ويعني اختلاف الكلمتين واتفاقُ دلالتهما.[١٦]
- التضاد: ويرتبط بالألفاظ ذات المعنى المتقابل.[١٧]
- الاتساع في المعنى: أي وجود معنى مركزيّ يجمعُ بين متضادين في اللفظ والمعنى.[١٨]
- النقل المجازيّ: أي القدرة على استخدام اللفظة في معنى، ثم استعارتها إلى معنى آخر.[١٩]
هذه الخصائصُ المتعلقة بالألفاظ ودلالاتها، والفروع التي من خلالها نستطيع أن نمنحَ الألفاظَ دلالتها المتولدة والمتكاثرة والمتكاثفة؛ إنها محاولة الانتقال في اللفظة والتأرجح بين الحقيقةِ والمجاز؛ "فالألفاظ تصير حقيقة ومجازًا باستعمالها، والحقيقة قد تصير مجازًا، وكذلك العكس، فالحقيقة إذا قلَّ استعمالها صارت مجازًا عُرفًا، والمجاز إذا كثر استعماله صار حقيقة بالعرف أيضًا، وهذا يعكس أثر عامل التطور في مدلول اللفظ لدى الناطقين به، وإذا كان الأصوليون قد عدوا - في الحقيقة والمجاز - أنه من حرية المتكلم أن يستعملَه فيما وُضِع له أو في غيره، فإن هناك اعتبارًا آخرَ بحسَب تبادُرِ المعنى المراد وعدمه، فإن كان المعنى المراد منكشفًا بحيث لا يحتاج إلى بيانٍ، فهو الصريح، وإن كان مما لا يُفهَم قصدُ المتكلم منه إلا بقرينة أو بيان، فهو الكناية، وهو مع ذلك - أي: في كونه صريحًا أو كناية - قد يكون حقيقةً أو مجازًا"، وهي معانٍ حقيقيّةٌ لا تنطلقُ إلى أبعادٍ مجازيّةٍ ترتبطُ بمفهومِ الإبداعية المذكور سابقًا.[٢٠]
دلالة اللفظ المشترك
المقصود بذلك أنّ اللفظةَ الواحدةَ الدالّة على معنى أو أكثر، على وجه الحقيقةِ لا المجاز، ويسمونه كذلك في علم البلاغة: "المشترك اللفظي" أي، بعبارة أخرى، تكون قيمة الاشتراك اللفظيّ مفيدةٌ للشيءِ ولخلافِهِ وضدِّه على وجه الحقيقةِ؛ مثل كلمة (القُرء) على سبيل المثال، فإنها تدلُّ على الطُّهر والحيض دونَ جمعٍ بينهما[٢١]. إذًا، فالمقصود في تعريف المشترك اللفظي أو اللفظ المشترك، هو إطلاقُ اللفظ على حقيقتين، وقد تجادَل الأصوليون حول وجود اللفظ المشترك من الأساس، وهم يختلفون في وقوعِه على أربعة آراء: (أحدها: أنه واجب؛ أي: يجب بحُكم المصلحة العامة أن يكونَ بين اللغات ألفاظٌ مشتركة، والثاني: أنه مستحيل، والثالث: أنه ممكِنٌ غيرُ واقع، والرابع: أنه ممكن واقع)، وإن كان أكثرهم يذهبون إلى إمكانِه ووقوعه.[٢٢]. وقد كانت هناك أسبابٌ كثيرةٌ لنشوء مصطلح اللفظ المشترك أو المشترك اللفظي وتعدد الدلالة على وجه الحقيقة لا المجاز منها:[٢٣]
- اختلاف اللهجات العربية.
- التطور اللغوي.
- اقتراض الألفاظ من اللغات الأخرى.
- تطور دلالات الألفاظ.
ومن هنا، يتبيّن للقارئ أن هناكَ الكثيرَ من الألفاظِ لها العديد من الدلالات المختلفة، وهذه الدلالات هي بالضرورة بابٌ من أبواب الثراء اللغوي الذي تحويه اللغة، فالمشتركُ اللفظي ينشأ وبتطور ويزدهر بازدهار الفنون اللغوية والبلاغية المتعددة؛ إذ إن البلاغة في هذا المقام هي البابُ الأوسعُ الذي من خلاله تتسعُ اللغةُ في عمومها، والألفاظ في تفصيلاتها المختلفة. ومن الجدير بالذكر أنَّ ظاهرة المشترك اللفظي - مثلُها في ذلك مثلُ الترادف - مشكلةً من مشاكل العلاقات الدلالية، مصطلحٌ يطلقه الدرْسُ الحديث على ظواهرَ متعددةٍ، تشرح العلاقات بين الكلمات في اللغة الواحدة، ومن نواحٍ عدَّة، نحو أن يكون معنيان أو أكثرُ للفظٍ واحد، فتسمَّى العلاقة هنا (المشترك اللفظي)؛ لكونها تسير خلافًا للوضع المثالي للَّغة، الذي يقتضي أن يكون للَّفظ الواحد معنًى واحدٌ، وللمعنى الواحد لفظٌ واحد.[٢٤]
وضوح الدلالة وغموضها
إن اللفظةَ هي في الحقيقةِ معناها ودلالتُها، ولولا الدلالة لكانت الألفاظُ ميتةً جامدةً لا روحَ فيها، ومن هنا، فقد كان علمُ الدلالة أحد العلوم المهمة التي منحت القيمة للجانب اللفظي بكل فروعه المعجمية والسياقية والنحوية والصرفية ... إلى آخر تلك التفريعات التي تمنح اللغةَ كينونتها المبتغاة، ومن هنا فإن الوضوح أو الغموضَ في الدلالة يرتبطُ بغيرِ أساسٍ من الأسس التي يجب ذكرُها:[٢٥]
- الأساس الدّاخليّ: أي داخل اللفظة نفسها، إذ إنها تكون غامضةً في دلالتها سوى إن تمثلت في سياق معين حينها تتضح دلالتها.
- الأساس الخارجيّ: يتعلقُ بالمدى الثقافي والمعرفيّ لدى المتلقّي، فإذا لم يكشف السياق الدلالة ويدفعها نحو الوضوح بذاتها بعد غموضها، فإن المتلقي عليه وظيفة الكشف وتجلية كوامن اللفظة وإيضاح الدلالة؛ وبهذا فإن العملية في الحقيقة تبادلية بين النص ومستقبله.
إن علم دلالة الألفاظ بابٌ واسعٌ كثير التشعبات والفروع، والبحث فيه شاقٌّ وشيّقٌ في الآن عينه، إنه يفتحُ آفاق المعرفة في اللغة، في قاعدتها الأصيلة: اللفظ، ويمنح المتلقي التقنيات والآليات التي من خلالها يستطيع أن يكشف الدلالة والمعنى ويصل إلى مرحلة من مراحل اللفظة ودلالة من دلالاتها التي لن تنتهي بطبيعة الحال، بسبب تكاثر السياقات واستحالة انتهائها.[٢٦]
المراجع
- ↑ ويكيبيديا، "علم دلالة الألفاظ"، ar.wikipedia.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-28. بتصرّف.
- ↑ سيد أبو طالب، "تعريف الدلالة لغة واصطلاحا"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-22. بتصرّف.
- ↑ منقور عبد الجليل، علم الدلالة أصوله ومباحثه في التراث العربي، صفحة 18. بتصرّف.
- ↑ إبراهيم أنيس، دلالة الألفاظ، صفحة 42. بتصرّف.
- ↑ "علم الدلالة في اللغة العربية"، mawdoo3.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-23. بتصرّف.
- ↑ ويكيبيديا، "علم دلالة الألفاظ"، ar.wikipedia.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-28. بتصرّف.
- ↑ "مركز الثقل الأكبر"، ya1ali1.blogspot.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-24. بتصرّف.
- ↑ ديريك جيرارتس، نظريات علم الدلالة المعجمي، صفحة 135. بتصرّف.
- ↑ إبراهيم بشار، "الأبعاد النصية والتداولية في التراث البلاغي العربي"، core.ac.uk، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-24.
- ↑ محمد عاشوري، مباحث دلالات الألفاظ وأثرها في السياسة الشرعية، صفحة 5. بتصرّف.
- ↑ عيادي عبد الصمد، "دراسات مصطلحية لفظ التأويل أنموذجا"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-28. بتصرّف.
- ↑ أبو الحسن المحجوبي ووديع الراضي، "مدخل إلى دلالات الألفاظ"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-28. بتصرّف.
- ↑ محمد غاليم (1987)، التوليد الدلالي في البلاغة والمعجم (الطبعة 1)، المغرب:دار توبقال للنشر، صفحة 169. بتصرّف.
- ↑ محمد غاليم (1987)، التوليد الدلالي في البلاغة والمعجم (الطبعة 1)، المغرب:دار توبقال للنشر، صفحة 169. بتصرّف.
- ↑ محمد عاشوري، مباحث دلالات الألفاظ وأثرها في السياسة الشرعية، صفحة 17. بتصرّف.
- ↑ محمد عاشوري، مباحث دلالات الألفاظ وأثرها في السياسة الشرعية، صفحة 60. بتصرّف.
- ↑ محمد عاشوري، مباحث دلالات الألفاظ وأثرها في السياسة الشرعية، صفحة 67. بتصرّف.
- ↑ مولاي العلوي، "العلاقات الدلالية محدد لدلالة الألفاظ"، www.arabiclanguageic.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-30. بتصرّف.
- ↑ مولاي العلوي، "العلاقات الدلالية محدد لدلالة الألفاظ"، www.arabiclanguageic.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-30. بتصرّف.
- ↑ سامح محمد، "خلاصة القول في دلالات اللفظ والسياق عند الأصوليين"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-24.
- ↑ "تعريف وشرح ومعنى القرء في معاجم اللغة العربية"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-24. بتصرّف.
- ↑ سامح محمد، "دلالة اللفظ المشترك"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-24. بتصرّف.
- ↑ "المشترك اللفظي"، www.uobabylon.edu.iq، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-24. بتصرّف.
- ↑ فاطمة كودرزي، "المشترك اللفظي عند القدماء والمحدثين"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-24. بتصرّف.
- ↑ "أقسام غير الواضج الدلالة"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-28. بتصرّف.
- ↑ طامي دغيليب (2017-07-08)، "أثر السياق في تعدد المعنى"، الجزيرة، العدد 16354، صفحة 1. بتصرّف.