محتويات
سورة الأنبياء
هي سورةٌ مكيَّة -أي نزلت في مكة المكرمة- وقد بلغت من الآيات 112 آية، وكان نزولها بعد نزول سورة إبراهيم، وأما ترتيبها بين السُّور فهو الـ21، ويعود سبب تسميتها بسورة الأنبياء إلى أنَّ مُعظم الأنبياء والرُّسل قد ورد ذكرهم فيها، وسبب نزولها أنَّه عندما نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}،[١] فصعب الأمر على كفار قريش كثيرًا، وأتوا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- يُجادلونه في ذلك، فقالوا له: هل هذه الآية اختصت بآلهتنا أم لجميع ما يُعبد من دون الله فأشار النبي أنَّها لكلِّ ما عُبد من دون الله، فظنوا أنَّ الحجة أُقيمت عليه فقالوا: هؤلاء بنو مليح يعبدون الملائكة، والنَّصارى يعبدون عيسى واليهود يعبدون عزيرًا، فأتبعها تعالى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}،[٢] ومن بين الآيات التي وردت في سورة الأنبياء ولا بدَّ من تفسيرها قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ}،[٣] وفيما يأتي سيكون ذلك.[٤]
معنى آية: فجعلهم جذاذًا إلا كبيرًا لهم، بالشرح التفصيلي
إنَّ الرِّسالة السَّماوية التي بعث الله بها أنبياءه من عهد آدم إلى خاتمهم محمد رسول الله -صلى الله عيه وسلم- لم تتغيَّر ولم تتبدَّل، فهي تدعو إلى عبادة الله الواحد الأحد ونبذ ما يُعبد من دونه، وتلك كانت رسالة إبراهيم -عليه السلام- إلى قومه، وقد اتَّخذ إبراهيم منهج التَّدرج في دعوة قومه إلى عبادة الله، فعندما أعرضوا عن كلامه بدأ بإقناعهم بالأفعال، وفي يومٍ خرج قومه إلى عيدٍ من أعيادهم ودعوه للخروج معهم ولكنَّه اعتذر بأمرٍ ما، فقال: {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}،[٥] وانتظر حتَّى خروج قومه وأقبل على الأصنام يُحطِّمها إلّا كبيرهم جعل الفأس عنده،[٦] حيث قال تعالى في سورة الأنبياء: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ}،[٧] واختلفت القراءات في كلمة جذاذًا فقرأها الكسائيُّ والأعمش ويحيى بن وثاب بالكسر باعتبارها جمعًا لجذيذ أو جذاذ بالاستناد إلى علم الصَّرف مثل كريم تُجمع كِرام وخفيف خِفاف، وأمَّا ما أجمع عليه عامَّة الأمصار وهو القول المُرجَّح أنَّها تُقرأ بالضّمِّ، وورد عن أهل السَّلف في نفسير كلمة جذاذ أي قطعًا وهو ما قال به قتادة، وأمَّا مجاهدٌ فقد قال جذاذًا أي مثل الصَّريم.[٨]
ومما كان دافعًا عظيمًا لإبراهيم لفعلته تلك هو دعوة أبوه له؛ ليذهب لحضور عيدٍ لهم، فقال له: إن حضرت عيدنا أعجبك ديننا وانصرفت عمَّا تدعوننا إليه، ولكن في الطَّريق وأثناء ذهابهم خارج أرضهم لحضور العيد اشتكى إبراهيم رجله وقال إنِّي سقيم، ولمَّا ولَّى القومُ وبقي ضعاف النَّاس قال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}،[٩] فسمع تهديده من كان قد بقي من النَّاس، وانصرف إبراهيم إلى المعبد أو دار الآلهة فوجد بهوًا عظيمًا، وفي صدر البهو صنمٌ عظيم وإلى يمينه ويساره أصنامٌ هي أصغر منه وتليها أصغر وأصغر حتى باب البهو الذي يقف فيه، وإذا بالطَّعام بين يدي الآلهة قد وضعه القوم بغية مباركة الآلهة له، فإذا رجعوا من عيدهم أكلوا وشربوا، فعمد إبراهيم إلى فأسٍ وبدأ بكسر كلَّ صنمٍ من حافَّتيه، ثمَّ عمد إلى الفأس فجعلها في رقبة كبيرهم أو قيل أنَّه أسندها إلى صدره وكأنَّه هو من قام بتحطيم باقي الأصنام، {إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ}، أيّ إلَّا أعظم آلهتهم لم يمسّه بسوء وهو قول ابن عباس -رضي الله عنه- وأمَّا مجاهد فقال أنَّه أسند الفأس إلى صدر كبير الآلهة الذي لم يحطمه لغايةٍ في نفسه، وقال ابن إسحاق أنَّ إبراهيم ربط الفأس ربطًا بيد عظيم الآلهة ثمَّ ترك كلَّ ذلك وخرج من البهو وكأنَّ شيئًا لم يكن.[٨]
معاني المفردات في آية: فجعلهم جذاذًا إلا كبيرًا لهم
إنَّ المُتَتبع لتفسير آيات كتاب الله والوقوف على معانيها وقوفًا تفصيليًّا، لا بدَّ له وأن يلتمس من المعاجم ما يُعينه على ذلك، فحتَّى لو كان على اطلاعٍ بكتب التفسير وما جاء به أهل التَّأويل فلا بدَّ له من النَّظر في معاجم اللغة؛ إذ إنَّهما شقَّان لا ينفصلان عن بعضهما خاصَّةً وأنَّ كتاب الله -سبحانه- جاء معجزًا باللغة، وفيما يأتي سيتم شرح مفردات الآية الكريمة بالاستناد إلى معجم المعاني في اللغة العربية:
- فجعلهم: جعل أي صيَّر، أو أنشأ أو عَمِل أو خلق، فيُقال الله جاعل كلَّ شيءٍ أي خالق كلّ شيء، وفلانٌ جعل متاعه فوق بعضه أي ألقى متاعه فوق بعضه، وقد تأتي بمعنى ظنَّ، هذا الرَّجل جعل بغداد بابل أي ظنَّ.[١٠]
- جذاذًا: أي قطعًا مُكسَّرة، فيُقال قطع الصَّنم جُذاذًا أي قطعًا، وجُذاذ الصَّخر هو القطع المكسورة منه، والجُذَاذ هي قطعة الفضة الصغيرة، ويُقال هذا جذاذ الجدار أي ترابه وحُطامه.[١١]
- كبيرًا: تُستخدم كلمة كبير في كثير من المواضع، فإذا كان الشيءُ عظيمًا فيُقال عنه كبير، وإذا كان الموظَّف كبيرًا فيُقال عنه عالي الرتبة أو المقام، وكبير القوم هو الشَّخص الأعلى شأنًا والأبرز قدرًا.[١٢]
إعراب آية: فجعلهم جذاذًا إلا كبيرًا لهم
وبعد أن تمَّ الوقوف مع الآية من حيث ما أفاده علماء أهل التفسير والتأويل، ومن ثم النَّظر بما جاء به أهل اللغة من معاني المفردات، لا بدَّ من الاطلاع على ما وقف عليه علماء النحو والإعراب، وخاصَّةً أن هذا العلم يحتل مرتبةً متقدمةً بين مراتب علوم اللغة العربية، وبه يتمكن المرء من فهم الكلام على الوجه الدَّقيق الذي أُريد به، وفيما يأتي سيتمُّ تفصيل ذلك:[١٣]
- فجعلهم: الفاء استنئنافية، جعلهم: فعل ماض مبني على الفتحة الظاهرة على آخره، والهاء ضمير متصل مبني في محل نصب مفعول به، والميم للجماعة.
- جذاذًا: مفعول به ثان للفعل جعل منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره.
- إلا: أداة استثناء.
- كبيرًا: مستثنى بإلا منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره.
- لهم: جار ومجرور متعلقان بصفة منصوبة من كبيرًا.
الثمرات المستفادة من آية: فجعلهم جذاذًا إلا كبيرًا لهم
إنَّ كلمات الله -سبحانه- وآياته مليئةٌ بالثمار التي تجعل من متدبِّر تلك الآيات نقي الرُّوح صافي القلب هادئ البال، وقد اجتهد علماء القرآن في استخراج تلك الثمرات ومن بينها ثمرات في قوله تعالى فجعلهم جذاذًا إلا كبيرًا لهم، وفيما يأتي سيتمُّ الوقوف على كلِّ ذلك:
- إنَّ الله تعالى قال في الآية الكريمة كبيرًا لهم ولم يقل كبيرًا أو الكبير، وفي ذلك تبيينٌ إلى أنَّ كلَّ مبغوضٍ عند الله -سبحانه- لا تُطلق عليه ألفاظ التَّكريم أو التَّعظيم، وقد كان ذلك في خطاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعظماء الملوك فيقول لهم مثلًا إلى عظيمِ الفرسِ ولا يقول إلى العظيم؛ وذلك لأنَّه عظيمٌ عندهم فقط وليس عظيمًا عند سواهم.[١٤]
- لا بدَّ للنبي الذي اختاره الله -سبحانه- لتبليغ رسالته من أن يتحلَّى بالشَّجاعة في قول الحقِّ وفعله، فلا يكون خائفًا من قومه أو خجولًا في رسالته التي كلَّفه الله بتبليغها، وقد كان يعلم إبراهيم أنَّ قومه لن يتركوه ينجو بفعلته -من تحطيم الأصنام- ولكنَّه كان يُؤمن بالقضاء خيره وشرِّه، وأنَّهم لن يستطيعوا أن يفعلوا معه ما لم يُقدِّره الله له.[١٥]
- بدأ إبراهيم دعوته بالكلام الطَّيب واللفظ الحسن والحوار العميق مع من يدعوهم إلى عبادة الله دون كللٍ أو ملللٍ خاصَّةً مع والده الذي كان مؤمنًا ومواليًا للأصنام وعبادتهم، فكان بتلطَّف في قوله معه ويحاججه بالأدلة والبراهين؛ خوفًا من أن يلحقه شيءٌ من عذاب الله، لكنَّ القلب الذي تعوَّد الصدود ولم يعتد النُّور لن يستطيع تقبل حياته دون عبثٍ وفساد، فما كان من إبراهيم إلَّا أن يتعرَّض للأصنام التي يعبدوها ويلحق بها الأذى؛ حتَّى يبيِّن لهم ضعف من يطلبون منه القوَّة، والجدير بالذِّكر أنَّ إبراهيم لم يتعرَّض لأحدٍ من قومه بالكلام الفاحش أو بالشتم أو بالضَّرب، فهو لم يرد من فعله إيذائهم بل أراد أن يُبيِّن لهم ضعف ما يتَّبعون، وقال القرطبي في ذلك: "إنه لم يكتفِ بالمحاجَّة باللسان، بل كسَّر أصنامهم فعلَ واثقٍ بالله تعالى، موطِّنٍ نفسَه على مقاساة المكروه في الذب عن الدين."[١٦]
- إنَّ الدَّعوة إلى دين الله العظيم لا تحتاج إلى أقوال فقط، بل لا بدَّ في وقتٍ من الأوقات أن يتمَّ إلحاق القول بالفعل، وهو ما فعله إبراهيم -عليه السلام- عندما عمد إلى تحطيم الأصنام وتكسيرهم، وذلك مما كان يحتاج إلى جرأةٍ عظيمةٍ لا يستطيع التَّحلي بها إلا من كان يستند إلى ركنٍ قويٍّ وهو الله جل جلاله.[١٧]
المراجع
- ↑ سورة الأنبياء، آية:98
- ↑ سورة الأنبياء، آية:101
- ↑ سورة الأنبياء، آية:58
- ↑ "سورة الأنبياء"، ar.wikipedia.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-04. بتصرّف.
- ↑ سورة الصافات، آية:89
- ↑ "دعوة إبراهيم عليه السلام في القرآن"، saaid.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-05. بتصرّف.
- ↑ سورة الأنبياء، آية:58
- ^ أ ب " تفسير الطبري تفسير سورة الأنبياء القول في تأويل قوله تعالى " وتالله لأكيدن أصنامكم ""، islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-05. بتصرّف.
- ↑ سورة الأنبياء، آية:57
- ↑ "تعريف و معنى فجعلهم في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-05. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى جذاذ في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-05. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى كبير في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-05. بتصرّف.
- ↑ "كتاب: الجدول في إعراب القرآن"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-05. بتصرّف.
- ↑ "فوائد الجزء لـ (17) ضمن مشروع #غرد_بفوائد_كتاب #تفسير_السعدي"، www.saaid.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-05. بتصرّف.
- ↑ "دعوة إبراهيم عليه السلام في القرآن"، saaid.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-05. بتصرّف.
- ↑ "فقه التدرج في دعوة إبراهيم عليه السلام"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-05. بتصرّف.
- ↑ "الجرأة في قول الحق وتأييده"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-05. بتصرّف.