محتويات
معنى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه
شهر رمضان غُرَّة أشهر السَّنة وأفضلها وأكثرها أجراً؛ فقد جعله الله - سبحانه وتعالى- شهر الصِّيام، وقد ورد قول الله -تعالى- في سورة البقرة عن شهر رمضان: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)،[١] ويتناول هذا المقال شرح هذه الآية الكريمة، والأحكام المستنبطة منها.
تشير الآية الكريمة إلى شرط وجوب الصِّيام على المسلمين؛ وهو أن يشهد المسلم شهر رمضان، فمن علم بدخول شهر رمضان المبارك وكان صحيحًا مقيمًا غير مسافرٍ وجب عليه صيامه، سواءً نوى الصِّيام أو الإقامة بعد ذلك، وجاء عن ابن عباس -رضي الله عنه- في تفسير هذه الآية قوله: "إذا شهدت أوله في المصر فصُّم، وإن سافرت"، والمراد من معنى شهد الشَّهر في الآية الكريمة هي حضور الشَّهر.[٢]
وكانت هذه الآية قد نزلت بعدما فرض الله -تعالى- الصِّيام على المسلمين؛ فقد أمر رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- المسلمين عندما قَدِم إلى المدينة أن يتطوَّعوا بصيام ثلاثة أيامٍ من كلِّ شهرٍ، ثمَّ فرض الله -تعالى- عليهم صيام شهر رمضان، فكان يجد بعضهم مشقَّةً من صيامه لا سيما وأنَّهم لم يعتادوا الصِّيام قبل ذلك، فعمد بعضهم ممَّن وجد مشقَّةً في الصِّيام إلى إطعام مسكينٍ عن كلِّ يومٍ بدل الصِّيام لقول الله -تعالى-: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}،[٣] فأنزل الله -تعالى- بعدها قوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}،[١] فصام بعد هذه الآية جميع المسلمين.[٤]
وقال بعض المفسِّرين إنَّ الآية التي تقتضي وجوب الصِّيام بحضور الشَّهر قد جاءت ناسخةً للحكم الذي سبقها وهو التخيير بين الصِّيام أو إخراج الفدية،[٤] وخلاصة القول في معنى قوله -تعالى-: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}،[١] هو أنَّه من كان حاضرًا ومقيمًا في أرضه في شهر رمضان المبارك وجب عليه الصِّيام فيه، حيث جاءت كلمة الشَّهر في الآية منصوبةً؛ لأنَّها ظرفٌ يدلُّ على الزَّمان، وهو شهر رمضان، والضَّمير في قوله -تعالى-: {فَلْيَصُمْهُ}،[١] يدلّ على الظَّرفيَّة أيضًا، والمقتضى من ذلك هو الصِّيام في الشَّهر المحدّد.[٥]
الأحكام المستنتجة من الآية
دلَّت الآية الكريمة على العديد من الأحكام والتي تتلخَّص فيما يأتي:
- المسلم المقيم بالحضر الذي يدرك شهر رمضان وجب عليه الصِّيام.[٦]
- المسلم الذي يدرك شهر رمضان وهو مقيمٌ ثمَّ يسافر؛ فقد ذهب الكثير من الصَّحابة والفقهاء إلى أنَّه إذا سافر في شهر رمضان فيجوز له أن يفطر؛ إذ إن الآية تفيد أن الصيام في شهر رمضان كلّه يكون لمن شهده كلّه، ومن لم يشهد الشهر كاملًا فعليه صيام ما شهد منه من الأيَّام، واستدلُّوا على ذلك بما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- لمَّا خرج في عام الفتح إلى مكَّة المكرَّمة صام حتى بلغَ موضعًا يُقال له الكديد، فأفطر وتبعه النَّاس على ذلك، وذهب بعض العلماء وهو قول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- إلى أنَّه لا يجوز الفطر لمن كان مقيمًا ثمَّ سافر.[٦]
- الصيام في شهر رمضان لمن كان حاضرًا يقتصر على بعض المُكلّفين دون غيرهم، فهو على المقيم دون المسافر.[٧]
- الصيام واجب على من شهد الشهر وهو مكلّف بالعبادة، فلا يصح الصيام من مجنون ولو كان قد شهد الشهر؛ إذ إنه غير مُكلّف بالصيام، ويدخل في ذلك كل من لا يعدّ من أهل التكليف، فهم لا يلزمهم الصيام وحكمهم كحكم من لم يشهد شهر رمضان.[٧]
تكملة آية: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"
فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر
أتمَّت الآية الكريمة الحديث عن الصِّيام، فاستثنت من الصِّيام صنفين من النَّاس؛ وهم المرضى الذين يرجى شفاء مرضهم والمسافرين، وذلك ضمن الشُّروط التي بيَّنها الفقهاء، فمن أفطر في شهر رمضان لوجود مثل هذه الأعذار فعليه القضاء أيامًا أخرى في غير شهر رمضان، سواءً أفطر يوماً أو أفطر الشَّهر كلَّه، ويكون القضاء بعد انقضاء شهر رمضان المبارك، ولا يشترط أن يكون قضاء الأيام التي أفطرها الصائم متتابعاً، وإن كان يستحبُّ ذلك، إلَّا أنَّه يجوز له أن يقضيها من غير تتابع ومتفرقةً متى شاء.[٨] كما يُفضَّل المبادرة في القضاء بعد يوم العيد، فهو الأمثل؛ وذلك للمسارعة في إبراء الذمَّة، ولا شيء على من أخّر القضاء إلى ما بعد العيد شريطة أن يتمَّ القضاء قبل دخول شهر رمضان من العام الآخر.[٨]
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر
بيَّن الله -تعالى- سبب هذا الاستثناء للمريض والمسافر وإعطائهم رخصةَ الفطر؛ وهو أنّ الله -تعالى- يريد بعباده اليُسر والسُّهولة في الأمر، ولا يريد أن يجعل الأمر شديداً وضيِّقًا عليهم،[٩] وقد استنبط الفقهاء من قول الله -تعالى-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}،[١] قاعدةً فقهيَّةً يكثر الأخذ بها في الإفتاء، وهي: "المشقَّة تجلب التَّيسير"، وقد جاء في كتاب الله -تعالى- الكثير من الآيات التي تدلُّ على المعنى ذاته وتهدف إلى رفع الحرج عن المسلمين، ومنها قول الله -تعالى-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}،[١٠] وقوله -تعالى-: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}،[١١] وغيرها من الآيات.[١٢]
ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون
يقصد بإكمال العدَّة أي عدَّة الإفطار بعد زوال السَّبب في الرُّخصة؛ كالبَرَأ من المرض، والمراد من ذلك هو إكمال العدَّة في قضاء الأيَّام التي أفطر المسلم بها،[٩] وقوله -تعالى-: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ}،[١] أي ليكون ذلك تعظيماً لله -تعالى- على فضله الذي منَّ به على عباده بتعليمهم شرائع الدِّين، وهو قول ابن عباس -رضي الله عنه-، وقال جمعٌ من العلماء إنَّ المقصود بذلك هو التَّكبير في ليلة عيد الفطر، وقوله -تعالى-: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}،[١] أراد بذلك رخصة الفطر،[١٣] ويعدُّ التَّكبير في ليلة العيد سنَّةً، وقد عدَّ العلماء التَّكبير في عيد الفطر آكدَ من غيره؛ لأنَّ الله -تعالى- أمر به عباده كما تبيَّن في الآية السَّابقة.[١٤]
المراجع
- ^ أ ب ت ث ج ح خ سورة البقرة، آية:185
- ↑ مكي بن أبي طالب، الهداية الى بلوغ النهاية، صفحة 6055. بتصرّف.
- ↑ سورة البقرة، آية:184
- ^ أ ب السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، صفحة 432. بتصرّف.
- ↑ الزمخشري، تفسير الزمخشري، صفحة 428. بتصرّف.
- ^ أ ب أبو محمد البغوي، تفسير البغوي، صفحة 199. بتصرّف.
- ^ أ ب الجصاص، أحكام القرآن للجصاص، صفحة 224. بتصرّف.
- ^ أ ب حمد الحمد، فقه الصيام والحج من دليل الطالب، صفحة 2. بتصرّف.
- ^ أ ب الواحدي، التفسير الوسيط، صفحة 282. بتصرّف.
- ↑ سورة البقرة، آية:286
- ↑ سورة الحج، آية:78
- ↑ مصطفى العدوي، دروس للشيخ مصطفى العدوي، صفحة 9. بتصرّف.
- ↑ الواحدي، التفسير الوسيط، صفحة 283. بتصرّف.
- ↑ مجلس الدعوة والإرشاد ، من أحكام العيدين والكسوف، صفحة 16. بتصرّف.