معنى آية أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا، بالشرح التفصيلي

كتابة:
معنى آية أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا، بالشرح التفصيلي

سورة المؤمنون

سورة المؤمنون من السور المكيّة من السّور المئين، سُمّيت بهذا الاسم في عهد النبي -صلّى الله عليه وسلّم- كما جاء في الحديث الذي يقول فيه ابن السّائب: "حضرتُ رسولَ اللهِ يومَ الفتحِ فصلَّى في قِبَلِ الْكعبةِ، فخلعَ نعليْهِ فوضعَهما عن يسارِهِ، فافتتحَ بسورةِ المؤمنينَ، فلمَّا جاءَ ذِكرُ موسى أو عيسى عليْهما السَّلامُ أخذتْهُ سعلةٌ فرَكع"،[١] وروي عن بعض السلف الصالح أنّهم يسمّونها سورة قد أفلح؛ لافتتاحها بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}،[٢] نزلت بعد سورة الطور، وترتيبها من حيث النزول 76، وقد نزلت قبل سورة الملك، آياتها عند الجمهور 117 آية، وعند أهل الكوفة 118 آية،[٣] وترتيبها في المصحف 23 بعد سورة الحج وقبل سورة النور، وفي هذه السورة آية يقول فيها تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}،[٤] سيقف المقال معها فيما يأتي بالشرح والتفصيل والتبيان بما يسمح به المقام إن شاء الله تعالى.[٥]

معنى آية: أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا، بالشرح التفصيلي

تقف هذه الفقرة مع تفسير قوله تعالى في سورة المؤمنون: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}،[٦] وقد وقف المفسّرون مع هذه الآية مواقف عدّة وأكثروا من الشرح والتفصيل فيها بحسب فهمهم لها، وإن كانت كلّ تفاسيرهم في النهاية تصبّ في نفس البوتقة، فقد قال الإمام الطاهر بن عاشور -رحمه الله- إنّها جواب للآيات السابقة التي يقول فيها تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ* قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ* قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}؛[٧] إذ الآية جاءت بصيغة الاستفهام الإنكاري الذي يدلّ على التوبيخ لإنكار الكافرين البعث والحساب، وبكلامهم ذاك يكون الإنسان قد خلق عبثًا، فقط ليحيا ويرتع كسائر المخلوقات ثمّ يصير إلى الفناء والهلاك والموت، وبذلك يكون تضييع حق العباد؛ فلا يُجزى المحسن على إحسانه ولا المسيء على إساءته، وبذلك يسود الظلم والعبث والفوضى وتضيع حقوق الخلق، وإنّ من تمام حكمة الله وعدله أن يكون هنالك يوم يُحاسب فيه العباد على ما قدّموه في الحياة الدنيا، فينتصف المظلوم من ظالمه، ويُجزى المُحسنون أحسن الجزاء،[٨] وقال غيره من المفسّرين إنّ النّاس خُلقوا ليعبدوا الله -تعالى- لا لأمر سواه، فهو -تعالى- يُثيبهم على العبادة ويُعاقبهم على تركها، فمعيار عزّتهم في دار الدنيا مرهون بعبادة الله تعالى، فهم إن أحسنوا العبادة رفعهم الله -تعالى- في دار الدنيا وأورثهم إيّاها، وإن تركوا عبادته والتفتوا للدنيا يمشون فيها عابثين لاهين فإنّهم سيستحقّون العقاب في الدار الآخرة، وهذه الآية -كما يرى الإمام القرطبي- شبيهة بقوله -تعالى- في سورة القيامة: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى}،[٩] والله أعلم.[١٠]

وأيضًا ممّا قاله المفسّرون في هذه الآية أنّ فيها قد بيّن الله -تعالى اسمه- أنّه قد فضّل البشر على باقي المخلوقات في أنّهم لم يُخلقوا عبثًا بل خُلقوا لعبادة الله -تعالى- وإعمار الأرض، ولذلك قال تعالى إنّهم -أي البشر- عائدون لا محالة إلى الله -تعالى- ليحاسبهم على ما كسبت أيديهم في الدنيا، وقد ورد في فضل هذه الآية أنّ ابن مسعود -رضي الله عنه- قد قرأها في أذن رجل مبتلى فعافاه الله بفضلها، فيروي الإمام السيوطي أنّ ابن مسعود "قرأ في أذُنِ مُبتلًى فأفاق، فقال له رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "ما قرأتَ في أذُنِه"؟ قال: قرأتُ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} حتى فرغ من السورة، فقال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "والذي نفسي بيده لو أن رجلًا مُوقِنًا قرأ بها على جبلٍ لزال"،[١١] والله أعلم.[١٠]

معاني المفردات في آية: أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا

بعد الوقوف على تفاسير الآية في سورة المؤمنون التي يقول فيها تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}،[١٢] فإنّ هذه الفقرة تقف مع معاني المفردات في هذه الآية من أجل زيادة الإيضاح وزيادة التبيان، وذلك فيما يأتي:

  • أفحسبتم: الحسبان يعني الظن، والظن في القرآن الكريم يأتي على وجه اليقين.[١٣]
  • خلقناكم: الخلق في اللغة يعني ابتداع شيء على مثال لم يكن سابقًا ولم يُسبق إليه.[١٤]
  • عبثًا: العبث هو اللهو واللعب، وهو كلّ أمر لا فائدة منه.[١٥]

إعراب آية: أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا

قبل ختام هذا المقال تقف الفقرة فيما يأتي -بعد الوقوف مع شرح بعض المفردات التي قد تكون مبهمة للقارئ لهذه الآية- مع إعراب قوله تعالى في سورة المؤمنون: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}،[١٦] وذلك فيما يأتي:

  • أفحسبتم: الهمزة للاستفهام الإنكاري، والفاء استئنافيّة، وحسب فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بتاء الرفع، والتاء ضمير متصل مبني في محل رفع فاعل والميم للجمع، والجملة الفعلية بتمامها استئنافيّة لا محل لها من الإعراب.[٨]
  • أنّما: أنّ حرف مشبّه بالفعل مكفوف بما الكافّة، والمصدر المؤول من ما وما بعدها سدّ مسد مفعولي الفعل حسب.[٨]
  • خلقناكم: خلق فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بنا الدالة على الفاعلين، ونا ضمير متصل مبني في محل رفع فاعل، والكاف ضمير متصل مبني في محل نصب مفعول به، والميم للجمع.[٨]
  • عبثًا: حال منصوبة وعلامة نصبها الفتحة الظاهرة على آخرها، ويجوز أن يكون مفعولًا من أجله.[٨]
  • وأنّكم: الواو عاطفة، وأنّ حرف مشبّه بالفعل، والكاف ضمير متّصل مبني في محل نصب اسمها، والميم للجمع.[٨]
  • إلينا: إلى حرف جر، ونا ضمير متصل مبني في محل جر بحرف الجر، والجار والمجرور متعلّقان بالفعل ترجعون.[٨]
  • لا تُرجَعون: لا النافية، وتُرجعون فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو ضمير متصل مبني في محل رفع نائب فاعل، وجملة تُرجعون في محل رفع خبر أنّ،[٨] والمصدر المؤول من أن واسمها وخبرها معطوف على المصدر المؤول السابق فهو مثله.[١٧]

الثمرات المستفادة من آية: أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا

بعد تفسير قوله تعالى في الآية الكريمة: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}،[١٨] والوقوف مع تبيين بعض مفردات تلك الآية والوقوف مع إعرابها فإنّ هذه الفِقرة ختامًا تقف مع ما يمكن إفادته من ثمرات مبثوثة في طيّات هذه الآية:[١٩]

  • أنّ الإنسان هو صنعة قد صنعها الله ووضع لها طريقًا واضحًا ينبغي لها السير فيه، وذلك الطريق هو عبادة الله لا غير، والإيمان به، والإيمان أنّ الله -تعالى- هو أعلم وأدرى بصنعته، ولذلك فالسير في طريق الإسلام والإيمان ينبغي أن يكون بلا نقاش ولا جدال حول حكمة الله من ذلك أو الفائدة التي تُرتجى من هذه المسيرة.
  • أنّ الفساد قد عمّ الأرض حين ظنّ المصنوع أنّه يعلم بقدر علم الصانع، وبذلك صار المصنوع يريد أن يحدّد غايته بنفسه بعيدًا عمّا أوجده الصانع من أجله، وهذا خطأ كبير وعظيم، بل المصنوع قد وجِدَ لتحقيق غاية الصنع فقط، فلو ضُرِبَ مثلًا -ولله المثل الأعلى- أنّ رجلًا قد صنع مكبّر صوت من أجل إيصال الصوت إلى أماكن بعيدة، فإذًا هو قد حدّد الغاية التي ينبغي لمكبّر الصوت العمل بمقتضاها، ولذلك ليس من المنطقيّ أن يعتقد مكبّر الصوت ذاك أنّ له غاية أخرى وعليه أن يبحث عنها بنفسه، وكذلك ليس من المنطقيّ أن يساوي نفسه بمن صنعه ويعتقد أنّ من مهمّته البحث عن غاية صنعه، بل الغاية من الصنع قد وُضِعت قبل الصنع، وكذلك الإنسان فقد وضع الله -تعالى- له الغاية قبل صنعه، وعليه أن يدع الله -سبحانه وتعالى- أن يحدّد له الغاية وأن يضع له المنهج في حياته وكلّ ما على الإنسان فعله هو أن يسير على هذا الدرب الذي رسمه له الله -تعالى- مسبقًا قبل مجيئه إلى الدنيا وقبل أن يخلقه.
  • أنّ الإنسان كلّما ازداد التقدّم العلمي والمدني والحضاريّ من حوله ظنّ أنّه قد استطاع السيطرة على العالم، ولكن في الحقيقة كلّ تلك الأمور والأشياء إن هي إلّا مخلوقات لله تعالى، وبذلك على الإنسان أن يتفكّر من خلالها في قدرة الله وعظمته، وعليه أن يعلم أنّ الله -تعالى- لو أراد أن يسلبه نعمة من نعمه التي أنعم بها عليه لصار عاجزًا؛ كأن يسلبه الله -تعالى- نعمة العقل التي من دونها يصبح الإنسان مجنونًا، أو أن يسلبه الله -تعالى- نعمة الطاقة التي تُحرّك جسمه كاملًا، والتي من دونها لا يستطيع الإنسان حتى أن يتنفّس، فبذلك على الإنسان أن يعلم أنّه محض عبد لله لا أكثر، وتلك مهمّته التي وجد من أجلها، ومن دون رحمة الله تعالى به هو لا شيء وإذا يسلبه نعمة من نعمه يصبح عاجزًا ولا يملك من أمر نفسه شيئًا، والله أعلم.

المراجع

  1. رواه الألباني، في صحيح النسائي، عن عبد الله بن السائب، الصفحة أو الرقم:1006، حديث صحيح.
  2. سورة المؤمنون، آية:1
  3. "التحرير والتنوير - سورة المؤمنين"، islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-14. بتصرّف.
  4. سورة المؤمنون، آية:115
  5. "سورة المؤمنون"، ar.wikipedia.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-14. بتصرّف.
  6. سورة المؤمنون، آية:115
  7. سورة المؤمنون، آية:112-114
  8. ^ أ ب ت ث ج ح خ د "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَٰكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (المؤمنون - 115)"، www.quran7m.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-14. بتصرّف.
  9. سورة القيامة، آية:36
  10. ^ أ ب "تفاسير الآية 115 من سورة المؤمنون"، quran.ksu.edu.sa، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-14. بتصرّف.
  11. رواه السيوطي، في اللآلئ المصنوعة، عن عبد الله بن مسعود، الصفحة أو الرقم:1، الحديث رجاله رجال الصحيح سوى ابن لهيعة وحنش وحديثهما حسن.
  12. سورة المؤمنون، آية:115
  13. "تعريف و معنى حسبان في معجم المعاني الجامع"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-14. بتصرّف.
  14. "تعريف و معنى الخلق في معجم المعاني الجامع"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-14. بتصرّف.
  15. "تعريف و معنى العبث في معجم المعاني الجامع"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-14. بتصرّف.
  16. سورة المؤمنون، آية:115
  17. "الجدول في إعراب القرآن"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-15. بتصرّف.
  18. سورة المؤمنون، آية:115
  19. "تفسير الشعراوي"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-15. بتصرّف.
2679 مشاهدة
للأعلى للسفل
×